قصة الماء والكهرباء في شفاعمرو



عانت شفاعمرو وعلى مر العصور من شح الموارد المائية فيها، فهي تقع على منطقة تحيطها التلال من كل جانب... الا انه ومع كل ذلك فقد حباها الله بعدد كبير من العيون والينابيع، كانت تكفي في ذلك الوقت لتزويد البلدة بمياه الشرب والبعض منه كان يستعمل لري أراضيها القريبة منها، واذكر على سبيل المثال أسماء بعض الينابيع 1- العين  2- النبعة  3- الفوّار 4- صفتعادي  5- عيون أم حميد  6- عين عافية  7- رأس العين  8- البص  9- كردانة...
ولكن الحاجة إلى الماء كانت تزداد من سنة إلى أخرى مع ازدياد عدد السكان وخصوصا أيام الصيف القائظ، حيث يزداد الطلب على الماء ويزداد استهلاكه، ولم تكن هذه الينابيع لتكفي حاجة السكان، إذ سرعان ما تجف أو يخف ماؤها إذ لم تكن مياها ارتوازية عميقة، إنما كانت تخرج من سطح الأرض وخصوصا في أيام الشتاء عندما تفيض الأرض عن حاجتها...
كان الناس في الماضي ينقلون الماء على ظهور الحيوانات كالبغال أو الحمير في صفائح من التنك أو في "ظروف" من جلود الماعز... كان استعمال الماء في أساسه للشرب والبعض منه للاغتسال ولغسل الأواني والملابس والثياب... لم تكن هناك وخصوصا في القرى دورات للمياه في داخل البيوت، وعليه فان استهلاك الماء أو تبذيره كان قليلا جدا ينبع من الحرص عليه نظرا للمشقة في حمله ونقله من منابعه إلى أماكن السكن...
وعندما تولى المرحوم والدي رئاسة بلدية شفاعمرو عام 1933 ، بعد وفاة رئيسها الأول المرحوم داؤد التلحمي واجه مشاكل رئيسية عدة، ولعل أصعبها كانت قلة ماء الشرب... وكان الإنسان قد ابتدأ في صناعة الآلات البخارية واستغلال قوتها كصناعة القاطرات والسفن التجارية والسيارات والماكنات، فاستعان بهذه الاختراعات الحديثة  لحل هذه الأزمة فاشترى ماتورا لضخ الماء من "العين" أكبر ينابيع البلدة (موقع الاطفائية الحالي) إلى مركز البلدة المرتفع وأقام شبكة من المواسير تربط البلدة أو بالأحرى حاراتها وتوصل المياه إليها... وفي بداية هذا المشروع الضخم (الضخم في تلك الأيام، السهل في أيامنا هذه!!) لم يكن الماء قد وصل إلى داخل البيوت بعد بل بقي خارجها، وأقيمت في كل حارة مجموعة من الحنفيات يقف عليها رقيب أو مسؤول ينظم توزيع الماء وخصوصا بين النسوة المتنافسات على الحصول عليه... وقد فرضت في السنوات الأخيرة رسوم زهيدة على كل تنكة ماء يشتريها أصحابها على شكل تذاكر "بوليتات" ويحصلون بموجبها على تنكة ماء مقابل كل "تذكرة" ومن يستطيع توفير هذا المبلغ الزهيد كان يوفر على نفسه أو على أهله مشقة حمله من العين...
ومع تقدم السنين ومعها تقدمت حياة الرفاهية أخذت المياه تدخل البيوت عن طريق الأنابيب ودورات تجهيز المياه، فاشتد استهلاك الماء وازداد الطلب عليه، مما سبب أزمة حادة وخصوصا أيام الصيف أخذت البلدة تشعر بالعطش... كان لا بد من حل...
ولم يستغرق إيجاد الحل طويلا، فالطريقة الوحيدة المتاحة أمامهم كانت تخصيص سيارة شحن على ظهرها "تنك" tank)) لنقل الماء من كفرتا القريبة وقد حفر المستوطنون اليهود آبارا خاصة بهم وأذكر أن احد أصحاب هذه الآبار وكان يدعى أهرون ابرامسكي، ومع أن سيارة الشحن كانت غائدة رائحة طيلة ساعات النهار تنقل الماء من كفرتا وتصبه في العين القديمة لترفعه الماتورات إلى أعلى البلدة، إلا أن هذه الطريقة لم تحل المشكلة نهائيا بل بقي نقص المياه في البلدة نقصا حادا يشتد في كل صيف... ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فكان أن علم والدي ان قرية الطيرة القريبة من حيفا تعاني كشفاعمرو من أزمة مياه حادة وكانت تربطه علاقة صداقة حميمة مع مختار البلدة عبدالله السلمان (أبو الوجيه)، ذلك الرجل الطيب وكما تقتضيه الشهامة العربية والفلسطينية بشكل خاص قام بتخصيص بعض سيارات الماء لهذه البلدة...
وكان والدي يجري العديد من الاتصالات مع سلطات الانتداب البريطاني بشكل متواصل منذ سنة 1935 يحثهم على تأمين ماء الشرب لشفاعمرو، وكانت سلطات الانتداب كعادتها تماطل وتماطل في كل مشروع إلى أن غادرت فلسطين عام 1948 ، بعد ثلاثين عاما من حكمها دون أن تحل مشكلة الماء في شفاعمرو وقد حدثت نفس هذه المماطلة في مشروع الكهرباء كما سيرد ذكره في سياق هذا المقال... وقد تأكد والدي من حقيقة هذه المماطلة الخبيثة والمتعمدة، بعد قيام دولة إسرائيل، إذ قامت هذه الدولة رغم حداثة عهدها، باستحضار أكبر علماء الجيولوجيا والمياه، البروفيسور لاودرميلك على ما أذكر، أجرى مسحا شاملا لمصادر المياه المحيطة بشفاعمرو واكتشف!! أن شفاعمرو "تجلس" على نهر فياض من الماء العذب إن لم يكن بحرا!!... بينما لم تتمكن بريطانيا العظمى من اكتشافه!!... وقامت آلياتهم بحفر البئر الأولى وانفجر الماء كالصاروخ الصاعد إلى الجو... كان الأمر بالنسبة لنا مذهلا ويصعب على التصديق... لقد كنا كل هذه السنين نجلس على بحيرات وأنهار من الماء العذب ونحن لا ندري!!... وقد كان ينطبق علينا قول الشاعر مع بعض التحريف:
"كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ        والماء "تحت" ظهورها محمول"
واعتقد والدي في بداية الأمر أن "نعمة الماء" قد حلت على البلدة وأن هذه الدولة "الراقية" والمتطورة سوف تسلم هذه "البئر" إلى أصحابها الشرعيين!!... وكم كانت خيبة أمله كبيرة عندما علم فيما بعد أن إسرائيل قد "امّمت" كل المشاريع الكبيرة والحيوية في البلاد مثل مشروعي الماء والكهرباء وسلمتهما إلى شركات احتكارية حكومية شبه رسمية، والأنكى من كل ذلك أنها منحتهما امتيازا مطلقا (مونوبول) على هذه المشاريع وعبثا حاول والدي "استرداد" هذا الحق السليب!!... وتزداد خيبة أمله وكاد يسقط بيده عندما طلبت منه هذه "الحكومة "المتنورة" أن يدفع ثمن "حقوق" المياه إن كانت البلدة تريد أن تستعملها أو تشرب منها!!... رغم أن الماء من أرضها وفي أرضها!!...
كانت البلدة تعاني من العطش وكانت تعاني نقصا شديدا في الموارد المائية وكان لا بد من تدبير "الجزية" المفروضة على البلدة بأي شكل من الأشكال كي تتمكن من التخلص من هذه الأزمة الخانقة... وحصلت البلدة على قروض!!... وليس على مساعدات كما ادعوا أمام  العالم كذبا وبهتانا بأن شفاعمرو حصلت على أموال من النقطة الرابعة (تبين فيما بعد أنهم أخذوها هم كما أخذوا غيرها) قام والدي بتكذيبها، على صفحات الجرائد، جملة وتفصيلا...
وارتبطت شفاعمرو بمشروع المياه القطري "مكوروت" كما سمته اسرائيل وكان ذلك عام 1954 وتخلصت البلدة من العطش...
وتستمر الصعوبات والكفاح المرير المفروض على هذا الشعب... كان لا بد من بناء خزان كبير جديد للماء، وقد كان الخزان القديم يقع في أرضية السرايا... كان عميقا ولا يصل الماء إلى البيوت المرتفعة من البلدة... وخزان حديث كهذا يكلف مبالغ طائلة تعجز البلدية عن تأمينها!!... والموارد قليلة والإمكانيات شحيحة (وليس كمثل هذه الأيام)!!... ولكن كان لا بد من تدبير هذا المال، العزيز الوجود، وإلا بقيت البلدة تعاني من العطش... وبشق الأنفس وبالصبر والتقتير يقف الخزان هذا اليوم بجانب السرايا شاهدا على هذه الأهوال!!...
وكأن مقارعة الاسرائيليين ومظالمهم لا تكفي فيخرج المعارضون لهذا المشروع "الحيوي"، ولكل مشروع!!، بمعارضتهم إلى الشوارع وتوزع المناشير المليئة بالتحريض، ولكن حاجة الناس للماء وللشرب ولري العطش كانت أقوى من كل معارضة... وها هم اليوم يقبلون بظلم مكوروت صاغرين!!...
وما أن تخرج شفاعمرو من مشكلة الماء حتى تقع في مشكلة الكهرباء... ولم تكن هذه المشكلة بأقل صعوبة وكان والدي قد أجرى اتصالات مع حكومة الانتداب البريطاني لربط البلدة بشبكة الكهرباء منذ عام 1936 ولكنها ماطلت وماطلت كما في قضية الماء والى ما بعد الحرب العالمية الثانية ومن ثم الى حين مغادرة الانكليز لفلسطين لتبقى شفاعمرو بدون كهرباء...
وللحقيقة والتاريخ أقول هنا بأنه كرس كل همه وجهده لتطوير البلدة في شتى المجالات بعد زوال الحكم التركي البغيض عنها وبعد أن خرجت لتوها من دياجير الظلام لتدخل ظلم الانتداب البريطاني الذي كان أمر وأدهى... وكما ذكرت في مكان سابق من هذا المقال قامت حكومة الانتداب البريطاني على فلسطين كعادتها بالمراوغة والمماطلة المتعمدة... وصدف أن اجتاحت البلاد في ذلك التاريخ ثورة عارمة شكلت ذريعة جيدة للانكليز بتأجيل المشروع إلى حين الإنتهاء من الثورة وكأن قضية فلسطين سوف تنتهي في سنة أو سنتين وكأن تطويرها مرتبط بالثورة!!...
وما ان انتهت الثورة عام 1939، والحقيقة أنها لم تنته بل أنهاها الزعماء العرب بحجة اندلاع الحرب العالمية الثانية في تلك السنة لإتاحة المجال أمام بريطانيا العظمى للتفرغ لشؤون الحرب وتوقف البحث في مشروع ربط شفاعمرو بشبكة الكهرباء... وما أن وضعت هذه الحرب أوزارها عام 1945 حتى عاد والدي إلى تجديد الطلب... ولكن المشاكل بدأت تزداد حدة في فلسطين مما عجل في رحيل الانتداب البريطاني قبل أن ترى شفاعمرو النور وما أن حلت دولة إسرائيل حتى عاد والدي بمطالبتها بالكهرباء ولم تكن الحكومة الإسرائيلية إلا أشد دهاء من سابقتها الانكليزية... ولكن دهاءهم في المماطلة هذه المرة كان أمر وأدهى... وضعوا المال عقبة في تنفيذ المشروع... كان المبلغ المطلوب أكبر مما تستطيع البلدية أن تتحمله... كان باهظا في ذلك الوقت وان كان يعتبر زهيدا بمقاييس اليوم!!...
كانت مشكلة الكهرباء أقل إلحاحا من مشكلة الماء مما أتاح لوالدي فرصة الوقوف والصمود في وجه طلباتهم الجائرة والتصدي لمطالبتهم بدفع تكاليف الشبكة الباهظة الثمن سلفا والتي قدروها على مزاجهم!!... وكان جدال والدي معهم على أساس أنّى له أن يعرف أن هذه التكاليف صحيحة وهم شركة احتكارية لا منافس لها وأذكر مما قاله لهم: "انتم مثل جحا الذي سألوه أين يقع مركز الأرض فأشار حيث يقف وقال هنا ومن لا يصدق يستطيع أن يقيس"!!...
ونجحت مساعيه في إقناع شركة الكهرباء بمد الشبكة أولا وإنارة الشوارع ثانيا ثم الطلب من الأهالي الدفع لاحقا عندما يتقدمون لربط بيوتهم بشبكة الكهرباء... اذ كيف يكون الدفع قبل الاستلام؟!... وكانت برأيي هذه براعة من جانب والدي وأعجوبة في إقناع شركة احتكارية كهذه!!...
ورغم هذا الانجاز والذي كان يعتبر في وقته انجازا ضخما حيث تم ربط شفاعمرو بشركة الكهرباء عام 1957 وكانت أول بلدة عربية ترتبط بالكهرباء في إسرائيل، إلا أن كل هذا لم يقنع تلك "المعارضة" التي خرجت هذه المرة أيضا إلى الشوارع والتجأت إلى نفس اسلوب المناشير لتعارض هذا المشروع!!... ثم كانوا أول من اوصل الكهرباء الى بيوتهم!!...
ومن أغرب الأمور التي تجري في الوسط العربي أحيانا ولا نفهمها حتى الآن أن هناك من يعارضون حتى مصلحتهم!!... ولما عارض السيد شمعون لندمان، مدير عام وزارة الداخلية في ذلك الوقت، مشروع كهرباء شفاعمرو، كان بإمكان والدي أن يتصدى له ويرد عليه متهما اياه بعدم رغبة الحكومة في تطوير قرانا العربية وعليه هاجمه في الصحف قائلا:  "ان السيد لندمان لا يحب النور بل يحب الظلام ويريد لنا أن نبقى في الظلام"!!...
أما أن يقوم مواطنون حرموا من الكهرباء طيلة سنين طويلة وتحملوا صعوبة العيش بدونها ويعارضون ذلك فهذا أمر غريب!!... تأملوا اليوم من منا يستطيع أن يتحمل قطع الكهرباء ساعة واحدة أضف إلى ذلك أن تكاليف الربط في ذلك الوقت كانت زهيدة جدا لا تكاد تذكر بالنسبة لتكاليف اليوم التي ندفعها راضين صاغرين!!...
ومع التخلص من مشكلتي الماء والكهرباء نشأت مشكلة جديدة، أخذت المياه "الفائضة" في البيوت تشكل صعوبة بالغة للعائلات وكانت هناك حاجة ماسة لصرفها ولا توجد في البلدة أدنى مقومات الصرف الصحي سوى آبار(الجمع)...
كان ذلك عام 64/1965 على ما أذكر حيث أقدم والدي، بكل جرأة، كعادته على اقتحام مشروع جديد ضخم لم يخطر على بال أية قرية عربية أن تفكر أو تحلم به من قبل... فكر في إنشاء خط مجار!!!... ولم يخش تكاليفه الباهظة لعلمه بأهميته وحيويته رغم أن الحكمة والحرص على صرف أموال البلدية كانت هدفا من أهدافه... فقام بالاتصال مع شركة الهندسة المشهورة "ألون يلوز" وقاموا بتحضير الخرائط وأقدموا على تنفيذ المشروع وأوكل إلى المقاول فضل نعامنة (ابن قرية عرابة) الذي أصبح رئيسا لمجلسها المحلي فيما بعد، بتنفيذ المشروع... وقد كان خطا جبارا يمتد على مسافة 3 كيلومترات من شرق البلدة ويصب في غربها... وقامت قائمة هؤلاء "المعارضين" مرة ثالثة وهذه المرة ضد مشروع المجاري وكما في كل مرة خرجت المناشير "السامة" تقول ان جبور "دفن 100 ألف ليرة (تكاليف المشروع في ذلك الوقت)  في التراب"!!...
ومن أطرف ما حدث انه عندما قام المرحوم ابراهيم نمر حسين (أبو حاتم) بتكملة المشروع والذي بدأه والدي أصلا ووضع بنيته التحتية الأساسية إلا أن خروجه إلى التقاعد لم يمهله على تكملته... حدّث المهندس المشرف عن المشروع المذكور وعن دفع جبور 100 ألف ليرة اتهمه بعض المعارضين أنه دفنها بالتراب فأجابه هذا المهندس الذكي: "قل لهم يا ليته دفن أضعاف هذا المبلغ لكان وفر عليهم 100 مليون ليرة تكاليف هذا المشروع على حساب اليوم ولربما وصل المبلغ إلى أكثر من ذلك...
وللتاريخ أذكر أن ها هي شفاعمرو اليوم تنعم بوصول الماء والكهرباء الى كل بيوتها وأحيائها بفضل تضحيات رؤسائها المخلصين الغيورين عبر السنين ومؤازرة أهلها الخيرين... 

إلياس جبور جبور*
الخميس 24/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع