بالسعادة نقاوم أيضاً



هو قطار، هم خمس نساء ورجل واحد، حسن البطل وأنا في مقعدين متجاورين، في الصف الثالث من الـمقاعد، هي صولة تصدٍّ ومقاومة أخرى، ضد الـمجزرة التي يرتكبها الاحتلال يومياً ضد جماليات حياتنا ورقيّ أرواحنا، منذ متى نحن هنا؟! أول الواصلين دائماً وأول الهاربين من الحشود! لـماذا ترهقنا الحشود يا حسن؟ من نحن؟ أقطاران نحن، نحمل في مقطورات روحينا حقائب شاهقة لسفر طويل، بدايته هي نهايته، حقائبه هي أثاثه؟ أسافر مع صديقي إلى العالـم وأنفسنا عبر الـمسرحيات والأفلام والعروض الراقصة ومعارض الفن التشكيلي، لن تكتمل مشاهداتي للعروض الراقصة هذا الأسبوع دون وجود هذا الكهل الـمشّاء الناهض، الذي يتفنّن في التفرج كما في الكتابة.
للقطار في ذاكرتي مقعد شاغر منذ ملايين السنين، أملؤه بالحلـم، أؤثثه بالأمنيات والنساء الغريبات والكراهية والطفولة والخوف، ما زلت أحلـم بأنني أركب قطاراً طويلاً بلا حدود بلا سائق بلا ركاب ... يشق طريقه وسط غابة غزيرة، لأكتشف بعد الصحو الخائن أنني أنا السائق والركاب والأمتعة والسكة والغابة والـمحطة الأخيرة، أما الـمفاجأة الكبرى فهي أنني بكل محمولاتي مصنوع من حروف وحروف.
مساء الأحد، هناك في القصبة، كان ثمة قطار يمشي، ينام، ينهض، يتوقّف، يُنزل ركاباً ويلتقط آخرين، بلا كلام، بالأجساد فقط قال الراقصون الستة الكثير، ركاب الصدفة الـمذهولون، فوجئوا بمصائرهم تتوحّد، هم موجودون في مكان واحد، ذاهبون إلى اللامكان واللازمان، يهتزّون مع اهتزازات القطار، يحاولون استيعاب بعضهم. أهي دعوة إلى التفاهم والتفهم، إلى الحب؟ يتقاتلون، يتحابون، يتشككون، يشتهون، يحنون، يقتلون، يكرهون، يستغربون، يموتون، كما الحياة تماماً، قطار كبير، فنحن ركابها، بعضنا ينزل وبعضنا يصعد. خمس نساء راقصات وراقص واحد، ستة قطارات، في قطار واحد، إلى أين يأخذنا هذا القطار؟ إلى أين يأخذهم؟ إلى الـمجهول، إلى الـموت، إلى البحر، في الـبحر تغني كينونات أخرى، تصعد رؤى، تستعر علامات، تمور طاقات، يرقص الأموات في الـماء، يرقص الـماء فيهم، لو عرفوا فقط أن الحب فقط هو من يحمي القطار من الـموت، آه لو عرفوا، لكن لا بأس، ثمّة حياة أخرى هنا، يجوز فيها الرقص، تستحق الحياة، ترقص هياكل عظام ركاب الصدفة القتلى، ترقص مع ندمهم وإصرارهم على تعويض حمقهم، القطار الصامت بجانبي، يتحرك إلى مقعد آخر، باحثاً عن سكة أخرى في احتدام الغابة الكثيفة واللعينة، تسقط من عيني اليسرى حقيبة سفر، تتدحرج فوق رؤوس الـمتفرجين وغضبهم وأكتافهم، تنفتح الحقيبة أثناء تدحرجها، فتندلق منها بانفضاح جميل، قطارات، قطارات، قطارات ... .

* * *

هو قطار، هم خمس نساء ورجل واحد، هي سرية رام الله، هي القصبة، هي رام الله: الطفلة الكبيرة ذات العينين العسليتين العميقتين اللتين تتسعان لكل قطارات العالـم، الفرقة صربية، اسمها (بيربيتوم) هي مدرسة للرقص الـمعاصر، والرقص الـمحترف، مؤسستها ومصممتها ومخرجة هذا العرض هي سفيتلانا دوروفتش، هو مهرجان الرقص الـمعاصر في طيرانه الثالث، هذا مهرجان للـمقاومة بالسعادة، بالرقص، بالغناء، بالحب، ليس مهرجاناً "للرقص على جراح الفلسطينيين" كما وصفه رئيس رابطة علـماء فلسطين في غزة، لا يطيّق ملوك ثقافة الـموت السعادة، السعادة التي تحيّر أعداء وطننا، وتعوق مخططاتهم لتحويلنا إلى مجموعة من الندّابين والبكائين والـموتى أحياء، لن أنسى مسيرة الفنانين إلى حاجز قلنديا، هجم الفنانون بحناجرهم وأصواتهم وآلاتهم الـموسيقية على سحنات الجنود الـمضطربين، هرب الجنود بعيونهم إلى الأرض، تجمّدت أصابعهم، سمعت جيداً نداءاتهم إلى ضباطهم: ماذا نفعل أمام رجل يعزف على العود؟. يستجيب أحباب الـموت إلى رغبات الاحتلال بتشويه نضالنا وحرفه عن مساره الإنساني الطبيعي إلى مهاوي العدمية والانتحار السياسي والوطني، بالرصاص تقاوم فلسطين، تموت حيناً، وتحيا حيناً آخر من جديد عبر الغناء والرقص والـمسرح والشعر، علّـمتنا تجارب الشعوب الـمضطهدة أن الفنون تمشي جنباً إلى جنب مع الـموت، في سبيل الهدف الكبير: الاستقلال والسيادة، الرقص لا يقود إلى الفحش كما ادعى البعض في تحريضهم وتهديدهم ضد فتيان وفتيات "جمعية نساء من أجل الحياة" في الشمال، يأخذنا الرقص إلى سموق الـمشاعر وتهذيبها، غنى الروح، إلى الجمال والعدالة والحق، إن منع الرقص والفنون عامة هو الذي يؤدي إلى الفحش والبغض والأمراض والقسوة.
لا أستطيع فهم شخص يحب وطنه ويكره جسده، الـمحب لوطنه هو محب للحياة والجسد والفنون، من يعرف قيمة حرية الوطن هو وحده من يدرك قيمة الفنون، أعجز عن تصور شعب ينتصر على الاحتلال قبل أن ينتصر على ظلـمات روحه، تقاوم فلسطين بالرقص لأنها تحب فلسطين وتحب الحياة، ولأن الحياة ليست موتاً فقط من أجل الوطن، إنها الحياة من أجل الوطن أيضاً. هيّا نمنع وحش الأصولية ثقافياً وإبداعياً قبل أن يستفحل، الوحش الذي يتجوّل في شوارعنا، يراقب سعادتنا، يتجسس على براءة أطفالنا، ويترصّد بحقد فنوننا وأجسادنا وابتساماتنا، لا أمتلك خطة أقترحها؛ لكنني أدعو التنويريين من الأكاديميين والطلاب والكتاب والفنانين وكل القوى النهضوية في بلادنا إلى الانتباه جيداً، فنحن بين فكي الكماشة الاحتلال والأصولية.

zkhadash@yahoo.com

بقلم: زياد خداش
الخميس 24/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع