من ذكريات انتفاضة الأول من أيار 1958



لحسن حظي وحظ رفيقاتي، فقد كنا الوحيدات من كفرياسيف اللواتي وصلن للناصرة للمشاركة بانتفاضة الأول من أيار سنة 1958، ولم تتسع الحافلة أو شاحنة الركاب لعشرات أو مئات المسافرين للمظاهرة القطرية في الأول من أيار التي صادفت في نفس السنة لاحتفالات مرور عشر سنوات على قيام دولة إسرائيل- والتي حاولت السلطة حينها ضرب الحزب الشيوعي وأصدقاءه من القوى الوطنية والتقدمية الوحيدة اليهودية والعربية وخصوصا للدور القيادي الهام الذي قام به الحزب برفاقه ورفيقاته ببطولة وشجاعة متحديا سياسة الحكم العسكري وجهازه الإرهابي المفروض على الجماهير العربية الانتقام من كل من يحاول رفع صوته مطالبا بحقوقه الشرعية أو محتجا على سياسته العنصرية والممارسات المرعبة بقطع لقمة العيش عنه.
لقد اتخذ الحزب في حينه قرارا بمقاطعة احتفالات العاشوراء للاستقلال التي أرادت السلطة فرضها على جماهيرنا في قرانا وعلى سلطاتنا المحلية ومدارسنا ومؤسساتنا. لقد عملت عن طريق عملائها (وشين بيتها) وبكل الوسائل لإجبارنا على رفع الأعلام الإسرائيلية على بيوتنا وبالذات الموظفين الحكوميين مثل المعلمين وغيرهم، والويل لمن لا يرضخ لهذه المؤامرة. وقد كان الاول من أيار مناسبة هامة لنا لرفع صوتنا وصوت عمالنا وفلاحينا من أجل المطالبة بحقوقنا في العيش بكرامة على أرضنا، ولنكون السند القوي والمثل الأعلى أمام جماهيرنا بالتصدي وعدم الخوف من السلطة ولا أعوانها ولا أجهزتها، ولتخليص شعبنا من الشعور بالإحباط والتمزق والرعب والذي كان سببه نكبة الشعب العربي الفلسطيني في العام 1948 وشعور الضياع الذي لازمنا كأقلية قومية ومئات آلاف الذين أصبحوا لاجئين في وطنهم وخارجه والذين شردوا وهدمت قراهم.
لقد كانت معركة أول أيار في تلك السنة بالنسبة لي المعركة الأولى التي "تعمدت" فيها بعد انضمامي لصفوف الحزب الشيوعي في كفرياسيف كما كانت أيضا التجربة الأولى لي في الصدام المباشر مع قوات الشرطة- لأني كنت مقتنعة اننا على حق- ولا يضيع حق وراؤه مطالب.
هذه الشرطة كانت قد رفضت طلبا بمنح الحزب تصريحا في حينه بتنظيم المظاهرة القطرية في مدينة الناصرة والتي كان ينظمها الحزب سنويا وتتوافد اليها قوافل السيارات والحافلات والشاحنات مع المتظاهرين من كل الفروع والمناطق. ولكننا قررنا وفي جميع الفروع تحدي أوامر الشرطة والسفر كالعادة الى الناصرة وإجراء المظاهرة بكل ثمن. كل هذا بالرغم من معرفتنا بإمكانية قمع المظاهرة من الشرطة، ولكنا قدها وقدود.
لقد قامت الشرطة، وبعد وصول  أخبار قرار التظاهر بكل ثمن إليها، وبتاريخ 29/4/1958، أي قبل يومين من الأول من أيار في كفرياسيف مثلاً باعتقال عضوي المجلس المحلي في القرية الرفيقان يوسف شحادة ومنعم جريس وسكرتير المجلس أيضا الرفيق احمد شحادة ونقلهم الى سجن الجلمة ومن ثم نفيهم إلى صفد بحجة تلطيخ علم الدولة الذي كان مرفوعا على بوابة صندوق المرضى (كوبات حوليم) في القرية، وذلك انتقاما للقرار الذي اتخذه مجلسنا المحلي برئاسة خالد الذكر والشخصية الوطنية المعروفة يني يني مع أعضاء المجلس من رفاق الحزب الشيوعي، بمقاطعة احتفالات الاستقلال للذكرى العاشرة لقيام إسرائيل ورفض المشاركة بها.
وهكذا قمنا بتنظيم السفر صباحا وعندما امتلأت الشاحنات والباصات بالمسافرين قمنا نحن الرفيقات باستئجار سيارة أجرة خصوصية وركبنا فيها أنا والرفيقة ريا فرحات ( أم عيسى) ومزين الحاج ويمنى مخايل والمرحومة ابتهاج خوري. وقد جلست أنا وام عيسى بجانب السائق وانطلقت القافلة مزينة بالاعلام الحمراء ترفرف على السيارات والاهازيج الشعبية والوطنية تنطلق من حناجر المسافرين يرددوها وراء رفيقنا المرحوم صاحب الصوت الجهوري أبو حيدر، من يركا، ومثله قام الرفيق الشاعر حنا أبراهيم والرفيقة فاطمة بكري من البعنة وغيرهم بارتجال هذه الاهازيج والتي ما زلنا نرددها حتى يومنا هذا.
ولكن تلك السنوات كانت تتميز وتتأثر بالمد الثوري حولنا، من أخبار الثوار في الجزائر وبطولاتهم ضد الاستعمار الفرنسي ومنهم المناضلة جميلة بوحيرد وكذلك ثورة تموز في العراق وأخبار أبطال فييتنام ضد المحتل الأمريكي وصوت خطابات جمال عبد الناصر كذلك وجود الاتحاد السوفييتي نصير العمال والفلاحين.
ومن الأهازيج التي ردّدناها في حينه:

 

وهيهن يا أبطال النضال            في البلاد العربية
واضربوا على فرنسا طوق         واستحلوا المدفعية
وما تظنوا شعبنا بنام               عن حقوقه القومية
وعصرنا من صنع العمال          بناة الاشتراكية


وجليلنا ما لك مثيل                وترابك أغلى من الذهب
ما نرضى بالعيش الذليل         لو صرنا لجهنم حطب
ونادى المنادي في الجليل       أرض العروبة للعرب

 

وهكذا حتى وصلنا لمفرق شفاعمرو ( الناعمة)، واذ بقوات الشرطة تغلق الشارع أمام القافلة وتمنع كل المسافرين من القرى والمدن من التوجه للمشاركة في مظاهرة أول أيار، وبالأساس من الحزب، وتسمح بمرور باص حزب "المبام" والذي ركبت معه الرفيقة ميسر شحادة ظنا منها أنهم مثل الحزب الشيوعي...
ولكن بعد أن وصلنا وعرفنا بالأوامر خطرت لي فكرة، فقلت لأم عيسى الجالسة الى جانبي أن تتكئ على كتفي وتتظاهر بالمرض، وهكذا كان وما أن اقتربنا من الحاجز حتى أمرنا الشرطي بالرجوع فأخبرناه أن "أمي"  مريضة او حامل ونحن مسافرات  للمستشفى في الناصرة وهكذا استطعنا عبور الحاجز وكنا الوحيدات اللاتي وصلن الى الناصرة الى جانب عدد من الرفاق الشباب الذين وصلوا مشيًا على الأقدام.
ما ان وصلنا ساحة العين حتى رأينا أمامنا انتفاضة تقوم بها جماهيرنا والحجارة تملأ الشارع الرئيسي وسيارات الجيب التابعة للشرطة مقلوبة ومحطمة وخوذ الشرطة ملقاة على الأرض. فانضممنا للمتظاهرات فورًا، وأول ما شاهدته في مقدمة المظاهرة النسائية كانت الرفيقة المرحومة آرنا خميس والتي كانت حاملاً في أشهرها ألأخيرة بابنها جوليانو وهي تتصبب عرقاً وتهتف بالشعارات هي وباقي رفيقاتنا من الناصرة وغيرها، الأمر الذي جعل الشرطة تعتدي عليها وعلينا وتدفعنا بقوة وبالهراوات ونحن نقاوم ونواصل التظاهر مع رفاقنا ونجمع الحجارة لنقذفها ثانية على الشرطة. وقد علمنا لاحقا أن اعتداء الشرطة على الرفيقة آرنا خميس جعلها تلد بنفس اليوم، قبل الموعد الطبيعي للولادة، فقد نقلت من المظاهرة مباشرة إلى المستشفى وولدت هناك. لقد أشعرنا هذا بقوة الوحدة العربية- اليهودية الحقيقية، وكيف أن هذه الممارسات لن ترهبنا.
في نفس الليلة وبعد رجوعنا قامت الشرطة بعد منتصف الليل بحملة اعتقالات كبيرة من صفوف حزبنا وكان لكفر ياسيف أيضا نصيبها الكبير، اذ اعتقل الرفيق المرحوم مبدا فرحات (أبو عيسى) والرفيق المرحوم يوسف اندراوس والرفاق جميل شحادة وجبرائيل حريز شحادة والرفيق المرحوم خليل خوري من أبو سنان ونفتهم جميعا إلى صفد ليلتحقوا بالرفاق يوسف شحادة ومنعم جريس واحمد شحادة. وبعد أن شعرت السلطة أن هناك من له دور في العمل السري بتنظيم الأمور بعد اعتقال أغلب الرفاق، قامت وبنفس الليلة بمحاولة لاعتقال الرفيق نمر مرقس وكنا متزوجين قبل أشهر قليلة من الاحداث وكنت ما زلت صبية صغيرة في أول تجربة لي بالمواجهة. وما ان طرق البوليس الباب حتى قمت لارد عليه ولم أرد فتح الباب له بل قلت له ان نمر غير موجود وبعد أن يئس من الطرق ترك المكان. وهكذا تكررت المحاولة  لأربع ليالي ولم تستطع الشرطة اعتقاله لأني كنت أجد في كل مرة الأسباب لجعلهم يعدلون عن ذلك وفي آخر زيارة لهم وكانت في وقت الظهر كان والد الرفيق نمر يجلس في سريره وعندما دخل البوليس ليسأل عن ابنه قلت له انه اذا أصر على اعتقاله فمن الممكن أن يؤدي ذلك إلى نوبة قلبية لوالده وسأحمله المسؤولية عن ذلك.
وهكذا نجحت في منع اعتقاله ولكنهم استطاعوا بعد ذلك اعتقاله في المدرسة التي كان يعلم بها في دير الأسد، وعندما اعتقلوه في الصف اخذ الطلاب يرجمون سيارة الشرطة بالحجارة حتى أوصلوها لمفرق البعنة على شارع عكا صفد. وفي السجن تعرض للضرب من قبل الضابط ويدعى (زدكون) وبعد يوم أطلق سراحه.
ولم يبق في الفرع على ما أظن سوى الرفاق حبيب باسيلا ابو عقل وفهم جريس والرفاق من الشباب احمد سعد وبعض الطلاب مثل محمد شغري ومن نحف عبد الله عبد الغني وراجح خطيب وغيرهم ونحن الرفيقات، وكان دورنا في تلك الظروف مهما جدا اذ كان علينا العمل بشكل سري بتوزيع المنشورات وتوصيل صحيفة "الاتحاد" التي كنا نخبئها في (عبنا) ونستقبل الوفود اليهودية التي كانت نزور عائلات الرفاق المنفيين وتقد لهم المساعدة، وكنا نرافق هذه الوفود من بيت إلى بيت. وألقيت على الرفيق نمر مهمة إدارة هذه النشاطات وبالذات الاحتجاجية وقد قررنا تنظيم الوفود مع عائلات المعتقلين للقاء الحاكم العسكري الذي كان مكتبة في قصر دار الستات البروتستانت وهكذا كنا نذهب يوميا لنطالبه بإطلاق سراح المعتقلين ولكنه كان يرفض دائما وعلى ما اذكر كان اسمه (محرز) وبعدها قررنا القيام بإضراب جلوس والنوم هناك أمام المكتب. وقمنا بجلب الفراش الذي حملناه على رؤوسنا وحملت الأمهات أطفالهن ودخلنا على الحاكم العسكري. وما أن وصلنا حتى أخد الأطفال بالصراخ واللعب والتبول على الأرض وعلى شباك مكتب الحاكم العسكري الذي ما أن رأى هذا المشهد حتى حمل حقيبته وأوراقه وفر هاربا ومنزعجا من مكتبه تاركا وراءه أعوانه الذين لحقوا به أيضا وهم يلعنون من تسبب في زعل زلمتهم وهكذا حتى أدى هذا النشاط بإطلاق سراح المعتقلين.
كذلك كان للطلاب دور هام أيضا إذ نظم الرفيق نمر معهم تظاهرة شعارات قاموا بها صباح يوم الخميس بعد الأول من أيار حيث أفاقت القرية على العديد من الشعارات أيضا المكتوبة على الجدران مطالبه باطلاق سراح المعتقلين.
كذلك اتخذ المجلس في حينه قرارا بالمطالبة بإطلاق سراحهم. وبعدها فقد استطاع الصحافي الدمقراطي المعروف "أوري افنيري" محرر وصاحب الصحيفة الأسبوعية (هاعولام هزيه) باختراق الحصار مع زميله الصحافي عطا الله منصور والمكوث يومين في القرية ليسجل في صحيفته ريبورتاجا كبيرا عن هذه الأحداث وبالذات في كفر ياسيف والدور الذي قمنا به نحن الرفاق والرقيقات من بقوا في الفرع وزار ثلاثة معتقلين أيضا ليكتب عن ظروفهم كذلك سافر لمدينة صفد ليلتقي مع الرفاق المنفيين من الفرع مع زملائهم المعتقلين أيضا من الناصرة والرينة  ويافة الناصرة والذين بلغ عددهم 36 رفيقًا.
لقد سمعنا بعد رجوع رفاقنا من المنفى عن الظروف التي مروا بها هناك وعن الصعوبات بسبب ترك عائلاتهم وفرض أوامر إثبات الوجود عليهم مرتين في اليوم في مركز الشرطة هناك. ولكن الجدير بالذكر ان عددا كبيرا من الفنانين والرسامين الذين يعيشون في صفد والذين التقوا مع رفاقنا وأصبحوا بعد ذلك وخلال أشهر منفى رفاقنا، أصدقاء حقيقيين ومتضامنين معهم وعلمت من الرفيقة ميسر شحادة وريا فرحات انهم بعد ان قاموا هم وعدد من عائلات وزوجات المنفيين بزيارة أزواجهن وأبنائهن كانوا أحيانا يضطرون للنوم هناك ولكن من كان يرتب لهم ذلك فكان بعض الرفاق والفنانين اذ وجدوا لهم بيت رفيقة يهودية هناك والتي استقبلت الرفيقتين في بيتها لينمن عندها ولكن للأسف لا نعرف ما اسم هذه الرفيقة ومن يعرف من القراء فالرجاء إبلاغنا بذلك لكي نكرمها بهذه المناسبة، مناسبة مرور خمسين عاما على أيار 1958.
لقد سجلت كفر ياسيف بقيادة حزبها ومجلسها المحلي برئاسة الشخصية الوطنية يني يني المثل في أن تكون هي والقلعة الشامخة الناصرة في مقدمة القوى الوطنية والشريفة وليس صدفة أن تكون كفر ياسيف السباقة في أن تكون أول من تأسست فيها أول جبهة وفي نفس السنة 1958، إذ قام يني يني مع رفاقنا بتأسيس الجبهة الشعبية والتي ضمت العديد من الشخصيات الوطنية في القرى واتسعت لتشمل وتمثل العديد من الشخصيات الوطنية في القرية واتسعت لتشمل وتمتد للعديد من الشخصيات الوطنية الأخرى في عدة مدن وقرى الجليل، وأقيمت في الناصرة بعد ذلك الجبهة الدمقراطية ونجحت في إيصال الرفيق خالد الذكر توفيق زياد لرئاسة بلدية الناصرة، وتنظيم يوم الأرض عام 1976، وإقامة الجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة.

نبيهة مرقس
السبت 26/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع