في حوار أجرته الباحثة دوريت جوتسفيلد مع الأديبة رجاء بكريّة في بانل أدبي ناقش إنتاجاتها الأدبيّة، ومركّبات عالمها:
رجاء بكريّة: المرأة تعيش القسط الأكبر من حياتها مشروع معاناة



* كيف تعرفين نفسك: كاتبة عربية، فلسطينية أو كاتبة-إمرأة؟

كاتبة فلسطينيّة، التاء المربوطة كافية للإشارة إلى كوني امرأة وليس رجلا.
يهمّني جدا أن يكون القارئ على معرفة بكوني امرأة وليس رجلا. هويتي الجنسية تقف في مركز اهتماماتي، لأنني أعتبر تعريف المرأة لكينونتها كممثّلة لشريحة واسعة من النّساء لها خصوصيتها مع اختلافي بصدد تصنيف الأدب لنسائي، نسوي ورجولي. لكن لا بدّ من التّأكيد أنّه لن يأتي يوم يتمكّن فيه الرّجل من كتابة المرأة. هواجس المرأة وطبيعة تدوينها لوجودها تحتمل كل المتناقضات الممكنة، مرجعيات تلك الهواجس في جزء منها بيولوجية ونفسيّة وأعتبر كتابة المرأة تحمل الكثير من الفطرة. الأمر له علاقة بمنطقها المزدوج في رسم مركّبات العالم الّذي يحيطها، وهي لا تفكّر مثلا بمنطق واحد، إنّما بألوان من المنطق وعلى أكثر من موجة، الأمر الّذي لا تحتمله طبيعة الرّجل.
أحبّ أنوثتي، وأعتبرها إحدى علامات تميّزي ورغم الحدّة الّتي يأخذها عليّ الكثيرون إلا أنّها تعجبني لكونها تصدر عن مواقف مدروسة، ولعلّها تتساوق مع المدرسة الفنيّة الّتي أتبناها. هناك حدّة أيضا ومتناقضات، فأسلوبي يتأرجح بين الرمزي التعبيري والتجريد التعبيري.
قضيّة أخرى تشكّل جزءا من هويتي المهجوسة كامرأة تعيش في مجتمع يهودي، إسرائيلي. خرجتُ من القرية في بداية تعليمي وفي رأسي مشروع حلم. كيف أتغلّب على كلّ المعوّقات والأطر. كيف أخترق ذاتي ومنها مجتمعي الرّجولي ومحيطي اليهودي. فالتمييز الحاصل ضدّي لم يحدث من قبل مجتمع رجولي اعتاد على إدانة المرأة وتعليب أنوثتها داخل فترينات الزّينة، ودوارق العطر الطّبيعي فقط، ولكن التمييز الحاصل حدث ضدّها على خلفيّة هويّة، كفلسطينيّة محتَلَّّة، ومن رعيل الهزيمة عام 48. التاريخ الّذّي قرأته عن استسلام العرب وسقوط فلسطين أمام هاماتهم جعل اللّون الأبيض متغيّرا رمزيا في كتاباتي فهو الموت والهزيمة والصّفر إلى جانب كونه القداسة والنّقاء.
هذه الإزدواجيّة فيما يتعلّق بهذا الوجود المرتبك يجعلني في حالة تساؤل ومصدر خلاف. فالعرب يعتبرونني عميلة ويهوديّة والإسرائيليون يعتبرونني عربيّة قذرة أحيانا، وفلسطينيّة خطرة فقد أقوم على باب متجر بعمليّة انتحارية ما. هم لا يعرفون كم أنا جبانة وأحرص على حياتي أكثر منهم/ وأنني أحبّ الحياة ضعف ما يحبّون. وأنني لن أتطوّع في جيش الدّفاع لأنني لا أعتبر هذه الدولة خاصتي. أنا امرأة في مركز الشك. حالة غير متّفق عليها. وربّما يبدو ارتباك هذه الحالة، أنا، بين مركّبات عالم غير واضح سبب في دفعي للبحث عن مادّة جديدة لحفر تاريخي وتوثيق هواجسي عبر الكتابة. بطريقة ما حاولت مثلا في إمرأة الرّسالة أن أتجاوز مدلولات عالمي من خلال التّأكيد على خلل وجودي في دولة أدّعي أنها تمنحني أجنحة للطيران عبر فضائها رغم عدم انتمائي الحقيقي لها. حالة التشتت هذه لا علاقة لها برغباتي. فأنا حقا لست إسرائيليّة، ولكن لست عربيةّ فلسطينيّة تماما. إمرأة منفلتة، لا علاقة للتقاليد والتراث، وحقوق المرأة والرّجل بشخصيّتها لأنها هي من يرسم حدود عالمها.  المرأة تستحضرها في مراياها كعلامة منصفة ومدينة في ذات الوقت دون أن يعنيها ماذا سيفكّر الآخر بعدها.
هذه هي الصورة الّتي أحاول أن أتصرّف من خلالها أكثر ممّا أكتبها. 

* في أعمالك الأدبية تكثرين من استخدام ضمير المتكلم بلغة المؤنث وبذلك تبرزين الحضور النسائي في النص. هل يدل ذلك على كتابة تحمل اصداء معينة من سيرتك الذاتية؟

عادة أعتبر الضمير المتكلّم أقرب إلى القارئ. يحمل معنى المشاركة أكثر من سواه من الضمائر. لا أعتقد أنّ لهذا الضمير علاقة محدّدة بتفاصيل حياتي. نعم يهمّني أن يتواصل القارئ معي على اعتبار أنني امرأة أنثى، وأن يفهم أنّ قضيّتي ذات علاقة بتاء التّأنيث، لأنني في النهاية أحاول أن أرسم قضيّة المرأة من خلال ما أثيره عبر نصوصي.

* في كتابتك يبرز جدا استخدام الالوان، كما في قصصك القصيرة "الابيض" و"محاولة اغتيال" حيث نجد تداخل اللونين الابيض والاسود. هل يمكنك التوسع بشأن ظاهرة الالوان في قصصك؟ وهل هناك علاقة بين هذه الظاهرة وبين تجربتك في مجال الفن التشكيلي؟

سؤالك جيّد. وينطوي على الكثير من الصحّة. الألوان ذات حضور ملفت في كتاباتي. حتّى أنّني أشعر بأنّ جزء من ملامح الشخصيّة بين سطوري ليست مكتوبة بقدر ما هي مرسومة. يهمّني اللون فمرجعياتي الفنيّة تتدخل دون تخطيط في لون الملابس والملامح.
ويجب أن أعلن لك أنّني لم أستعمل اللونين الأسود والأبيض بل الأزرق والأصفر، وتفتنني حقول عبّاد الشمس الّتي فتنت فان جوخ إلى اليوم. دائما أبحث عن ألوان الفنان الّذي يسرق اهتمامي، بل أحيانا أشعر أنّ النص يحتاج إلى فرشاة. وكأنه لن يكتمل بمعزل عن اللون.  وفي امرأة الرّسالة، عملي الرّوائي الأخير يحتل اللون حيّزا كبيرا.

* بعض النقاد ينوهون في نقدهم لاعمالك الى انك تستخدمين لغة عالية المستوى، واحيانا غامضة وقريبة من لغة الشعر. هل يقلص ذلك برأيك جمهور القراء؟ والى من توجهين في الحقيقة اعمالك؟

قد أفاجئك إذا أعلنت أنّ رأي النقاد لا يستوقفني تماما. أنا أعتبر النص هو من يكسر الحواجز بينه وبين القراء. والجيّد عموما يعرف كيف يشق طريقه إلى القرّاء. القارئ لا يحب النصوص الجاهزة والسريعة والمتثائبة. المشروع الرّوائي ليس ساندويش أو وجبة هامبورغر يتناولها الشخص كي يشبع، بل وجبة يفتّش عن نكهتها كي يستسيغها ويستمع بمذاقها. هذا إيماني الشّخصي على الأقل.
صحيح بأنّ لغتي غير عادية وتجنح إلى الشعر لكن شعرها غير عادي أيضا. عالمها يأخذ إلى أمكنة غير مكتشفه، أحاول أن أكتشفها على طريقتي. اللغة أحيانا مكثّفة لكنني أتوخى من القارئ الإحساس بالمضامين وليس البحث فيها. أعمالي مشارع متعة وتحليق وانخلاب بعوالم لن يذهب إليها قارئي مع سواي. ولذلك أدّعي أن أعمالي لكلّ الناس من الأدنى، وحتّى الأعلى ثقافة. ولأكن صريحة معك أنا لا أهندس نصوصي بهدف اللإستهلاك اليومي، يعني لا أجري عمليّات حسابيّة لعدد الّذين سيبحثون عن كتبي، ولكن أفكّر بنسبة الإمتلاء الروحي والفكري الّتي ستغمر قرّائي لأنّ هذا الإمتلاء ينتقل كالعدوى بين جمهور القراء.

 * من خلال قراءة اعمالك يمكن تمييز نمط ثابت الى حد ما من المعاناة النسائية. في العديد من القصص المرأة تُهجَر من قبل الرجل وتعاني من شعور بالوحدة والالم. ورغم ذلك، موقفها منه هو موقف مزدوج، فهي من ناحية تعبر عن حنينها وشوقها له ومن ناحية ثانية تعبر عن اشمئزازها منه ورغبتها بالانتقام. هل المرأة في اعمالك هي في الحقيقة نفس المرأة وهل الرجل هو نفس الرجل؟ ولماذا اخترت عرض شخصية المرأة على هذا النحو؟

في مرحلة من مراحل كتابتي، الصّندوقة تحديدا، احتلّت النماذج النسائيّة بمتناقضات عوالمها حيّزا كبيرا. بأشكال معاناتها التقليدية، العشق والخيانة والهجر والقهر والألم لكن أيضا العشق بأبهى صوره. لكن عليّ أن أذكّرك بأنّ نقيض هذه الحالات المنكسرة تقف الرّجولة بكل مرجعيّاتها البائسة. الرجل الشرقي، والعربي تحديدا لم يصل إلى حالة من التماثل مع مشاريعه الوجودية والنضوج الحسّي الّذي يؤهله للتعامل مع المرأة الأنثى كشريك وليس كغريم. وأنا أدّعي أنّ كل مظاهر التحرر والإنفتاح في قاموس الرجل العربي ليست غير صور كاريكاتورية لأزمة الرّجل العربي الحقيقيّة. إنّه مأزوم بعدم قدرته على التكافؤ مع المرأة الأميّة لجهلها ودونيتها، والمثقفة لقوّتها وتهديدها لتفوقه الفكري. التفوّق الرّوحي يحرص الرجل العربي على دسّه في الجوارير المعتمة غالبا كي لا يفضح إنسانيّته ونبض روحه. نعم الرّجل العربي مهدد بعدم قدرته على استيعاب قدرته على التفوّق في ركض القلب.
وسوف أذكّرك أنّ أوّل ما يقوله رجل معروف لامرأة حين يتعرّف إليها " أرجو أن تبقى علاقتنا سرّا" كأنّه يمارس معها إذ يرسم قلبه على كفي قلبها معصية. مشكلة المرأة في المجتمعات الشرقية هي قحابة المنطق الّذي يفكّر به الرّجل. ولن يفهم من كلامي أنّهم كلّ الرّجال ولكن الغالبية العظمى منهم.
وعليه فإنّ المرأة تعيش القسط الأكبر من حياتها مشروع معاناة. وقد حاولت أن أعالج المرايا الكثيرة الّتي ترى المرأة إلى نفسها من خلالها، في السياسة، الحب، الأسرة، ومع الآخر. ودائما هجست بالآخر الرّجل كغريم وحبيب  لأنه يستطيع أن يمارس الإثنين معا.
لا يوجد في قصصي خصوصا إمرأة واحدة ولكن يوجد نساء ورجال. يَعشقن ويُعشقن. يقتلن ويُقتلن.  يحتفين بأجسادهن ويحتقِنّ برجولة من يحببن. لكنّ الخيانة بأوهى أشكالها تستطيع أن تكسر أنوثتهن وتشوّه فتنتهن، لكن فتنة عقولهن باقية. وهنّ غالبا يُهزمن، لكن كي يعدن أكثر شراسة وحنكة ورغبة في ترسيخ فكرهن. الفكر في حكايا نسائي لا يتناقض مع رهافة الحس. يتحدذثن عن الجنس ويكسرن المحرّمات لأنّها في الحقيقة جاءت كي تحرّض على عصيانها.
راهنت في كتاباتي على امرأة مختلفة. نموذجية في تمرّدها، نموذجيّة أيضا في لفت حضورها. ذهبت معها إلى كلّ مكان لن يتخيّلها فيه رجل. دفعتها إلى المعتركات السياسية لأنني أعرف أنّها الأقدر على فضح عهر المشتغلين في هذا الفن. أردت امرأة أنثى وإنسانة، هذه الأبعاد غير جاهزة على أجندة الرّجال لأنّها ترعبهم لأبعد حد.     

* تبرز في اعمالك المشاهد الجنسية الجريئة التي تتمرد على الكتابة التقليدية المحافظة. بعض الباحثين يرون في كاتبات مثل ليلى بعلبكي اللبنانية وكوليت خوري وغادة السمان السوريتين رائدات في الكتابة الجريئة. هل ترين انك تسيرين على خطى هؤلاء الكاتبات في هذا النمط من الكتابة ام انك تعتبرين نفسك رائدة لهذا النمط في الأدب الفلسطيني المحلي؟

لن أصنّف مرجعيّات كتابتي معك، ولكن سأعتبر معالجتي لموضوع المحرّمات والجنس تحديدا أحدى تجاوزات كتابتي. ليس توخيا للريادة، ولكن لأنني أعتبر الجنس جزءا من طبيعتنا كبشر. وهو تأشيرتنا للدّخول إلى أرواحنا. نحن نخاف الجنس لأننا نخاف من حقيقتنا، وهذا يأخذنا غالبا إلى الهجس والتحسب.
بتواضع شديد أريد أن أعتبر إثارتي للموضوع على مستوى الأدب الفلسطيني والنسائي خصوصا عبورا لمرحلة جديدة على مستوى الحوار الثقافي مع الآخر والعربي عموما.

* معظم الكاتبات قشّرن هذا الموضوع. أنا حاولت أن أعرّيه كي أعرض إلى جمالية حسّه. نحن نعيش كي نشعر أوّلا، نفتن ونُفتتن ثانيا.
 ولن يكون بالإمكان أن أعرض إلى الجنس دون أن أستذكر فصول جسد إمرأة الرّسالة. إنّها امرأة تتفنن في رسم هزّة خصرها وقلبها، ورأسها معا. ويجب أن أشير إلى أنّ انقلاب المفاهيم لدي حدث أثناء دراستي للفن التشكيلي. قبل ذلك كنت مأزومة ومهزومة أمام محدودية عالمي وممنوعاته. لكنني أيضا لم أقبل قضيّة واحدة كأمر مسلم به ولذلك غير مرّة نهشتني الألسن، وحاولت النيل من إنجازاتي. ككلّ امرأة.. تماما كأي امرأة!

السبت 26/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع