حكاية من بلدي
صفحات ناصعة من تاريخ الحزب الشيوعي



تطايرت الاشلاء،  وغطت الجثث الساحات ، واغرقت الدماء الزكية الباحات وارتمى المئات من الجرحى من اطفال مدرسة" بحر البقر" المصرية . بكى الآباء ، وندبت الامهات وصرخ الاخوة والاخوات  ،  وهزت الجريمة النكراء الضمائر ، واقشعرت لها الابدان ابكت العيون، واعتصرت القلوب، ألما وحزنا، تبدد الصمت، وتفجر الغضب ، وكانت الطائرات الاسرائيلية تواصل غاراتها الهمجية على الريف المصري سنة 1969 صرخت الحناجر ، ودوّى صوت اعضاء الشبيبة الشيوعية في القرية مجلجلا عاليا عانق السماء .
انتصف الليل فاندفع بعضهم يخترق الظّلام ، ويتحدى الظلاّم ، اقتحموا الجدران استرقوا الفرص ، ونقشوا عليها الصرخات ، واختطّوا الشعارات، شجبا واستنكارا. جن جنون السلطات ، فهرعت الى القرية في صبيحة ذلك اليوم ثار حابلهم وهاج نابلهم ، وراح الضابط "افريدمن" من شرطة مركز شفاعمرو يركض لاهثا ، يستنجد بمخابراته ويستعين بعملائه ، ينصب شباكه ويرمي بحباله بحثا عن "المجرمين" اصطاد في صولاته رفيقا هوى وسقط كورقة التوت ، طعن رفاقه طعنة نجلاء، قام على اثرها الضابط بموجة اعتقال طالت شباكه كوكبة من اربعة رفاق شبيبة شيوعية طلابا في المدرسة الثانوية براعم يافعة اغضاضا غرانا: عمر بكر ياسين، حسين خليل ياسين، حامد محمد سعدي ، محمود يحيى نصار ، ساقهم مكبلين مغلولين وزج بهم في مركز شرطة شفاعمرو . حلّوا ضيوفا "اعزاء مبجلين" على المحقق ومعاونيه من ذوي العضلات المنتفخة احسنوا ضيافتهم وكان لهم استقبال حار حافل بالعنف ووجبات، من الضرب ساخنة ، ومن الاهانات دسمة والشتائم بذيئة و"شهية". عادت بعدها الشرطة ودهمت واقتحمت بيت كاتب هذه السطور ، وكان مركّزا لمنطقة الناصرة للشبيبة الشيوعية، فعثرت اثناء التفتيش على ملابس عليها آثار دهان احمر باهت ، لم يظهر في الليل على ضوء القنديل الخافت ، تفوح منها رائحة "البانزين" حال الوسن من الزوجة ازالته بالماء . فاقتاده الضابط" المغوار" والرفيق خالد محمد سعدي مكبلين بالاغلال الى مركز الاعتقال . زج بهما على انفراد .
استفرد المحقق بالرفاق الشباب واستغل سقوط ذلك الرفيق وفجاجتهم ، وبطريقة ماكرة وقعوا في اليوم الثالث في احابيله ، وانطلت عليهم خدعته اذ صور لهم ان التهمة بسيطة وليست ذات شأن ، مجرد تلطيخ جدران ، وان العقاب شيء لا يذكر وهم طلاب وحتى لا تطول مدة الاعتقال والغياب وتكون خسارتهم في التعلم كبيرة استطاع انتزاع الاعتراف منهم بالتهمة . فقادهم الى محكمة الصلح في عكا ومثلوا امام قاض لم يتورع لجيلهم الطري وماضيهم النقي فاصدر حكمه الجائر فخاب ظنهم ، وتعكر صفوهم، تبددت اوهامهم ، فحكم على كبيرهم عمر بكر ياسين اربعة عشر شهرا بالسجن الفعلي وغرامة مالية قدرها الف ومائتا ليرة . واما الآخرون فحكم على كل واحد منهم عشرة اشهر سجن فعلي وغرامة مالية بالف ليرة . تجرعوا الكأس المرة ، غُلت اياديهم وقادهم السجانون وهم يتضاحكون "وشر البلية ما يضحك" وتهامسوا فيما بينهم واخذوا يرددون اغنية فيروز "كتبنا ويا ما كتبنا وخسارة ما كتبنا" كتبنا مية مكتوب.....الخ " سرعان ما حولوها وحرفوها " كتبناو يا ما كتبنا ويا نعم ما كتبنا كتبنا مية شعار وخلي الظالم يطق وينهار" اخذوا يرددونها وهم في طريقهم وحملوها معهم الى اروقة وغياهب سجن الرملة .
استهدفت الشرطة والسلطات الرفيقين اعضاء الحزب الشيوعي في محاولة بائسة لكسرهم. وكانت دواليب التعذيب تدور منذ الساعات الاولى لاعتقالهم ارخوا لها العنان وتوغّر الضابط بالرفيقين وتوعد . ادخل خالد في غرفة خاصة وانهالت عليه آلة التعذيب  من ضرب وتنكيل وشتم . ادخلوا له "العصافير " في غرفته ولما باءت محاولتهم بالفشل اطلق سراحه بعد معاناة وصمود في اليوم التاسع من الاعتقال وكان اعتقاله ظلما وانتقاما .وظل كاتب هذه السطور ، ومنذ اللحظات الاولى يقبع في غيهبة "زنزانة" اقرب للقبر منها غرفة للاعتقال ، حفرت في جدار سور قلعة ظاهر العمر الزيداني . طولها متر ونصف وعرضها متر تخلومن متنفس ، مظلمة لا يدخلها الضوء، اغلقت  بباب من حديد اعدت لحيوان كاسر معتمة في النهار ، وليلها ظلام دامس.  الغطاء بال وارمام ، والفرشة لونها لون التراب تنبعث منها رائحة آسنة خانقة بال عليها المئات قبل ان يطأها. الخروج لقضاء حاجة محظور ومرفوض ، فكان الاحتقان  مدعاة للبول مكرها بداخلها، البراز في وعاء يظل يرافقه في الداخل ساعات حتى يروق للمسؤول ان يخرجه ، زيارة المحامي محظورة ، حلاقة الذقن محظورة وجبة الفطور تستبقها المقبلات دفعة من الشتائم  ، وما استطاعوا من قوة وغوغائية في الضرب يتصدرها الرفس والركل واللكمات على البطن حتى الاغماء يدفعونه متثاقلا متأرجحا الى داخل الزنزانة عندها يقدمون له الوجبة مما تبقى عنده من شهية كمن يدقع وجبة لكلب، الحساف من اطباق ووجبات الشرطة، عليها حثالة القهوة وغمسوا فيها اعقاب السجائر. تعود الكرّة في الظهيرة وفي المساء وبين كل وجبة محاولة بائسة من الضغوطات لانتزاع اعتراف وهم يعرضون امامه الملابس التي عثروا عليها في البيت فكان العنف لا يزيده الا عنفوانا . كتم تعذيبه وكظم غيظه وكان في الليل يتحسس ما تركه الضرب بالقضيب من آثار وخطوط زرقاء بارزة على جسده .
كان قد قرأ كتابا للكاتب السوفييتي الشهير " اوستروفسكي " عنوانه " والفولاذ كيف سقيناه" يحكي قصة تعذيب وصمود شاب سوفييتي من المقاومة الشعبية الباسلة وقع تحت براثن الالمان النازيين اثناء الحرب العالمية الثانية اثناء  غزو هتلر النازي للاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية سنة 1944 فابدى ذلك الشاب حسب الرواية صمودا خارقا ورائعا امام آلة التعذيب النازية .وكان قد قرأ ايضا قصة تعذيب القائد الشيوعي العراقي فهد  الذي اعدمه الطاغية نوري السعيد ، فاستوحى صموده من هاتين الروايتين . وكان يحدث نفسه في الليل وقبل وبعد كل وجبة تعذيب وانفلات ويخاطب نفسه اصمد يا رفيق عار عليك . اياك ان تنكسر يا رفيق اياك والسقوط . انت مستهدف يا رفيق ويحاولون اذلالك اياك والانحناء ، ثلاثة عشر يوما من التعذيب السادي والقهر النفسي ومحاولات الاذلال تبدو فترة زمنية قصيرة ، لكنها بمعاناتها ، وقسوتها بظلامها بجوعها وعطشها كانت طويلة ، شحب وجهه واغبَرّ، وغارت عيناه بين جفونه هزل وسقم وعندما فشلت طواحين التعذيب ، وتكسرت دواليب التنكيل وباءت بالفشل الذريع سلموه لكبير المحققين في المركز الضابط "حنا الشايب"  ، المعروف بدهائه ، وجدارته وحنكته واساليبه الخبيثة في الكشف عن الجرائم المعقدة . فظن انه حري  وجدير بالكشف عن هذه "الجريمة"  البسيطة ،وبعد ساعة ونصف الساعة من عرض احابيله ومراوغاته والتباكي  على ما اصابه من غلظة وقسوة وتعذيب من قبل رجال الشرطة الآخرين " العيون عبرى والفؤاد في دد " دفعته حميته وانسانيته بحكم الصداقة التي تربطه بالعائلة ان يتولى التحقيق لمساعدته ، وكان قد جمع وتزود بالكثير عن حسب ونسب العائلة .ولما لم تنطل هذه الاساليب على الرفيق وتبددت محاولاته وشعر ان كلامه صار هباء وحديثه هراء فاوغر صدره عليه فلطمه على وجهه . فانكشفت حقيقته وتحطمت احابيله على صخرة صمود الرفيق فعجم  عوده فوجده عصيا  . فاوعز لاحد رجال الشرطة يدعى "ابو حسن " ان يقوده مكبلا بيديه وفي الباص الى محكمة الصلح في عكا لتمديد فترة الاعتقال . مثُلَ الشرطي والرفيق امام القاضي فاصدر الحاكم قراره ان مدة اعتقال ثلاثة عشر يوما من التحقيق كافية لهذه التهمة ولا حاجة لتمديد الاعتقال . فاطلق سراحه وكان  فخورا معتزا بصموده .
ارتسمت تلك الصورة في ذهنه ، ونقشت في مخيلته وعلى جسده وظلت راسخة بحيث لا تمحوها السنون .
إستأنف المحامي حنا نقارة المحامي الشيوعي محامي يوم الارض الحكم الذي صدر بحق تلك الكوكبة الفتية من رفاق الشبيبة الشيوعية وخفض الحكم من عشرة اشهر سجن فعلي الى شهر  سجن والغرامة من الف ليرة الى خمس مائة ليرة اطلق سراحهم وهم يرددون  اغنية فيروز التي حرفوها "كتبنا ويا ما كتبنا ونعم ما كتبنا كتبنا مية شعار خلي الظالم يطق ينهار" اطلق سراحهم وهم فرحون جذلون .

(عرابة)

عمر سعدي*
الأثنين 28/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع