سنديانة سميت ابتهاج خوري - صمود وتحدّ -



قلّة هنّ اللواتي صمدن امام حمل مسؤولية تاريخية على كاهلهن، وقد حملت ابتهاج خوري هذه المسؤولية منذ نعومة اظفارها واندفعت بحماسها القوي وفكرها المتنور القيادي وحسها الوطني، علها تغير من عادات وتقاليد بالية وتكسر ايديولوجية قهر المرأة المترسخة في المجتمع. ولتحته على النضال ضد التمييز والمعاناة لنيل حقوقه ايضا، ادركت قبل غيرها بان عليها ان تنشط وتعمل على تغيير المجتمع في الوقت الذي كان فيه الجمود الفكري والعقائدي يسود اغلبيته.. عدا عن ان هذا الاسلوب لم يعجب السلطات الا انه لم يعجب الكثيرين من افراد مجتمعنا العربي ايضا، خاصة انه من قبل امرأة. لقد سجنت اكثر من مرة على خلفية سياسية مع صديقات قليلات. ومشاريعها الاجتماعية، حاولوا قمعها بعد ذلك حتى من قبل اقرب الناس اليها، لكن صمودها كان اقوى كالسنديانة التي لا تهزها اية عاصفة. انها متواضعة جدا، تتعامل مع الصغار مثل تعاملها مع الكبار باحترام، زهدت بقشور الحياة التي تتمسك بها غالبية النساء. ادراكها للوضع الخطير لمجتمعنا منذ سنوات النكبة قادها لقيادة مظاهرات واعتصامات احتجاجية، واشهرها "مظاهرة الخبز" وهتف اطفال البلدة حينها "بدناش ليخيم بدنا طحين.."، كذلك مظاهرات ضد الظلم والتمييز ضد مجتمعنا العربي وضد المرأة، ومن اجل التضامن مع النضال الفلسطيني ضد الاحتلال ايضا وضد جميع الحروب في المنطقة.
هي مبادرة وحاضنة لأمور كثيرة، هي المحرك الاساسي في ادارة جمعية حركة النساء الدمقراطيات فرع عكا، كذلك في جمعية السنديانة، وفي الحزب الشيوعي والجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة قبل ذلك، لقد جمعت ما بين مبادئ التحرر السياسي للمرأة والاجتماعي والاقتصادي. نبذت الطائفية والطبقية، ولم تتوان ولو للحظة واحدة عن مساعدة من يتوجه اليها دون ان تعرف هويته، واصرت على ان تساعد اطفال البلدة العرب لأنهم بحاجة الى اطر تربوية حضارية وعصرية، وبما ان السكان مهملون من أي مشروع او ترميم، بادرت لاقامة حضانة وروضة تبدأ من جيل 3 اشهر، لقد ارادت للطفل ان يكون قيصر وللحضانة ان تكون له قصرا لترعاه وتنشئه على  اعلى مستوى، فتدعو احيانا اخصائيات مهنيات لفحص مدى ادراك الطفل. تدعو كذلك مهرجا او مسرحية دمى او مختصة باللعب مع الحيوانات وتقام فعالية بذلك.. الخ. وهذه الامور مجتمعة محروم منها اطفالنا خاصة في عكا القديمة في الوقت الذي لا يجدون غير الحارات المهملة والالعاب المحطمة التي اقامتها البلدية لمرة واحدة ولم ترمم، بينما في الاحياء اليهودية دائما نراها في حالة جيدة لاستمرار التصليح والترميم لها.
كذلك بادرت لاقامة مهرجانات للاطفال العرب اسوة بالطفل اليهودي الذي ترعاه البلدية باقامة المهرجانات له، واصبح مهرجان يوم الطفل العالمي من كل سنة رمز النضال للاطفال ومطالبتهم بالمساواة، والشعارات التي يحملونها بمسيرة هذا اليوم تطالب بحقه بالمساواة وحقوقه الاجتماعية ايضا. لقد تساءل كثيرون بانه ما الداعي لاقامة هذا العمل المرهق والمكلف؟ لكن مثل هذه التساؤلات لم تكن تزيدها الا اصرارا وقوة وعزما، وبسمة الاطفال وفرحتهم واثراؤهم بمعرفة حقوقهم وردود فعل الاهل الايجابية كل ذلك يعطيها ايمانا بمبدأها ودافعا قويا على الاستمرار، ومزيدا من الصمود والتحدي امام من تصدى لمشاريعها، فمثلا التمييز بين الطفل العربي واليهودي من قبل رئيس البلدية لم تتردد في ان تشرح  عن ذلك امام أي من الوفود الاجنبية سواء عن نقص الالعاب في الحارات او نقص الميزانيات وعن قطع المياه عن الحضانة والروضة، وعن شح الميزانيات واهمال الاهل في تسديد رسوم تسجيل الاطفال او فقرهم او عدم وعيهم لضرورة وجود طفلهم في اطار كهذا لم يدفعها لاتخاذ اجراءات ضد الطفل كعدم استقباله في الحضانة والروضة مثلا، وانما كانت تبحث عن حلول اخرى. كثيرا ما لجأت لصناديق تمويل في خارج البلاد، وتشرح لهم عن وضع الطفل باللغة الانجليزية التي كانت تتقنها.
هذا الوضع الذي ادى لتسمية المشروع باسم "السنديانة" لكي يصمد امام من سعى لافشاله ولشل نشاطها. بذلت جهودا جبارة لتحصل على حقوق الطفل من مساعدات سواء من البلدية او الشؤون الاجتماعية، لم تيأس من رفضهم المرة تلو الاخرى، ولم تتردد في ايصالها للكنيست ونجحت بذلك، وعندما سمعت احدى الموظفات اليهوديات في بلدية عكا عن وفاتها قالت: من الذي سيطرق لنا على الطاولة بعد ذلك.
كذلك دأبت على ملء فراغ ساعات بعد الظهر وسعت لمشروع "فعالية بالالعاب" للطفل برفقة امه ليلعبا سوية. بادرت لتأسيس فرقة دبكة للناشئين، كذلك فعاليات موسيقية للاطفال، دأبت لاحتضان مشروع "فتيات في ضائقة" باشراف اخصائيات اجتماعيات، وكل ذلك لقي نجاحا واحتراما بين اهالي البلدة ومؤسساتها اخيرا.
لقد طال عطاؤها السخي وبنيتها الفكرية لتكون مُصلحة اجتماعية احيانا فتسعى لارشاد اولياء امور الاطفال كيفية التعامل مع اطفالهم، واحيانا لتوفق بين زوجين على خلاف وكثيرا ما نجحت بذلك. هي اول من بادر للمساعدة والتضامن مع من يعاني من ويلات المباني القديمة في البلدة القديمة في عكا سواء من انهيار سقف المبنى او نشوب حريق فيه نتيجة تماس كهربائي، كذلك المشروع الذي اعتبرته مشروعا وطنيا وهو حملات الاغاثة، كان اصرارها على ان تكون الحملة على اعلى مستوى من الترتيب والنظافة. كان همها الوحيد ان تنصف الآخر وتحس وتشعر بالآخر واوجاعه وجعلها هذا ان تتبنى عائلات فقيرة في البلدة.
هذا قليل من كثير، هذه هي ابتهاج خوري، سنديانة ترمز للمحبة والحنان والعطاء الدؤوب لبلدها ومجتمعها ووطنها. هي سنديانة رغم انف المغرضين، ورغم انف القوامين على النساء. لقد اثبتت بان المرأة مناضلة من الدرجة الاولى، تستطيع تحدي القهر والتخلف اذا ما كانت مدركة لهما.
فُجعنا برحيلك المفاجئ يا ام منذر، حين اختطفتك يد المنون، لم نودعك لذلك لن ننساك، لكن عزاءنا الوحيد هو الرصيد الذي اثبتّ فيه بان للمرأة قوة جبارة، وعيا وادراكا ضد ما اشيع عنها في المجتمعات بشكل عام.
الف رحمة على روحك الطاهرة، ولابنائك ومجتمعك ولوطنك طول البقاء.

(عكا)

هيفاء دلال ضاهر *
الأثنين 28/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع