بين خيوط الأيام



كانت تموج كقطرات الندى وقد داعبتها شمس الحياة، فأيقظت فيها الحرية، ودب فيها الدفء والنشاط من جديد. وما هي إلا لحظات حتى بدت كأيقونة بلورية متناسقة ألوانها، أبدعتها أنامل صانع ماهر، أو فنان ساحر، حين لمحتها تقف... كل شروقٍ على شرفة الحياة وتنظر إلى الأفق البعيد. صور عبرت في شريط مخيلتها عندما كانت تجلس أمام القاضي، امتزجت بعاطفة وحنو نحو الماضي، حين التقت به في إحدى الحفلات. راودتها تلك الأفكار وباغتها ذلك الدفء، وبدأت تتراقص الرعشات في أوصالها حين تذكرت قبلته الأولى، وتماهت مع ذاتها لحظة التذكر، عندما كانت تغيب في عتمة الأنفاق الجسدية، شعرت كأن الدنيا تدور بها كدوران الظل حول سرية الحس الأنثوي. أضحت تُمطر حبًا في حدائق أيامها، فينمو حولها كسنابل الربيع، احتضنت الزمن من حولها وذهبت في رحلة ما بين حدسها ويقينها، كونها امرأة تملك بئرًا من الشعور وتحمل الكرامة فوق كتفيها.
لم تدرك أن للخريف أنيابًا، وأنه أضحى زنبورًا يطنّ في الفراغ،ويخفي جلّ ضعفه خلف رائحة خمرته المنبعثة من آخر الليل، وأن تلك الفحولة التي كانت سلاحًا تحمي رجولته، أصبحت في سرواله في سراديب العدم.
كان يسقط على رأسها كالشهبِ، ويغلق أمامها طريق الوصول إلى هضبة الاطمئنان، ويتسلق قمم خوفها، ويجعل صمتها بركانًا من الانفعال.
استمالَ الضوء على وجنتيها بحنان، واستقرَ فوق قلقها نحو مستقبلها المجهول. تنهدت من أعماقها وانكمشت على نفسها بعد أن استقطبت كل العالم من نور وجودها، ، استمدت قوتها من ذلك الشعاع الآتي من المدى، وانتفضت انتفاضة الغزال من براثن الخوف في الغابة. تباعدت تلك الأفكار وهجم  الحاضر ،وجثم بواقعيته على المشهد، فكان سيد الموقف ، وأصبحت الحقيقة كالشمس في عزّ النهار، وذلك عندما رأته يجلس ندّها أمام القاضي، وإذ بخطوات الانفعال والتوتر تقترب نحوها ، وتدخل في خندق الصمت الصارخ. ولكن عندما وقع نظرها على سامر،حينها رفعها فوق أشرعة الأمومة ،وحملها على كفوف الإحساس بحب الحياة التي استمدتها من ابتسامة ابنها حينما رأته.
تقوست خاصرة ذلك اليوم المنبلج من قرار القاضي في وجهه، واخترق قلبه كالسهام ،وخرج من قاعة المحكمة يصرخ ، ويهمهم بأنه سيستأنف الحكم.
وهي.. لمع الضوء في أفقها وتغيرت تعابير وجهها، وانفرجت أساريرها، وتدفق شلال الأمومة، واحتضنت ابنها وغمرته بالقبل ،وركضت كالفراشة تعانق المدى ، وأسرعت نحو السيارة لاصطحاب سمر.
هكذا انطوى الزمن الغابر في طيّات الرحيل، وتحولت المسافات بينهم إلى واحة يحيطها الأمل في المستقبل الآتي،وعاد الدفء في البيت البارد من جديد.
 فتحت هدى النافذة وتأملت غروب الشمس واستمالها لون الشفق الداكن، تبسمت وهمست "ما أجمل الغروب بعد الشروق، وذلك اللون الداكن المحفور في أديم السماء، يعكس ألوان الطيف في سرية الوجود".
وفاء عياشي بقاعي
الأثنين 28/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع