سهم وقِرطاس...



يقفُ القمرُ على حافَة الليل في الأفق الرحيب كفكرة في خيال شاعر، وتزرع النجومُ سنابل النور في غياهب الأيام، ويكتب العشاق كلام القلوب على ورق السَّهَر، ويغفو الأطفال في أرواح الأمّهات والآباء، ويبحث الباكي في عَتَمَة الليل عن تبسُّم الصَّباح، وترصد عينُ العِناية السارق والزاهد والقاتل والعابد، ويَكشِف الليلُ في عَتَمَتِه ما لا يكشفه النهارُ في نوره من سرقة وقتل وخيانة وكَذِب!
فما زالت الحياة عندي يا أخي خير معلِّمة وأفضل مدرسة،.. وما زلت أقرأ صفحاتها واعتبر بكلامها، فلا أَمَلُّ هذا الكتاب الذي أجالسه كل يوم كما يجالس النغم صداه على شَفا الموسيقا.. فهي التي تعلِّمني كل حين أنّ الإنسان الذي يَمُرُّ بها رائقًا لا يحمل غير بَدَنه، يَذهَب ذهابَ غيوم القَيْظ إلى أودية العدم.. وتعلِّمني أيضًا أن الإنسان الذي لا يملأ قلبَهُ عطرُ المحبّة كزهرها الميَّاس، ولا يُغرِّد على أفنانها كعصفورها البهيّ، يختنق بغبار حقده وبنَئيم بُومِه،.. وتعلِّمني أنها تحتضن كل أبنائها، كما تحتضن سماؤها كل الطيور، وأن النسيم الذي يخرج من عشوش الشجر عند الصباح، يمر على الورد كما يمر على الشوك والهشيم في غابة الدنيا..
وما زالت الحياة عندي يا أخي خير معلِّمة وأفضل مدرسة، بعد والدِيَّ اللَّذين حمَّلاني زهرًا فائح العطر لكلّ أرض يَباب، وبسمةً لكل حزين مظلوم، وقلمًا يَسفَح مِن خَلَدي شيئًا منِّي، هو حُبّي لِشعوب الأرض وتحرُّقي على هذا العالم بآلامه وأحزانه...  
فلا تبتئسْ يا أيها الشاكي خلف ملامح الليل ولا تضعُفْ.. وَدَعْ قلبَك يبحث عن قوته على مائدة الفرح، لأنّ العيشَ قصيرٌ على عدد سنينه، والعمر لحظة مِنْ مَسِيرة ذلك الشَّيْخ، ألا إنّه الدهر. أَلا ترى أنّ الكأس التي نَشرَب فيها العلقم هي الكأس التي نشرب فيها الدِّرياق والتِّرياق، وأن اليوم الذي يسفح مِن جبهتك رذاذَ التَّعَب والشقاوة هو اليوم الذي يزرع في غدك أزاهير الرّاحة والسّعادة، وأن البحر الذي يطعن خاصرة السفينة هو البحر الذي يُبلِّغها بلدًا قَصِيًّا من تلك البلدان..!
جمِّعْ مشاعرك المبعثرة على طريق أحزانك، وانظر إلى الشمس التي تفكّ أغلال سجون الليل، وتأمَّل الرّبيع الذي يخرج من أنياب الشتاء،.. وتلك النجوم الساطعة بين أمواج الظّلمة، التي استطاعَتْ أن تَشُقّ إزارَ الليل بأسنّة أنوارها!. ولا تقل لي ما بالُ الأبرار في هذا العالم، الذين يملأون خوابيَ أعمالهم بِرًّا وعطاءً للناس، فيستنكرهم الدهر ويأخذهم بغير ما يستحقون ويلفظ أحلامَهم إلى مَهبّ الريح؟!!.. إنّهم يا أخي أكثر ابتسامًا من الضاحكين، وإن حَزِنوا شديدًا، وأكثر مجدًا مؤثلا من الأعيان، وإن كانت أيديهم خاليةً من المال والمعاش، فإن الله لا يُنكِرهم، ولكن الخمَّار يعتِّق خمرَه لعرس كعرس قانا الجليل...
فما أجمل العيشَ في فَرَحنا وتَرَحنا، على وجوهه الباكية والضاحكة.. نغدو ونروح ونسمع صفير البلبل مع تَنعاب الغراب، ونقرع أبواب الرزق في جدران الحياة، ثم نعود إلى مآوينا معادَ العصافير إلى عشوشها على الأغصان حين تظهر ملامح الليل على مُحيّا النهار. فهكذا الحياة،.. هي زهرة تسير على حدّ السيوف الماضية، وبسمة تتدرحج من قمة الدموع الجارية، والفضل لمن يضمِّد جروح الخيبة والهزيمة، ويُسدِّد سهمَهُ غير مرة قِبَلَ القِرطاس، فيسمع وَقْعَ النجاح بعد الإخفاق.. لأنّ سفينة العمر بحججه وأيامه لا تنتظر أحدًا على مرافئ الراحة ومراسي اللهو.. كما لا ينتظر الشتاء رجلاً نائمًا مُستثقَلاً لا يُقبِل على أرضه ولا يزرعها..
فاحمل يا أخي معولك كل يوم، وأقبلْ على أرض هذه الدنيا، وازرعْها برًّا وصلاحًا وسلامًا، ولا تبخل على نفسك بما تهبه للناس، لأن المحتاجين إلى البِرّ أكثر من صانعيه في هذا العالم، وكينونة المرء أصداء أعماله في مجتمع الناس، فما من أحد يجني الثمرة حتى يزرع الشجرة، وما أضعف الموتَ الذي يقوى على إهلاك امرئ ولا يقوى على إفناء بسمة زرعها في ثغر طفل، وصالحةٍ مقيمة مع الناس، تجري بألسنتهم وتمشي بأقدامهم على هذه الأرض...
Iyas2007@gmail.com
إياس يوسف ناصر
الأثنين 28/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع