كَفْكِفْ دمعَك يا صنوبر



من نافذة السّيّارة شممتُ رائحةَ الربيع وسمعتُ همس الحفيف ووقع خطى أيّار، مجنونٌ أيّار، يترك "أكواز" الصّنوبر تطلّ برأسها من قوقعة الأغصان، ويَتْركني أُلَمْلِمُ إبَرَ السَّرو أخِزُ بها جُرْحًا لمَّا ينْدَمِل، يطلّ من نافذة القلب كلّما هبّتْ مواعيد الذّكرى..
قبْلَها لَمْ أعِ غَدْرَ أيّار، أمّا الآن فَكُلَّما عَبَقَ برائِحَةِ زَعْتَرِهِ، وشَمَمْتُ فَوْحَ الصَنَوْبَرِ في الأحراج القريبةِ ، شَعَرْتُ بِنَكْهَةِ حُزنٍ تَعْتَري أيّامي ...ولمستُ خشونةَ صُدفةٍ اجترحت كياني وذكرياتي ..ذكرى يومٍ انتفضتْ فيه معلّمة الموسيقى وهي تعلّمنا أغنيةً جديدة، تعزفها على "الأكورديون" فيَنْفتِحُ وينغلقُ مُصدرا لحنًا غريبًا، نردّدُه دون وعيٍٍ وندندن؛ "......غرّد الطير الشّادي وعمّتِ الفرحة البلدان بين السّهل والوادي"، والمعلّمةُ تصفع الآلةَ الرّابضةَ على صدرها، تنفخ فيها لحنا صاخبا نافرا، سرعان ما تخفي انتفاخَهُ وتداريه، ونحن لا نسمع زقزقةً ولا نرى فرحةًَ تعمّ السّهلَ، إلاّ فرحة عطلة العيد التي أنبأتْنا المعلّمة أنّها ستكون غدًا .
نمنا نمنّي أنفسنا بغدٍ صاخبٍ، ينشلنا فيه العيدُ من البيت ويزرعنا بين الأشجار، لكنّ الأحلام استيقظتْ على رفضٍ قاطع.. حدجَنا أبي بعينٍ تغرغر فيها الدّمع وقال : " مستحيل"!
 
-         لكنّه عيدٌ يا أبي.
-         ومَن قال لكم ذلك؟
-         المعلّمة.
-         وماذا قالت؟
-         لم تقل شيئا، كانت تنتفض على غير عادتها وتعلّمنا أغنية العيد.
-         لكنّ العيدَ ليس لنا.
-         لا يهمّ أبي، دعنا نذهب في نزهة.
-         مستحيل. العبوا في الحرج القريب....
 
   لكنّه رغم الحزنِ والرفضِ، استحال مستحيلُهُ إلى موافقةٍ خجلةٍ من عدم معرفتنا بالمنكوبين، وقرّر أن يأخذنا في جولةٍ تتحدّى الحزنَ وتحملنا في الطريق بين الناصرة وحيفا لنتعرّف على معالِم غيَّرَ التاريخُ تاريخَها.
وَمِن نافذة السيّارة فاحَ دمعُ الصنوبر، فنزلنا نكفكفُه، جَريتُ وأخي الصغيرَ فَرحينَ  بالانطلاقِ، تسلّقنا الشّجرَ نعفْنا الترابَ وتسابقنا نزولاً وانزلاقًا على عيدان الأشجار، ابتعد أخي، بحثتُ عنه وبحثتُ .. واعتراني خوف الفراقِ من شؤمِ اليومِ .. وحديث  أبي عن منكوبينَ لم يعودوا، وعدتُ مُسْرِعةً فزعةً نحو الأهل، فإذا به قد سبقني حاملاً سلحفاةً تُخَبِّئ رأسَها ، كي لا يراها أحدٌ تطلُّ في مثل هذا الحزن المخزي
 
-         من أين أتيت بها؟
-         كانت تزحف عند الصخور.
-         دعنا نبحث عن سلحفاة ثانية، هيّا ...
 
وانزلقنا نختصر مسافات البحث متَّخذين ما تساقَط من إبر السّرو وعيدان الصنوبر مِزلاجًا إلى أنْ وصلنا فسألت أخي، أين وجدتها؟
أشارَ إلى صخرةٍ كبيرةٍ ترعى صغارَ الصخرِ والقواقعِ تحتَ كنَفها، أحْنَينا ظهورَنا مُتَقَوْقِعينَ داخِلَ صمتٍ كبيرٍ سائرينَ على أطراف الأصابِعِ مُتَجَنِّبينَ رَفَّةَ العينِ وصوتَ النَفَسِ كَي لا تهرُبَ مِنْ خُطى مطاردتنا الصغيرة سلحفاةٌ بطيئةٌ كُنَّا على وَشَكِ الظَفَرِ بها، لكنَّ ثلاثةً قفزوا مِن وراء الصّخرة الكبيرة، حوّلونا إلى مطارَدين، فرّ أخي بلمح البصر، بينما حاصرتني بنادقهم المصوّبة نحو دهشتي  ودقّات قلبي المتسارعَة ...تجمّدْتُ، وتلاحقتْ أفكاري الرّهيبة؛ أين تركني أخي؟ هل لحقَه أحدهم؟ هل ستعيدُ القصّةُ أحداثَ  ذات أيّار وسنصبحُ منَ المنكوبين؟؟؟
 فهمتُ من البندقيّة التي تلوحُ في وجهي معنى سؤالٍ وجّهه ذاكَ بلغةٍ لا أفقه منها إلاّ ما يشبه لغتنا ...وبضع كلماتٍ تعلّمتُها السّنةَ في المدرسةٍ، فأجبته:
-         أنا مع أمّي وأبي و..
 فلوّح ببندقيّتهِ بعصبيّةٍ ودوّى السّؤال يقطع أنفاسي المتهدّجة:
-         ماذا تفعلون هنا؟؟
-         نبحثُ عن..
    وضاعتْ منّي كلمة سلحفاة بلغتِهِ، فاستعملتُ لغة الإشارات أقوقع أصابعي وأقفّعها، أضع يدًا فوق الثّانية لأُخرِجَ أصابعي على شكل رأس يطلّ مِن صَدَفَةٍ، لكنّهم لم يفهموا.. كرّرْتُ بالعربيّة "سلحفاة، سلحفاة"، فازدادت عصبيّة البنادق المصوّبة، وكنتُ قد نسيتُ خوفي منشغلةً بإيجاد طريقة أو لغةٍ أشرح فيها عمّا أبحث.. أشرتُ لثلاثتهم  وللصّخرةِ الكبيرة التي تواروا وراءها  وكيف أطلّوا مخرجين بنادقهم من قوقعة الخوفِ..لكنّهم استشاطوا غضبًا من جهلي بلغتهم، سحبّني أحدهم من يدي وسألني بالعربيّة :
-         أين؟؟
-         تتكلّم العربيّة؟
-         أين؟
-         ماذا؟ السّلحفاة؟
-         فلَكَنَ بعربيّةٍ ركيكةٍ: ماذا يعني سلحفاة؟
    فأخذتُ أدور وراء الصّخرة باحثةً عن تلك البطيئة التي اختفت، ونجاتي تحت قوقعتها، وبنادقهم  تدور حول يدي تنبش في التّراب.. ولا تجد شيئا، تناقشوا فيما بينهم، صرخ أحدهم على الآخر.. فكّرتُ في استغلال الفرصةِ والهرب صعودًا نحو أهلي.. لكن ماذا لو أطلقوا رصاصهم نحو هربي؟؟ وإذا بقيتُ  واختفتِ السّلحفاة هل سأنجو من أيديهم، أم سيُعيد أيّار غدرهُ؟؟ لحظاتٌ هي فسّرَتْ لي سرَّ انتفاضة الآلة الموسيقيّة على صدر معلّمتنا، وسرَّ حزن أبي من عيدٍ ليس لنا، وسرّ دمع الصّنوبر ووخز السّرو فارتعشْتُ حزنا وأشرتُ لهم أنْ يسيروا خلفي  ليروا السّلحفاة التي أحضرها أخي، حدّقوا في بعضٍ وحدّقتْ فوّهات البنادق في عينيّ.. وإذا بأبي وأخي يركضان صوبنا فتحوّلَتِ الفوّهاتُ نحوهم.. وتحوّلَ حزنُ أبي غضبًا ثائرا في وجوههم، مستنكِرا رعبهم وخوفهم مِن أطفال يلعبون في الأحراج ويبحثون عن سلاحف تختبئ خلف الصّخور لتطلّ بفوّهة رأسها في وجوههم...
  صرخ والدي فلوّحوا بأصواتهم مهدّدين، ووسط ثورة الألم والندم خرجَتْ تتهادى من تحت الصّخر، تطلّ برأسها منزعجةً متفاجئة، ركضْتُ وأخي صوبها، فلم تخبّئ رأسها، أظنّها عرفتْ كيف تتغلّب على حزنها وخوفها، وعرفت كيف تحمل بيتها على ظهرها تحميه برأسٍ يطلّ شامخًا....   

(أبو سنان)

راوية جرجورة بربارة
السبت 3/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع