محمود شقير.. شكرًا لأنك أنت!



محطات حياة ومبادئ ومواقف السكاكيني تشبه إلى حد كبير حياة ومشاعر ومواقف محمود: صدقه مع الذات، تقديسه الحرية، إيمانه بالإنسان وقدراته، تعففه عن المصالح الشخصية والمناصب، كرهه المنافقين، وطنيته العالية، كونيته المتقدة، علمانيته، عدم رضاه عن تخلف ذهن البلاد مع انتمائه الهائل لقضية هذه البلاد، حزنه الوجودي، ثقافته العالية


في مرحلة خواء الثقافة الفلسطينية، والمخترة الثقافية واستخدام المناصب والمواقع الحزبية والعائلية والمؤسساتية والشللية لإقصاء الآخرين واغتصاب اسم وروح الثقافة، زمن تغيير الوجوه، والاتجاهات، عبادة الذات المبدعة، منهج تحطيم إنجازات الآخرين، الدسّ بينهم، العيش على خلافاتهم، التعامل مع الأدباء وكأنهم قطعان من الخرفان، التوسل للنقاد من أجل الكتابة عن الأعمال الأدبية، زمن النصوص السريعة المليئة بالدهون والشحوم في مطاعم ومطابخ "النت"!؛ تزداد صورة القاص محمود شقير لمعانًا ورقيًا ومصداقيةً وشفافيةً، هذا الرجل  الأمل، لن يتجادل معي أحد حول نزاهته وصدقه في الكتابة كما صدقه في الحياة. المثقف في فلسطين لا يحب أن يسمع مديحًا لأحد من زملائه إلاّ إذا كان هو نفسه هذا الممدوح، لكن هناك إجماعًا بين مثقفي فلسطين على استحقاق هذا المبدع المديحَ دائمًا.
لماذا إذًا نجا هذا القاص الهادئ من دوامات الحسد والنميمة والتشويه؟ بإمكان الحديث عن شقير أن يصبح ذريعةً للحديث عن أمراض الحياة الثقافية الفلسطينية وتشوّهاتها، كما يصلح الحديث عن هذه الأمراض أن يكون ذريعةً للحديث عن محمود الإنسان والمبدع، فكلما رأيت سلوكًا مريضًا لمثقف فلسطيني؛ أتذكر فورًا محمود شقير، وأقول: يا ألله، كم هو واحتنا هذا الرجل!، الحديث لا يدور هنا عن شخص عاديٍّ، بل عن ظاهرةٍ ضائعةٍ متمثلةٍ في سلوك وروح شخصٍ يعيش بيننا، ولكننا، غالبًا، لا ننتبه إليه؛ لأننا مشغولون بسبّ الآخرين، والتّرويج لما نكتب.
لماذا أنا من المتحمسين لنظرية تجنّب الاحتكاك بالأدباء والفنانين المبدعين الفلسطينيين، الذين نحب كتاباتهم، تجنّب رؤيتهم والحديث معهم؟ لأن مجرد رؤيتهم والاستماع إلى نبرات أصواتهم، يسقطان منّا الإحساس بملائكيتهم، يكسران أبعاد الكريستالة اللامعة التي ربتها فينا نصوصهم المدهشة. تذكروا كيف نشعر حين نتعرّف عن قرب إلى بعض ممّن نحب من المبدعين: لا، لا، ليس هذا من أقرأ له، هناك خطأ ما!. لكن ذلك ليس خطأ هؤلاء الأدباء؛ إنها طبيعة الأشياء، سُنتها، لا إدانة هنا لهم، بل توصيف للحالة، الاستثناء هو حالات غريبة معذبة قدّر لها أن تلتحم فيها نصوصهم بحيواتهم كما تلتحم شقتا البرتقالة قبل شقها إلى نصفين، مبدعون كثر، روائيون وروائيات، رسامون ورسامات، شعراء وشاعرات، مخرجون ومخرجات، أحببت شخصيًا أعمالهم، عشتها، تعلمت منها، بنيت عليها كما تبنى كل نصوص العالم على ما سبقها من نصوص، بعضها شكّل مفارق ومفاصل في تجربتي القصصية، وربى داخلي ذلك الحيّز المقدّس الغامض الحلو من النقاء والألوهة، وذوبان الزمن، واتحاد الأمكنة، وبريق جوهر التاريخ الإبداعي البشري وخلاصاته، لكن بمجرّد رؤيتهم انتهى كل شيء.
كل شيء، بالطبع ما عدا قلة أبرزهم محمود شقير، متناثرين هنا وهناك غير قادرين على التأثير في الوضع الثقافي، حين نقرأ نصوص محمود القصصية نرى وجهه ونسمع صوته، وحين نراه ونسمع صوته نقرأ نصوصه، أعترف بأن هذا النوع من الأدباء يسبب لي الارتباك، والألم. الارتباك؛ لأنني أكون في حضرة الحيز المقدس نفسه، سائلا إلى الخارج بكل خلوده وعمقه وحرارته وطزاجته؛ فمن الخارق وغير الطبيعي أن تتمرأى النصوص واللوحات والقصائد والروايات والأغاني على شكل إنسان يتحرك ويبتسم ويشرب أمامنا القهوة، ذلك يشبه أمنية بعيدة المنال. والألم؛ لأن عليّ أن أحصل على هذا الكائن ليبقى بجانبي دومًا يزودني بالإلهام ويعطيني الأمل. إن مفارقته تشبه مفارقة قدرة خارقة حصلنا على سرها. من منا في لحظات تعال تافهة لم يهاجم أعمال الكبار؛ لأنهم لم يمسوا شغاف أرواحنا بأعمالهم كما ندعي؟ محمود شقير كانت له زاوية نظر أخرى.
في جلسة صغيرة كنت حاضرًا فيها ذكر أحدهم اسم الروائي أمين معلوف؛ فتمادى الجالسون في مديح رواياته، إلاّ محمود شقير، فقد تحدث عن عدم قدرته على مواصلة قراءة معلوف، ليس لأن أدب معلوف ضعيف أو ركيك، كما قال، بل لأن الخلل في داخله؛ لأنه لا يميل إلى الرواية التاريخية. هذا تفسير صادق وحقيقي يليق بروح عالية، روح استثنائية منسجمة مع جزئياتها بصورة محيّرة، من الفلسطيني الذي يجرؤ على مواجهة نفسه وتعريتها؟ لم يكتب محمود الرواية حتى الآن، لماذا؟ الآن فقط أنهيت مكالمتي السريعة معه: أبو خالد، لماذا لم تكتب الرواية حتى الآن؟  "والله لا أعرف، يمكن نوع من التهيب".
أستطيع الآن أن أعدد أسماءً كثيرةً  شعراء وطلاب جامعات ونقادًا وصحافيين وأكاديميين وأصحاب مواقع إلكترونية  تقول في السر والعلن وبلهجة متماسكة خالية من الخوف والتردد أو الإحساس بالمسؤولية: إنها تكتب الآن أو كتبت روايات تنتظر النشر. إلهي، كم أحسدهم على جرأتهم!
أعترف بأنني تعلمت من أبي خالد هذا الخوف الجميل، بل هذا الرعب من مجرد التفكير بكتابة رواية.
وفيًا ومخلصًا ظل محمود شقير لفن القصة القصيرة، المعزولة عالميًا والنابضة في بطن حوت، عزلته الرائعة في القدس المعزولة هي الأخرى زادت حضوره داخلي وعند من يعرفه نورًا على نور.
لماذا يعشق أبو خالد خليل السكاكيني الذي عاش معزولاً؟ لماذا يطارد شبحي ابنتيه دمية وهالة في أزقة القدس؟ لأن محطات حياة ومبادئ ومواقف السكاكيني تشبه إلى حد كبير حياة ومشاعر ومواقف محمود: صدقه مع الذات، تقديسه الحرية، إيمانه بالإنسان وقدراته، تعففه عن المصالح الشخصية والمناصب، كرهه المنافقين، وطنيته العالية، التي لا تتعارض مع كونيته المتقدة، علمانيته وحماسه للحوار والتعددية وانفتاحه على الآراء الأخرى، عدم رضاه عن تخلف ذهن البلاد مع انتمائه الهائل لقضية هذه البلاد، حزنه الوجودي، ثقافته العالية. لم ير محمود العالم بعيني الحزب الضيقة الواثقة والمقولبة، بل رآه بعيني الفن المتشككة والمعقدة والعميقة والفاحصة والشمولية، فترى أن الثيمة الأساسية في كل أعماله هي التقاط الحزن البشري والتضامن مع المتألمين والأرواح المكسورة، بصرف النظر أكانوا عمالاً أم فقراء أم أغنياء أم ملوكًا، لم تجبره المؤسسة التي عمل فيها لسنوات على أن يكون جزءًا من طبيعتها التي تشجع على الكسل والتآمر والنميمة، عجزت عن أن تصنع منه متلونًا وشتامًا ومقاولاً كما تصنع عادة هذه المؤسسات في العالم العربي من موظفيها. من أجل كل ذلك نحن نحب هذه الظاهرة، هذا الرجل، خصوصًا في مرحلة هذه الصحراء المسماة ثقافة. عزيزي محمود شقير: شكرًا لأنك أنت.

* قاصّ فلسطيني مقيم في رام الله

زياد خداش
السبت 3/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع