عن حبيبي ومـغـَنيـِة



في ليلة سوداء معدومة القمر، من ليالي صـَيف العام 2006، انفجرت ثلاثة صواريخ روسيّة- الصنع، من طراز كاتيوشا، أحدها في مبنى جريدة الإتحاد التاريخي والبقيّة في بقعتين إضافيتين بداخل حي وادي النسناس العريق، فقتلت ثلاثة مواطنين عرب أبرياء، وهدمت قسما كبيرا من عمارة صحيفة الاتحاد.
وفي مساء حالك السواد في أوائل العام 2008، انفجرت على حين غرّة، عـُبوةٌ ناسفة داخل رأسيّة مقعد وثير لسائق سيارة "جـيب" حديثة، في قلب العاصمة السوريّة دمشق، راح ضحيـّتها رئيس قسم العمليات العسكريّة لحزبُ الله عماد مْغنّية!

.................................

في مكان مجهول معتم بارد وغريب في الأوّل من أيار 2008، جرت مـُقدمة تعارف قصيرة بين إميل حبيبي وعـِماد مغنية. بعد مقدمة التعارف القصيرة دار الحوار السريالي التالي بين الشخصيتين.
إميل حبيبي مخاطبا عـِماد مْغنّية: "كنتُ في انتظارك منذُ عام ونيّف!".
مغنّية: "انتظرتني أنا ؟! أنا بالذات! لا شكّ أنّك مخطئ تماما!".
حبيبي مبتسما: "نعم انتظرتك أنت بالذات!".
مغنيّة: "ولكن لماذا؟ فأنت إميل حبيبي كاتب وصحافي شيوعي على ما أظنّ؟ لماذا تنتظر وصول رجل أصوليّ مسؤول عن العمليات العسكرية بالذات، يا تُرى؟".
حبيبي: "لأسألك سؤالا واحدا بسيطا! لماذا؟".
مغنيّة: "يا أخي حبيبي، أو ربما تفضـّل أن أناديك الرفيق حبيبي، صدّقني، لقد مرّت عليّ أيام صعبة للغاية في الشهر الأخير كنت خلالها قد فقدت رأسي تماما وعقلي ذهب أدراج الرياح، كما يقولون فأرجوك لا بل أتوسـّل إليك، لا تحدّثني بالألغاز والرموز! لماذا ماذا؟؟!".
حبيبي: "حسنا.. إنني كما تعلم كنت رئيسَ تحرير جريدة الاتحاد لمدّة ثلاثين عاما ونيّف. لماذا أمرْتم بقصف الواد والاتحاد؟ لماذا؟! ألا تعلم أن الاتحاد هي رمز كتب في صفحاتها كتاب، وأدباء وشعراء فلسطينيون كبار مثلي أنا طبعا، ومثل توفيق طوبي، وعلي عاشور، وصليبا خميس، وحنّا أبو حنّا، وسلمان ناطور، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وغيرهم وغيرهم من الذين تضيق المساحة هنا بذكرهم! لماذا لم تقصفوا عمارة الـ"سوليل بونيه" مثلا، وهي رمز من رموز الصهيونيّة. هذه العمارة تبعد عن مبنى الاتحاد حوالي 650 مترا فقط، إلى الشمال الشرقي؟ أو كما تقولون أنتم في قاموسكم الحربي، تبعد بزاوية قدرها رُبع درجة إلى الشمال الشرقي!".
عماد مغنيّة يضحكُ، فيقول: "الآن فهمت قصدك يا أخي. أولا دعني أعتذرُ باسمي وباسم حزب الله عن عمليّة القصف العسكريّة هذه. لم نقصد بهذه العملية أن نفجّر مبنى الاتحاد! ولكن عليك أن تعلم، وأنت الكاتب الكبير كما تشهد عن نفسك، أنّ هذه الصواريخ هي صواريخ بدائية وقديمة لا يمكن تصويبها بدقة. فإن أي خطأ طفيف في عملية إطلاق الصاروخ، قد يؤدي إلى أن يحيد الصاروخ عن الهدف المرجو بمئات الأمتار أحيانا. على فكرة، قل لي ماذا تعني بالضبط الـ"سوليل بونيه" هذه؟".
حبيبي: "يشـقّ- يبني".
مغنيّة: " يشقّ ماذا؟ ويبني لـمن؟".
حبيبي: "يشقّ أراضي العرب ويبني لليهود بالطبع".
بعد فترة صمت حبيبي: "ولكن ما هو هدف عملية القصف الأصلي بالضبط؟".
مغنيّة بعد فترة صمت من التفكير يقول: "آسف يا أخ إميل. لا أستطيع أن أخبرك بذلك فهذا كما لا بد أنّك تعرف سرٌ عسكري. ثمّ لقد تعرّفنا بعضا على بعض منذ لحظات معدودة فقط، وأنت من عرب الـ48، فهل أستطيع أن أثق بك تماما؟".
حبيبي غاضب جدا: "مرّة أخرى تخوّنون البقيّة الباقيـة والصامدة من الشعب الفلسطيني!! نحن فلسطينيون وطنيون فلا تقـَولبني بقالب عرب الـ48 من فضلك، فقد كنا نحن في فلسطين قبل عام الـ48 وبقينا فيها وسنبقى فيها بعد عام الـ 48 أيضا! إنّ ضريح قبري ما زال قائما في حيفا ومخطوط عليه: "باق في حيفا"! فمن أنت أيها الشاب المتعجرّف مقصوف الرقبة، لتعلّمني الوطنيّة أو لتشكّك في نواياي الوطنيّة الفلسطينية والعربية".
مغنيّة: "آسف يا أخي! ولكن لا تستهزئ برقبتي وأنا بهذه الحال. لم أقصد التشكيك فيك. إنني أتحدّث إليك الآن كما تعلم، بعد حادث تفجير أليم قد فقدتُ من جرّائه جزءا من ذاكرتي. وأنا لا أذكر الآن ماذا كان هدف القصف في تلك الليلة بالذات!".

فترة صمت....

مغنيّة مازحا: "ثمّ لو أخبرتك بالهدف قد يعتقلك فورا الشاباك في بلادك، بتهمة مساندة العدو، كما حدث مع رئيس حزب التجمع! أتعرفـه؟"
حبيبي يبتسم: "لا أعرفُ غيرهُ. كنت ألتقيه كثيرا في مؤتمرات الحزب الشيوعي أما الآن فإني أشاهده كثيرا على شاشات فضائيات الجزيرة وأبو ظبي... ولكن أتتفهم الآن يا عماد في أيّة ظروف صعبة للغاية يعيشها الفلسطينيون الباقون في وطنهم والمتشبثون فيه؟ فمن جهة يـخوّنهم إخوتهم العرب في الدول العربية، ومن الجهة الثانية تلاحقهم باستمرار المخابرات في الدولة التي يعيشون فيها كمواطنين!! لهذا كان علينا كقيادة أن نبني مؤسساتنا الوطنية بأنفسنا من نقطة الصفر، فبنـينا الحزب الشيوعي والجبهة الدمقراطيّة ولجنة الدفاع عن الأراضي، ولجنة المتابعة ولجنة رؤساء السلطات المحليّة و.." ثم فترة صمت وجيزة.

 

حبيبي: "ثمّ لا تدع الوجل يدخل قلبك يا أخي من المُخابرات! فنحن هنا في هذا المكان البعيد المُعتم، لا الشاباك ولا الموساد ولا حتى "السي آي إي"، يستطيعُ أن يسمعنا أو أن يتنصّت لناّ".
مُغنيّة يضحك بصوت عال: "هكذا كان بالضبط يطمئـِنني دائما رفاقي في دمشق. وانظر إلى أين وصلت حالتي الآن! إنظر إلى رأسي أو إلى ما تبقى منه. أنظُــر!".
حبيبي: "إنّ قصتك يا سيّدي تشفي من الصمم، كما كتب شكسبير!".
مُغنيّة: "على فكرة يا أيها الرفيق، أبلغني، بالله عليك، أين نحن موجودون بالضبط؟ هل نحن في مرحلة الإنتظار؟".
حبيبي: "في انتظار ماذا؟".
مغنيّة: " إنتظار لحظة الحساب وقرار الحكم من السماء، بعدها نصنّـَف إلى الجنّة أو النار. منذ متى وأنت تنتظر هنا بالضبط".
حبيبي يضحك: "أنتَ تسأل أسئلة صعبة وكثيرة، ولكن قبل أن أجيبك عليها قل لي هل أحضرت معك، عن طريق الصدفة، قنينة ويسكي حتى ولو كانت صغيرة قد يريحني ما في جوفها من الصداع الذي أصبح يتملكني بعد وابل الأسئلة التي رميتني بها؟".
مغنيّة: "أستغفر الله العلي العظيم. هل فقدت عقلك كليا يا رجل ورأسك ساغ سليم ومحمول فوق رقبتك؟! أقول لك اننا نمرّ الآن في مرحلة الانتظار التي تأتي قبل مرحلة الحساب، وأنت تسألني عن المنكـَر؟! سألتك فأجبني: مُـنذ متى وأنت تنتظر هنا؟".
حبيبي يضحك: "منذ عشر دقائق تقريبا".
عماد: "ياه وأنا أنتظر منذ أكثر من شهر. هل توفـيت قبل عشر دقائق فقط؟!".
حبيبي: "لا، بل قل قبل أكثر من عشر سنوات!".
عماد مندهشا: "لا أفهمك بتاتا! نحن في مرحلة الإنتظار ننتظر محاسبتنا عند ربنا. أليـس كذلك؟".
حبيبي يضحك ثانية: "أيّ انتظار وأي محاسبة يا أيها الشاب عماد؟ نحن موجودون داخل حيّز حلم!".
مغنيّة: "حـلم؟ ومن الذي يحلم بنا؟".
حبيبي: "إنّه أحدُ أعضاء الحزب الشيوعي في حيفا على ما أظنّ ذو خيال شرقيّ مجنّح واسع، إنه يحلم بنا وبهذا الحوار الذي يدور بيننا".
عماد مغنيّة يصرخ ُ بصوت عال: "أنت كاذب يا شيوعي، يا كافر؟!".
حبيبي يبدي فورا إشارات القلق فيقول: "أخفـِض صوتك من فضلك! لو استيقظ صاحب الحلم ذو الخيال الواسع لاختفينا أنت وأنا كما يختفي الدخان أو لتبـّخرنا كبـخّار الماء عند غليان القهوة العربية! آه كم أشتاق لشرب القهوة العربية، خاصة بعد احتساء الويسكي بدون حساب، في الليلة السابقة!".
عماد مغنيّة: "أعوذ بالله منك؟ أما زلت تتمنّى المُنكَر ثانية! إنني الشهيد عماد مغنية لا أستطيعُ أن أكمل الحديث مع كافر من أمثالك!".
حبيبي: "حسنا. إنني كافر وأنا أعترف بذلك! ولكن أخبرني من فضلك: المؤمنون من أصدقائك في دمشق، الذيـن باعوك وخانوك وسلّموا رأسك للإسرائيليين على طبق وثير من مقعد سائق في سيارة فخمة، تماما كما سلّم يهودا الإسخريوتي السيد المسيح إلى الحاكم الروماني، هل هؤلاء المؤمنون سيدخلون برأيك الجنّة أم النار، وفق قوانين إيمانك؟".
عماد مغنيّة في حـيرة من أمره: "لا أعرفُ بالضبط. إنّه سؤال صعب. إنني كما تعلم، غير مطلع تماما بأمور الدين وفق المذهب الشيعي. الشيخ حسن يعرف أكثر مني. إسأله أنتَ عندما تقابله. قد يكون موعد لقائكما قريبا فالإسرائيليون وراءه والخونة من حوله. ثم إنّ هذا الأمر لا يعنيني الآن فأنا أنتظر قرار ربّي وحسْب!".

.................................


حبيبي مازحا: "لنُعد إذا إلى موضوعنا الأساسي، لماذا قصفتم مبنى جريدة الإتحاد بصواريخ روسيّة بالذات؟! ألم تستطيعوا قصفها بصواريخ فرنسيّة مثلا، عندها كنت فهمتكم وتفهمّتُكم!".
مُغنيّة يجيب بكل جديّة: "نحن لا نملك صواريخ فرنسيّة أصلا! لكنـنا حصلنا مؤخرا على صواريخ روسية ودقيقة أكثر بكثير".
حبيبي: "أنظر يا صديقي المؤمن إلى الصور الأخيرة التي وصلتني مؤخرا من الجوّ لمبني الإتحاد المرمّم!! اليس جميلا هذا المبنى بعد ترميمه الكامل والشامل؟ لم يكن المبنى بهذه الروعة والجمال عندما كنتُ اشغل منصب رئيس تحريرالإتحاد".
مُغنيّة في حيرة من أمره وابتدأ يتملكه قلق خفي وعميق: "من أين وصلتك صور مبنى الإتحاد الدقيقة هذه؟".
حبيبي"لا..لا أعرف. يبدو أنّها صور تتناقلها المواقع في الإنترنت"
مُغنيّة: "بالضبط. هذا ما ظننته تماما. إنّها صورٌ مأخوذة من موقع "جوجيل- إيرث". نحن في قوات حزب الله كنا نستعين بهذه الصور في حرب لبنان الأخيرة لكي نستطيع قصف المواقع الإسرائيليّة الإستراتيجيّة. لقد وفّرت علينا هذه الصور مشاق إطلاق قمر اصطناعي التي تفوق طاقاتنا. ولكنْ للأسف الشديد استطاع اللوبي الصهيوني في أمريكا مؤخرا أن يضغط على الكونغرس الأمريكي الذي أجبر بدوره شركة "جوجيل- إيرث" فأصبحت تلك تبث صور القمر الإصطناعي، مشوشّة قليلا من فوق دولة إسرائيل. تصوّر، يا رفيق، صور "جوجيل إيرث" واضحة تماما فوق كل بقعة من بقاع العالم ما عدا من أرض العدوّ. فلو اخترنا أن نقصف تركيا أو قبرص مثلا لكان الأمر أسهل علينا بكثير".
حبيبي: "يبدو أنّ الصور الواضحة لمبنى الإتحاد المرمّم قد التقطت قبل تدخّل الكونغرس الفظ هذا. هل تستطيع يا عماد في الحرب القادمة أن تقصف بدقة موقع مؤتمر العمال العرب في حيفا؟ لقد وصلت إلى مسامعي مؤخّرا شكاوى عديدة من الرفاق، على المكيّف الهوائي الذي لا يعمل هناك، وعلى طابق المؤتمر الذي يحتاج إلى ترميم عام. فما أجملَ وأحلى من أن ترمّم حكومة دولة إسرائيل قاعة المؤتمر العريقة هذه للحزب الشيوعي، على حسابها الخاص".
مُغنيّة: "سأعطي أوامري لأجل خاطرك بهذا الصدد. ولكنـَني ما زالت تتملكني مشاعر القلق الشديد. فما حاجة الخالـق العظيم لأن يستعين بصور بدائية لمدينة حيفا من "جوجيل- إيرث". ولماذا كان عليه أن يستعين بشبكة الإنترنيت المصنوع من هذا الإنسان الفاني؟ ألا يستطيع الخالق أن يحصُلَ وحده، على صور ذات جودة عالية وهو خالق الكون وكل ما فيه".
حبيبي: "عماد يا عماد! أقول لك وأكرّر إننا بداخل حلم غريب عجيب يقارب السرياليّة، وأنت ما زلت تتساءل عن أعمال الخالق!".
مُغنيّة:" أنت تكرّر موضوع وجودنا في حلم ثانية. أعوذ بالله منك يا أخي. أنت لا تمنحُ أخاك المعذّب من الإنفجار الكبير عماد مغنيّة أي فسحة من الأمل لدخول الجنّة!".
حبيبي: "بل بالعكس تماما. نحن في الحزب الشيوعي أردنا وما زلنا نريد ونسعى، إلى أن نعطي كل الناس فسحات من الأمل في العيش بكرامة فيها كل مقوّمـات الحياة الأساسية من مَسكن وملبس وتعليم مجانيّ للجميع، ولكننا في الحزب سعينا ونسعى إلى أن يتحقق ذلك على أرض الواقع وليس بالحلم أو في الجنّة!".
مُغنيّة: "أحاديثك هذه يا حبيبي، تذكـّرني بالأيام الخوالي وبما ما زال يصرّحه كاسترو في كوبا وشافيز في فينزويلا، والرئيس القبرصي المنتخٌب مؤخرا، والرئيس المنتخٌب للتوّ في باراغواي، اللذَّين لا أعرف إسميهما بعد، لأنهما انتخبا بعد حادث اغتيالي".
حبيبي: "إنّ هذه الأحاديث تذكـّرني أنا أكثر بقصص وبواقع الإتحاد السوفيـيتييييي".. ........"يابا. أرجوك إستيقظ يا أبي. لا أرغب أن أتأخّر مرة ثانية عن المدرسة"
كاتب هذه السطور: "ديمة، دعيني أجهّز نفسي بسرعة لكي نذهب وأخاك معا إلى مدرستك!".
 ... وبعد فترة وجيزة ديمة: "أبي، ما هو الإتحاد السوفييتي هذا الذي كنتَ تردّد اسمه بصوت عال وأنت تحلـُم؟ هل هو منظومة نجوم بعيدة مثل "منظومة- ألفا" التي حدّثتني عنها باستمرار بأنّها مجموعة من النجوم التي قد تشمل بداخلها الحياة مثلما تتواجد الحياة بكل أشكالها هنا على الأرض"؟
كاتب السطور: "لا، إنّ الإتحاد السوفييتي ليس مجموعة من هذه النجوم بالضبط، ولكنّه يشابه إلى حد بعيد منظومات نجوم قد ماتت وتفتقر الآن الحياة. تلك النجوم حتى لو ماتت منذ زمن، ما تزالُ إشعاعاتها الفضية المتلألئة تضيء سطح الكرة الأرضيّة من أجل الشعوب التي فيها، في كلّ ليلة مُظلمة!!..".

هشام عبده
السبت 3/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع