في الذكرى الستين للنكبة: ألشــــال



       عاد يلحّ عليها بالسؤال : أماه أين الشال ؟ الوجه الذي لم يعرف الصمت ، يطلق سراح بضع كلمات ، خرجت مخنوقة ومتقطعة : انه في مكان آمن .
     عيناها اللتان لا تجيدان الهرب ، استطاعتا هذه المرة الهروب ، و بدت أمه متشاغلة عنه في الحياكة . لم لا تبدد قلقه و حيرة قلبه بإجابة شافية ، لا يزال اختفاء الشال يثير اضطرابه ، ترى أين هو ؟
     كانت دائمة الحديث عنه ، تتفاخر به و هو يكلل كتفيها و ظهرها النحيل في المناسبات النادرة في حياتها ، تلتصق به كتوأم سيامي و هي تروي للجميع قصته ، و كيف خاطرت بحياتها لتجلب خيطانه من السميرية ربيع 1948 تحت سماء رعدت نارا و أرض عهدتها خضراء منذ طفولتها تحولت في ساعات الليل إلى رماد ، عادت إلى قريتها بعد أن هرع الأهل و الجيران و من في البيارات الى كويكات  ، تركت أهلها في الطريق و تسللت لتجلب خيطان الشال التي أودعتها السيدة العكاوية رئيفة لديهم، و التي قدمت خصيصا الى السميرية للبحث عن والدتها آمنة أسعد، أشهر من يجيد الحياكة على الصنارة، و طلبت منها صنع شال أسود من الحرير النابلسي ، لكن أمها رفضت ، كيف تصنع شالا لغريبة و بالأجرة و هي ابنة المختار؟  أما السيدة العكاوية فلم تيأس ، أخذت تثني على أمها بحديث لبق و تقنعها : "سمعت عنك من تجار خان الحرير في عكا و عن غرائب و عجائب الغرز التي تبدعينها، سلمت يداك ، و أنا أرغب بارتداء شال من صنع يديك ، أريده شالا ذكرى ، أرجوك ، سيتخرج ولدي البكر من الكلية العربية في القدس و سنقيم له مولدا، و أرغب بارتداء شال مميز تتحدث عنه سيدات عكا " . لكن أمها لم تقتنع ، و أصرت على الرفض حتى تبدلت الأحوال بسبب الحرب و مرض جدها ، فاصطحبوه الى عكا للعلاج و احتاجوا للمال ، فلم يكن بوسعها سوى قبول عرض السيدة وتسلم العربون .
    أحضرت أمه الشال إلى كويكات و أخذت تساعد في حياكته ، و أضافوا اليه بعض الغرز قبل الانتقال إلى عمقا حيث كانت المياه مفقودة هناك ،صنعوا وسط الشال بغرز تملؤها الفراغات ثم ارتحلوا الى يانوح حيث وجدوا الماء لكن القصف كان يلاحقهم، فهرعوا الى ترشيحا . لبثوا قليلا حتى اشتد القصف فتوجهوا الى الشيخ دنون و لم يجدوا مأوى لهم سوى الحقول التي أحاطت بهم من كل جانب و أوشت بهم فلم يسلموا من الذخائر، فلجأوا الى دير القاسي هناك أبدعت كل من الجدة والأم غرائز جديدة للكتفين و حين فروا إلى تربيخا كانت قد أنهت أعلى الشال ، و كانت الأخبار قد وصلتهم عن سقوط عكا ، فتذكرت السيدة رئيفة و وعدها لها بانجاز الشال الغريب و وجدت الغرز مختلفة فيه من بدايته الى نهايته ، أرادته شالا غريبا و أصبح كذلك بالفعل ، شالا لا مثيل له . طوته وحملته معها كروحها من قرية إلى أخرى . في جويا وقانا طـُلب منها صنع مناديل للرأس بعدما بسطت الشال تعرضه للناس . فوافقت على الفور وأخذت تطلق على كل غرزة جديدة اسم القرية التي أبدعتها فيها . أما السيدة رئيفة فقد لجأت الى بيروت و أرسلت من يبحث عنهم في المخيمات و حين عثرت عليهم ، طالبت بالشال ، لكنهم رفضوا تسليمه ، فذكرتهم بالعربون وبثمن خيطان الحريرالنابلسي الباهظ . عندئذ خلعت الجدة من معصمها سوارا ذهبيا رفضت السيدة رئيفة أخذه ، و انصرفت ولم تعد ثانية اليهم ومنذ تلك الساعة غدا الشال ذكرى عزيزة و إرثا غاليا لا يمكن التفريط فيه و المساومة عليه ، فأين اختفى؟
    قلبي يخبرني بأن مكروها ما حدث له . أيعقل أن تكون أمه قد باعته تحت وطأة العوز و المرض ؟ لقد وعدته أن تقيم له مولدا يوم تخرجه من الجامعة و بأنها ستزين نفسها المتعبة به . و ها هو قد عاد و لم تف بوعدها . عقله يقوده الى منزل السيدة رئيفة الذي بحث عنه بمشقة . قرع بابها باضطراب ، حين دخل وجد أمه تجلس بجوار عجوز تلتف بالشال الأسود المفقود تشده الى قلبها بقوة بينما تحادثها أمه : منذ سنين بعتك الشال ، لتأمين مصاريف السفر لولدي الذي حصل على منحة جامعية أتذكرين ؟ لقد وعدتني أن تعيديه لي كمكافأة اذا تخرّج ولدي من الجامعة .
  بصعوبة خلعت العجوز الشـال و ناولته لأمي و هي تتنهد : خذيه ، كنت سأسعد به في يوم عظيم كيومك هذا ، لو لم تمزق شهادة ولدي الرصاصات الغادرة و تستقر في قلبه ، ليتها مزقت صدري و دفنت بدلا منه في عكا .

( مخيم عين الحلوة )
(الكاتبة ابنة النكبة/ الجيل الثالث)

فنار عبد الغني *
الأربعاء 7/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع