هذا الفن اصيل حقا



في صالة العرض للفنون التابعة لرابطة إبداع في كفرياسيف وفي معرض "ايحاءات نسائية" وذلك بمناسبة اسبوع المرأة العالمي وعيد الام القادم. كان اختيار تسمية هذا المعرض نتيجة حتمية  للمشاركات فيه وهن جميعهن من الفنانات دون مشاركة اي من الفنانين أعضاء إبداع في هذة المرة. ساهمت في هذا المعرض اثنتا عشرة فنانة من عضوات رابطة إبداع ومن خارج الرابطة حيث قدمت كل فنانة لوحتين من إبداعها. وقد وقع الإختيار على سميرة مطانس لتكون منظمة هذا المعرض الذي زاره ويزوره الكثيرون يوميا.
تجولنا بين اللوحات فلفتت أنظارنا عدة أمور ميزت هذا المعرض عما سبقه من المعارض. هذا التميز جاء بسبب الموضوع الذي هو المرأة، والموقف منها، وموقفها مما يحيطها في مجتمعنا الذكوري وتطلعاته المستقبلية وقد راوحت الأعمال بين الرسم بالماء أو بالزيت وليس بالاسود والأبيض. ونحن نعرف ان الرسم بالالوان المائية صعب للغاية لانه يلزم الفنان ان يكون دقيقاً في اختيار الألوان ويقظا أثناء وضعها على اللوحة كما أنه ليس من السهل محو المساحة الملونة بعد تلوينها أو تغطيتها بلون آخر. وأن الورق الناعم لا يصلح كثيرا بل الخشن هو المفضل. أضف الى ذلك أن هذه الألوان شفافة في الغالب لذلك تتطلب يدا سريعة خفيفة الحركة.
قلنا في عنوان هذا المقال إن هذا "الفن أصيل" وذلك باعتبار أن كلاً من الفنانات المشاركات كانت لديها الفكرة أولاً قبل البدء بالرسم وقد وضعت كل منهن هدفا أمامها ألا وهو التجديد من خلال الفكرة. ثم إن إضافة اللمسة الناعمة هنا أو هناك سوف تغير كثيرا من شكل اللوحة ومن إيحاءاتها. ولما كان العنوان " إيحاءات نسائية" فإن معظم اللوحات اتخذت المرأه ، أوضاعها، ظروف معيشتها ومعاناتها موضوعا لهذه اللوحات.
لن نتحدث عن كل ما شاهدناه في هذا المعرض بل سنكتفي بالحديث عن لوحات لثلاث فنانات هن سميرة مطانس وجهينة حبيبي قندلفت وسلوى نمر عيسى.

 

* الفنانة سميرة مطانس والإنطلاق إلى الأعلى :

للبصة- تلك القرية المهجرة- مكانة خاصة في القلب. وذلك لان والدتي رحمها الله كانت بصاويه من عائلة العموري وكنت كثيرا ما أزور البص في العطل الصيفيه فأقيم لدى جدتي وخالي، وقد تركت هذه الإجازات الصيفي ذكريات جميلة عن أيام زمان ولذلك أشعر بالقربى لكل من ينتمي إلى هذه القرية التي هدمت عام 1948 وشرد أهلها ولم يبق من معالمها سوى بناية الكنيسة القائمة على أطلالها والشاهدة على عظم المأساة التي حلت بأهلها عام 1948.
الفنانة سميرة كنعان مطانس هي بصاوية أيضا وترسم بالألوان المائية وهي المنظمة لهذا المعرض حيث ساهمت فيه بتواضع بلوحتين اثنتين فقط.
اللوحة الأولى رسمت فيها حمامة كبيرة تهم بالإنطلاق والطيران ولكنها ما زالت على  الأرض وهي تشد رأسها ومنقارها  الى الاعلى في محاولة منها الى الانفلات من الأرض وكأن شيئا ما يقيدها فلا تنفلت. هذا القيد بالأرض هو تعبير عن محبة الانسان العربي للوطن وأرض الوطن وعدم التفريط بأي شبر منه. ومع أن رجلي الحمامة لا تظهران في الصوره إلا أن صورة أم حزينة بائسة تحمل طفلاً حزينا بائسا أيضا مغمض العينين تغطي رجلي الحمامة وقد لونت الفنانة وجهيهما باللون الأصفر وهو لون الموت وأحاطت الوجهين باللونين الأسود والبني الداكن في محاولة منها لإبراز استعداد الانسان العربي للموت والشهادة في سبيل الأرض من جهة ولحزن هذا الانسان – هذه المرأة في اللوحة- على الأرض التي سلبها المحتل إن شكل الحمامة يوحي بمحاولة انطلاقة الشعب العربي الفلسطيني نحو الحرية الى جانب تعلقه بالأرض.
أما ذيل الحمامة فقد رسمته بحجم كبير في محاولة منها لإقناعنا أن باستطاعة هذه الحمامة أن تحمل الأم وطفلها الرضيع وكأن شيئا ما يهدد حياة الأم  وحياة رضيعها في وطنهما السليب فتأتي حمامة السلام لتبعدهما عما يهدد أمنهما وسلامتهما.
الطابع الغالب على هذه اللوحة أمران فيهما تناقض فمن جهة طابع الحزن حيث ظهر اللون الأزرق دموعا متساقطة على جناح وذيل الحمامة في ترميز واضح إلى حزن ويأس الأم وخوفها على طفلها وطابع الثورة والنقمة على الأوضاع التي يعيشها شعبنا في الضفة والقطاع حيث تسلط طيور الفولاذ الأمريكية الصنع صواريخها على القادة الفلسطينيين وعلى الأمهات والأطفال والشيوخ فتتصطادهم من الجو! من هنا فإن غلالتي السواد اللتين تحيطان بوجه الأم وطفلها هما رمز لهذا البؤس والخوف!
في اللوحة الثانية تعود الفنانة سميرة كنعان مطانس إلى نفس الحركة ولكن بشكل أكثر وضوحا حيث رسمت إمرأة راكعة على ركبتيها وفوق رأسها شيء يشبه صاروخين لونهما أسود بينما في الخلفية ينعكس اللون الأحمر بشكل عفوي مما يوحي بأن المرأة تعاني من الموت الساقط على رأسها من السماء ! هذه اللوحة فيها تعبير صادق مما تعانيه المرأة الفلسطينية في قطاع غزه والتي تعيش حالة الحصار الإسرائيلي وهجوم مروحيات الأباتشي التي تقتل الحياة حيث توجد الحياة! وقد أضافت الفنانة بعض الخطوط السوداء المتشابكة للدلالة على أن هذه المرأة تعيش حالة الحصار والكبت وحتى القتل! هنا يستنتج المشاهد إمكانية وجود تأويلها لهذه اللوحة: إما القتل على أيدي العدو المحتل، وإما القتل على شرف العائله! للمشاهد أن يقرر ما يستنتجه من مشاهدة هذه اللوحة خاصة وأن الفنانة لم تطلق على أي من لوحتيها أيه تسميه يستعين بها المشاهد على تفسير الفكرة التي استوحتها الفنانة قبل البدء برسمها.
كانت الفنانة سميرة المذكوره قد ارتنا مجلة عنوانها "شبابيك" كرست كل صفحاتها للوحات رسمتها. وقد اعتقدت لأول وهلة أنني إنما أنظر إلى نفس اللوحة في كل الصفحات ولكن مع تغيير بسيط ولمسات فنية خفيفة إلا أن نظرة متفحصة ثانية جعلتني أومن أنني إزاء لوحات تحمل كل منها لونا خاصا وفكرة جديدة على الرغم من تكرار فكرة الأسود والأخضر والأحمر والأزرق على خلفيه بيضاء عاجية اللون.
وعندما تصبح الالوان أكثر كثافة وأقل شفافية يبدو المضمون أكثر وضوحا حتى ولو أن الفنانه لم تختر عنوانا لأية لوحة من لوحاتها كما ذكرنا فهي تبدو ثائرة على الواقع الذي تعيشه المرأه ملتزمه بما يشغل بالها وهي المهجرة من البصة كما مر معنا، كذلك فإن ذاكرتها التي إنطبعت فيها ذكريات خالدة من البصة باتت عصية على النسيان . فأبناء البصة، وأبناء البروة، وأبناء القرى المهدمة منذ عام 1948 وما بعده يعيشون ذكريات الماضي التي لا يمكن أن يمحوها الزمن ولا مر السنوات.

 

* الفنانه سلوى نمر عيسى والحجاب: 


أول لوحة تواجه زوار المعرض هي للفنانه سلوى نمر عيسى الطمراوية. تبدو فيها مجموعة من النساء المحجبات وقد أدرن ظهورهن للمشاهدين، بينما ترفع إحداهن بيدها طفلاً صغيرا عليه بقايا قيد مكسور كناية عن كبت الحريات. خلف اليد التي تحمل طفلاً ينبعث نور ذهبي وهاج يوحي بالحياة حيث ان نور الشمس الوهاج هو سبب حياة الإنسان على كوكبنا الأرض وقد يوحي بالانفجار كناية عن أن هذا الطفل قد قتله الانفجار ولم تستطع يد الأم القويه حمايته! لذلك ترى مجموعة النساء يلبسن المسوح البنفسجية الفاتحة بينما تتلفع إحداهن بالبنفسجي الغامق القريب من السواد! لم أر في هذه اللوحة ما يوحي بالحداد لأن جميع النساء تلفعن باللون البنفسجي وهو لون فيه الكثير من الجمال والتفاؤل. فإذا كان النور المنبعث من الخلف في وسط اللوحة يوحي بالحياة فإن اليد النسائية المرفوعة والتي ترفع الطفل إلى فوق توحي بالقوة والإصرار على الحياة برغم الموت! ولما جمعت الفنانة سلوى هذه المجموعة من النساء وباللون الليلكي فإنها إنما ترمز بذلك إلى أهمية الاتحادات النسائيه في نضال جماهير شعبنا، فالمرأة التي تهز السرير بيمينها تستطيع أن تهز العالم بشمالها! فكم بالحري إذا كانت المرأه ثاكلاً ولديها كثير من المرارة والحزن واليأس والنقمة مجتمعة معا!
تشارك الفنانة سلوى في هذا الصالون التابع لرابطة إبداع لأول مرة كما أعتقد ومع ذلك فإن لوحتها هذه توحي أننا إزاء فنانة واعدة بالرغم من صغر سنها وقلة تجربتها إذا ما قارناها مع باقي الفنانات في هذا المعرض.
أما لوحتها الثانية فقد استوحتها من حياة النسوة المحجبات حيث تعيش في جو كل نسائه محجبات، في هذه اللوحة تظهر إمرأه تلبس الحجاب الذي لا يغطي وجهها تلبس اللون البنفسجي خلف مجموعة كبيره من أغصان الشجر العارية من الأوراق للدلاله على أن المرأة تعيش حياة الكبت والحرمان. في عيني هذه المرأة شيء كثير من الحزن بينما ألوان أغصان الأشجار الداكنة التي تحجبها تمثل أكثر إلى السواد.
مرة أخرى نعتقد أن ظاهرة الألوان الداكنة تشير إلى الكبت والحرمان وإنعدام الحريات بينما يشير اللون البنفسجي إلى الأمل مقابل اليأس ! كذلك كنا قد قرأنا في ديوان أصابع للشاعرة منى ظاهر الزيداني قولها: إذا كنت أنت الرجل الأحمر فأنا إمرأة الليلك!
فهل استوحت معظم فنانات هذا المعرض من هذا القول الوانهن؟! والليلك هو نفسه البنفسجي مع فارق بسيط وهو يرمز إلى تحرير المرأة من عبودية الرجل في مجتمعنا العربي الذكوري!
الفنانة سلوى نمر عيسى لا تلبس الحجاب مع أنها كما ذكرت لنا تعيش في جو كل نسائه محجبات الأمر الذي يتطلب منها الكثير من الجرأة والاستعداد للخروج على الأمر المسلم به في مجتمعنا الا وهو الحجاب!

 

* خلط الألوان المحير لدى الفنانة جهينة حبيبي قندلفت:

الفنانة النصراوية جهينة حبيبي قندلفت شاركت في هذا المعرض بلوحتين. احترت أمام اللوحة الأولى التي لفتت أنظار الجميع لما فيها من تناقض كبير بين شكل الأم التي بدت كإيقونة لمريم العذراء تلبس فستاناً أزرق سماويا وقد كتبت على طول الإيقونة كلمات للشاعر محمود درويش هذا نصها:
" يا جميل!أتكبر مثلك ومثلي  بثينة؟! تكبر يا صاحبي، خارج القلب في نظر الآخرين، في داخلي تستحم الغزالة في نبعها المتدفق من ذاتها هي؟ أم تلك صورتها؟! إنها هي يا صاحبي! دمها، لحمها، وإسمها! ربما إستوقفني غدا في الطريق إلى... أمسها!"
في حديثي مع الفنانة جهينة صرحت لي أنها إنما استوحت هذه اللوحة وفكرتها من كلمات الشاعر الكبير محمود درويش!
قلت إن هذه اللوحة حيرتني بسبب خلطة الألوان وشكل المرأة التي تبدو كمريم العذراء التي شكلها يوحي بالطهارة والقداسة، فشعرها طويل مسترسل على كتفيها وظهرها تحيط به هالة من النسيج الليلكي، حوله خلفية بنية قاتمة الألوان. ومع ذلك نلاحظ أن هذه الفتاه لديها شيء كثير من الشموخ وعزة النفس. فالمتطلع لهذه اللوحة سوف يجد فيها إيحاءات كثيرة لحياة المرأة العربية المكبوتة خاصة لأن اللون البني قد تساقط أثناء الرسم في ما يشبه الدموع الغزيره المنسابة على الوجنتين! لذلك فإن الحزن البادي على وجه هذه " البثينة" يحمل الكثير من معاني التيه والضياع في تناقض واضح مع الشموخ وعزة النفس! فكيف نجمع إذا بين الإيحاءين؟ فالمرأة في اللوحة إنسانة لم تجد ذاتها ولكنها تحتضن بيديها شيئا ما يشبه طفلاً صغيرا تحيطه بيديها في لهفة بارزة وتحنو عليه بكل حنانها. فأية بثينة هذه التي رسمتها الفنانة جهينه والتي مر ذكرها  في كلمات الشاعر محمود درويش؟
في اللوحة الثانية رسمت صورة لفتاتين باللباس التقليدي تجلسان تحت سقف يشبه الخيمة المنسوجة من خيوط ملونة كما البساط المزركش بالبني والأحمر بينما إتخذت اللون الأصفر المطعم بتطريز أحمر لسقف هذه الخيمة. أما ملابس الفتاتين فتراوح بين الأزرق الفاتح والليلكي الداكن وغلب الليلكي على غطاء الرأس.
مرة أخرى إذا نقف أمام لوحتين لفنانة متمرسة ذات خبرة كبيرة في  فنون الرسم، لوحتين فيهما فن أصيل يجعل المشاهد يقف مشدوها أمام روعة ما يرى فيحصل  لديه إنطباع أنه يشاهد لوحات لفنانات أصيلات قد تمرسن في رسم اللوحات التي تعبر عن أفكار محددة إختارتها كل فنانه وقد غلب عليها اللون الليلكي حتى في المجموعات الأخرى التي لم نتطرق اليها في مقالنا هذا.
ولما كان المعرض قد أقيم في فترة عيد المرأة العالمي وأطلق عليه إسم  "إيحاءات نسائية"، فإنه من الطبيعي أن تدور مواضيع كل اللوحات حول قضايا المرأة العربية.
إن تركيز المنظمة سميرة مطانس على إشتراك فنانات رسامات فقط دون إشتراك فنانين رسامين فذلك لأن آذار هو شهر المرأة وشهر الأم وشهر الربيع، والمرأة هي زهرة الحياة، تلونها بأنوثتها وبجمالها كي تسعد الرجل وتسعد معه!

( كفر ياسيف)

د. بطرس دلة *
الأثنين 12/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع