من حكايات ما قبل النكبة: دخيلك يا شيخ المنطار



كان ضريحه ينتصب على رأس تلة تشرف على خربة المنطار، كان وليّا من اولياء الله الصالحين. لا يعرف احد من هو بالضبط، ولا من اين جاء، ولا كيف حلّ بينهم، ولا كيف مات في ربوعهم، ولا من دفنه، ولا من بنى ضريحه. يعرفون فقط ان اسمه كان احمد. ولكنهم لا يعرفون ما بعد احمد، لا يعرفون اسم ابيه ولا اسم جده، فاعطوه اسم قريتهم الصغيرة، خربتهم، خربة المنطار، ودعوه باسمها الشيخ احمد المنطار.
يعتقد بعضهم انه ربما كان احد النسّاك الصوفيين، ولكن غالبيتهم يرجحون انه كان احد المجاهدين ضد جيوش الفرنجة الغزاة في منطقة سهل الحولة الواقع على درب الجيوش الى دمشق الشام. يقولون انه كان يحرس الطريق بين عكا ودمشق، ويقف للفرنجة بالمرصاد. ولقد كرّمه وأجلّه اهل خربة المنطار، واحترمته قبيلة السّياد كبرى القبائل المجاورة، واعتبرته قرى وعشائر الجوار من اولياء الله الصالحين. واصبح ضريحه مزارا يتبركون به، ومحجا يقصدونه. ومع انه كان لمعظم القرى المجاورة وليّ يتربع ضريحه على اعلى مكان فيها، ويعتقد اهلها انه يحرسها ويحافظ عليها ويحميها من كل مكروه، ويتمتع بقداسة بالغة واحترام شديد من قبلهم، الا انه كان لشيخ المنطار قداسة خاصة ومنزلة رفيعة من اهل الجوار تفوق ما لغيره من اصحاب المقامات. فكان الناس يأتون اليه للتبرك به، وتقديم النذور اليه من اماكن بعيدة. يطلبون الشفاء لمرضاهم بفضل شفاعته وبركته. او يرجون الفرج ودفع البلاء من الله تعالى اذا ألمت بهم مصيبة، او اصابتهم ضائقة او توقعوا شرا. وقد حدث ذات سنة ان حل محل بالبلاد، وشح المطر، وامتنع الغيث، وذوى الزرع وهلك الضرع. فلما كاد يدركهم اليأس، هبت القرية عن بكرة ابيها واخذ الناس يفدون الى مقام الشيخ زرافات ووحدانا. جاؤوا بكبيرهم وصغيرهم، بشيبهم وشبانهم وعلى رأسهم إمام المسجد، ليقوموا بطقوس الاستسقاء.
وقف الامام على باب الضريح، متجهم الوجه، عابسا، ترتسم على محيّاه علامات القلق والخوف مما قد يحل بالقرية بعد هذا الجفاف وانحباس المطر، وهتف بصوت مخنوق:
- الله اكبر!
فردد الآخرون بعده: الله اكبر! ثم اخذ يتلو عددا من قصار سور القرآن بصوت متأن يكاد يكون متحشرجا. فيردد الحشد بعده آية، آية. ثم اخذ يتلو ادعية الاستسقاء وطلب الغيث، وادعية الرجاء والدعاء الى الله ان يهطل المطر وينزل الغيث. ان يغيثهم وينزل رحمته عليهم، والناس الملهوفون المتحسبون يرددون ما يقوله الامام كلمة كلمة، بخشوع وايمان ورجاء.
كانت زيارة ضريح الولي جماعة، وتلاوة القرآن والادعية، وهذه الروح الجماعية التضامنية، تقوي عزيمتهم، وتعزر صمودهم، وتشحنهم بالامل بفرج قريب. اذ انه لم يكن لهم من يحمل همهم، او يفرج كربهم، او يمد لهم يد المساعدة، لا جمعية ولا هيئة ولا مغيث.
وكانت بعض نساء القرية يأتين مرة في السنة، في موكب، لزيارة مقام شيخ المنطار وهن ينشدن الادعية والابتهالات، ويحملن على رؤوسهن اوعية مليئة بالحناء، يمرحن بها جدران المقام، ويرجون شفاعة الولي، ويطلبن بركته، ويدعون لابنائهن وبناتهن وازواجهن. وذات سنة، بعد ان انصرفت نساء القرية كل الى بيتها، تخلفت احداهن وهي حليمة زوجة الحراث محمود. عرفت النساء ان لحليمة مشكلة وان لها رجاء. كانت حليمة امرأة فقيرة في منتصف العقد الرابع من عمرها، اُما لخمسة، مرض اصغر ابنائها، حسان، وأضحت حالته صعبة وصحته في تدهور مستمر، وهي لا تملك ان تأخذه الى الطبيب في المدينة، ولم يبق امامها سوى ان تطلب شفاعة الشيخ، لعل وعسى. صلّت حليمة ركعتين في مُصلى المقام، ثم دخلت الى حيث يرقد الشيخ.. الى ضريحه. وضعت يدها على رأسه ورجته قائلة:
- يا سيدي، يا شيخ المنطار، انت شيخنا، وانت حامي بلدنا، وأنا طنيبة عليك، سايقة عليك جاه الله وجاه النبي تشفع لابني حسان لعل الله يشفيه. احنا ما النا غيرك يا سيدي. وندرٍ عليّ ان طاب ابني وشفي من مرضه، آجي كل يوم خميس وانظف المقام واشطفه بالماء، وأخليه زي الفل.
بعد ثلاثة اشهر اخذت صحة ابنها حسان تتحسن، واخذ يبلّ من مرضه شيئا فشيئا. آمنت حليمة ايمانا لا يعتوره شك ان بركات شيخ المنطار وشفاعته وراء تحسن صحة ابنها. فقررت ان تفي بنذرها الذي قطعته على نفسها، وأخذت تأتي كل خميس تنظف المقام ومحيطه راضية مرضية. وكانت نساء القرية من ذوات الحاجات يفضلن الصعود الى المقام ايام الخميس لأنهن كن يستأنسن بوجود حليمة التي ترحب بهن وترشدهن وتلقنهن بما يقلن وماذا يفعلن، فكن يفضين لها بمكنون قلوبهن وما يشغل بالهن. وكثيرا ما كانت بعض النساء القلقات على بناتهن من البوار وعدم الزواج يأتين عصر ذات خميس، خاشعات هامسات، يحرصن على ان لا يسمعهن احد، يطلبن بركة الشيخ ويضرعن الى الله امام ضريحه، ان يرزق بناتهن بعريس، ليقمن اسرة وينجبن ابناء صالحين.
كان لشيخ المنطار هيبة ورهبة ومقام رفيع في قلوب اهل خربة المنطار واهل الجوار من حضر وبدو. فضريحه لم يكن مكانا مقدسا فحسب، بل كان ايضا حرما ومأمنا ومكانا تحظر فيه السرقة والكذب والخديعة. فكان الفلاحون يودعون محاريثهم وادوات عملهم وحتى بذارهم في حرم المقام، يحدوهم ايمانهم انه هنا في رحاب شيخ المنطار لا يجرؤ احد على سرقتها او المسّ بها، كائنا من كان. وكثيرا ما كانت القبائل البدوية الضاربة خيامها بالقرب من خربة المنطار، عندما تشح المياه صيفا، تتخاصم مع سكان مستعمرة روش بينا المجاورة، المقامة على انقاض قرية الجاعونة الفلسطينية. ذلك لأنهم كانوا يسقون مواشيهم من مياه بئر ارتوازية حفرها المستوطنون. فاضطرتهم حاجتهم الى المياه وانعدام الآبار الارتوازية ان يتوجهوا كل صيف شرقا الى نهر الاردن، لسقاية مواشيهم. وكانوا كلما اعزبوا عند ضفة النهر يودعون جزءا من عتادهم وعدتهم من ادوات التنقل والترحال في حمى شيخ المنطار، فكان الحارس الامين على الامانات لا يجرؤ احد على المس بها، فقد كان اهل المنطار والقرى المجاورة يخشون بطش صاحب المقام، ويهابون هول انتقامه، ويرتعدون خوفا من غضبه. فقد كانوا يؤمنون انه اذا مس احدهم احدى الامانات فان الشيخ سينزل به عقابا شديدا الى درجة ان يشل يده او رجله او يعمي بصره. ولقد كان اهل قرية الجاعونة المجاورة يتحدثون بقصص كثيرة عن فلان الذي سرق محراثا فتيبست يمناه، وعن علان الذي لفظ انفاسه والمسروقات ما زالت في يده.
ولم يكن شيخ المنطار حافظا وأمينا على ودائعهم فحسب، بل انهم لم يكونوا بفضله بحاجة الى الشرطة او دور القضاء، فقد كان صاحب المقام يحل لهم مشاكلهم بشكل انجع واسهل. فاذا حدثت سرقة من أي نوع لأي شخص، وخامره شك بفلان من اهل القرية يقول لخصمه:
- هيا نذهب الى شيخ المنطار، ولتحلف اليمين هناك.
واذا شك زوج بزوجته كان يأخذها الى مقام الشيخ، فاذا وضعت يدها على القبر وحلفت دون تردد او وجل، فمعنى ذلك انها بريئة مما اتهمها به. اما اذا خافت واخذت ترتجف وتتلعثم، فانها تؤكد بذلك وساوس زوجها وشكوكه.
كان لهم، لأهل القرية والجوار، نوعان من القسم، قسم بصوت مرتفع بعيدا عن المقام، ولم يكونوا ليكتفوا به على الغالب، والقسم الثاني على القبر نفسه، وكان يعتبر في نظر المتخاصمين قسما قاطعا مانعا فاذا حلف المتهم امام الضريح دون خوف او وجل، غير خائف او مضطرب، يقتنع خصمه انه بريء مما نسب اليه. اما اذا اضطرب وخاف واخذ يتلعثم واحجم عن القسم، يقتنع خصمه انه مذنب وعندها لن يفلت من نقمة الشيخ ومن عقابه. وكثيرا ما كان يحدث ان المتهم عندما يقترب من القبر يعتريه الخوف والرهبة ويعترف بما اقترفت يداه خوفا من عقاب الشيخ. وعندها وجب عليه ان يعيد السرقة او يعوّض المتضرر.
ولقد كان لأحد كبار الاقطاعيين، القاطن بعيدا في بيروت بلبنان اراض واسعة في تلك البقاع. وكان لهذا الاقطاعي وكيل يقطن في مدينة صفد. كان هذا الوكيل يتصرف وفقا لتعليمات سيده البيروتي. فكان شديدا لئيما قاسي القلب في تعامله مع الفلاحين، وكان يعمل عنده حرّاث من اهل خربة المنطار، يكد ويكدح طيلة الموسم ولا يكاد يحصل مقابل عمله الشاق على قوت عياله، فمد يده وسرق من مخزن سيده شيئا من القمح وبعض الحبوب ليطعم اولاده. شعر الوكيل بالسرقة، فشك بحراثه فدعاه اليه وأخذ يحقق معه. ولكنه لم يكن يتحلى بالصبر فيحاوره ويداوره، بل باشره بالاتهام بالسرقة قائلا:
- لقد سرقتَ قمحا وحبوبا من الشّونه، وظننت ان الشوّان غائب لا يراك، وعليك ان ترد ما سرقته في الحال، فقال له الحراث:
- اقسم لك يا سيدي انني لم اسرق قمحا ولا حبوبا.
فقال له الوكيل:
- اتقسم بالله وتضع يدك على القرآن الكريم بأنك بريء ولم تسرق.
- نعم يا سيدي، أفعل.
فما كان من الوكيل الا ان جلب مصحفا ووضعه على الطاولة وأمر الحراث المسكين ان يقسم. بهت الحراث. وهاله ان ينفذ الوكيل طلبه في الحال. ووجد نفسه امام القرآن الكريم وجها لوجه. فارتعدت فرائصه، وشعر وكأن قلبه يهوي بين ضلوعه، وأخذته الحيرة والاضطراب وتردد ولم يمد يده ليقسم، فصاح به الوكيل صيحة جمدت الدم في عروقه:
- هيا اقسم في الحال!
فمد الحراث يدا مرتجفة مترددة، ولكنها لم تصل الى المصحف. فصاح به الوكيل مرة اخرى، بعنف:
-  قلت لك اقسم ايها الحقير!
لم يجد الفلاح بدا، إما القسم واما العقاب الشديد، والفصل من العمل، والجوع والتشرد هو وعياله، فأقسم ويده ترتجف، وقد جفّ حلقه ولم يقو على ان ينبس ببنت شفة.
نظر اليه الوكيل نظرة عدائية كلها شك وريبة، لم يصدقه على الرغم من قسمه على المصحف الشريف، فصاح به بغضب شديد:
- انت كاذب وقسمك باطل.
- ولكن يا سيدي لقد اقسمت على المصحف كما طلبت مني.
- لا اصدقك يا ابن الكلب، ستأتي معي الى شيخ المنطار. وهناك ستقسم على رأس الشيخ انك لم تسرق قمحا ولا حبوبا.
وأخذ الحراث المذهول يرجو سيده ويتذلل اليه عله يصدقه، ولكن دون جدوى. واضطر ان يمضي مع الوكيل الى مقام شيخ المنطار، وطوال الطريق كان الوكيل يتهدده ويتوعده ويشتمه ويركله الى ان وصلا الى المقام على رأس التلة.
وقف الوكيل بباب المقام وقال للحراث:
- هيا ادخل وضع يدك على رأس الشيخ واقسم انك لم تسرق!
وقف المسكين بعيدا عن الباب دون ان يتقدم قيد اُنملة، وقد اخذته رهبة شديدة، وانتابه جزع وهلع رهيبان، وذهب اللون من وجهه حتى اصبح ابيض كالثلج، وأخذ العرق يتصبب من جبينه ويقطر من ذقنه، واخذت اطرافه ترتعد خوفا وفرقا من عقاب الشيخ إن هو حلف كذبا.
فصاح به الوكيل بغطرسة ودون ان تأخذه به شفقة او رحمة:
- هيا تقدم يا ابن الـ..
فلم تعد رجلا الرجل تحملانه، وخرّ على ركبتيه متهاويا، وصاح بصوت مخنوق يخاطب من في القبر، وقد جهده التوتر:
- دخيلك يا شيخ المنطار.. دخيلك يا سيدي. أنا في حماك. انا دخيل عليك. احمني واصفح عني. جاع اولادي اياما لم يذوقوا فيها طعم الزاد، فاخذت قليلا من القمح لأسد رمق اطفالي، لست لصا ولا أنا بسارق... دخيلك يا شيخ المنطار. وأجهش الرجل بالبكاء.
شاهد الوكيل ما يجري، ونظر شزرا الى الحراث المنهار، دون ان تخفق في قلبه خلجة من شفقة، او تأخذه به رحمة. بصق على الارض وانصرف.

عدنان ابو السعود الظاهر
الجمعة 16/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع