الوطن أهم من الصيغة... والزعيم



للمرة العاشرة، وربما أكثر، نؤكد أن الوطن أو مشروعه قارب الهاوية أو دخلها. ومرة جديدة يسهل البكاء على سيل الدم والدمار وعلى الهجرة والتهجير، وتنظم قصائد الحرص على التعايش وفنون الهرب من الداخل الى إستجداء الدعم الخارجي وانتظار الحلول مرة من على سطح "كول" ومرة من جامعة عربية لم تعد تعرف حتى أصول السياسة في لبنان... ولكن شيئان وحيدان يغيبا أو يختلف عليها المسؤولون واللبنانيون: من المسؤول؟ وكيف نخرج من الأزمة؟ وعوض ذلك يعلو الصراخ من كل جانب الاستنفار العصبيات وشحن الغرائز ومنطق "قوم عني تفرجيك" وانتصرنا، مات الناس ولكن بقي الزعيم... نعم ليرقص أهالي الضحايا وليرقص حتى الجرحى والمعوقون وأصحاب البيوت المدمرة لأن الزعماء ما زالوا أحياء قادرين على بعث الروح في الغرائز المتيقظة واستنفار العصبيات من أجل "حرب قادمة هي حتماً قادمة" إذا ما أستمرت الصيغة على حالها... أو ليت هذه العقلية هي نفسها عقلية النظام الرسمي العربي الذي حول نكسة 67 الى إنتصار، لأن الأرض طارت وبقيت الأنظمة....

 

*       *       *      *      *

 

وبالعودة الى صلب الموضوع، صدر القراران، حصل الإحتجاج عليهما، أصرت الحكومة انفجرت بروفة الحرب، زاغت الأعين باتجاه البحر منتظرة دخول "كول" وصاغت الاذان باتجاه نيويورك ومجلس الأمن، وباتجاه الجامعة العربية.... وبعد ذلك بداية تراجع عن القرارين ولكن بعد خراب البصرة...

 

خابت الأعين والآذان "كول" تسوح و"بوش" مهتماً بأمرين لا ثالث لهما العراق وطريقه باتجاه إيران، وفلسطين وغزة وطريقها لا يمر اليوم عبر لبنان أما الثالث، لبنان، فما هو إلا البارافان.... وبعد ذلك يمكن لبوش ذرف الدموع ولتنفلق العربية السعودية ووزير خارجيتها غضباً من نتيجة لم يكن يعمل لها ولم يكن يتوقعها حين دفع الحكومة باتجاه  أخذ هذين القرارين المشؤمين والمشبوهين...

 

لقد تم تصدير القرارين باتجاه وضع "حزب الله" والمعارضة أمام خيارين، إما موت المقاومة أو دخولها في وحول الداخل وانقساماته المذهبية والطائفية، وكان متوقعاً الخيار الثاني، الأول لا علاج معه أما الثاني فيمكن بذل جهد لتداركه وإذا لم يتم التدارك، وهذا ما حصل، لعلاجه مع الوقت...

 

وكانت "داحس والغبراء" التي أرادتها حكومة لبنان... وما النتيجة حرب خسر معها كثيرون ولم يربحها أحد....

 

الخاسر الأول حكماً هو الحكومة وفريقها الأكثري... فها هي بعد مئات الشهداء والجرحى والخسارة الميدانية المحسوبة للمعركة تتجه للتراجع عن القرارين... ولا يهم خلق المبررات فالتراجع تراجع وإعلان هزيمة حتى ولو أصروا كما الأنظمة العربية على إختلاق النصر، وحجة النصر بحد ذاتها إدانة وما نسمعه على لسان البعض وخصوصاً "حجاج معراب" بأن المقاومة انزلقت واستعملت سلاحها بالداخل هذا بحد ذاته هزيمة وإدانة للقائلين به... فمن له مصلحة أكثر من إسرائيل وأميركا بانزلاق أو جر سلاح المقاومة الى الداخل وبالتالي فإن من شجع وأصدر قراري جر المقاومة الى الداخل تثبت إدانته بخدمة مشروع إسرائيل وأميركا بإنهاء ليس فقط سلاح المقاومة بل قيم المقاومة ومنطقها في لبنان كمقدمة لإزالة نتائجها....

 

والسؤال هنا هل نكتفي بالتراجع والتبجج بأنه سوء تقدير... في دول العالم حتى المتخلفة منها فإن سوء تقدير يذهب ضحيته مواطن واحد يؤدي الى استقالة المسؤول عن سوء التقدير أو التوقيت... فهل تمر هذه الخطايا التي كلفت الكثير مادياً ومعنوياً وسياسياً دون حساب؟ نعم من أساء التقدير والحساب والنية والمشروع ليترك الدفة وليستقل...

 

أما الخاسر الثاني الذي لم يتهمه أحد فهو النظام السعودي الذي صح فيه المثل "كاد المريب أن يقول خذوني" فثارت ثائرة "سعود الفيصل" معلناً هزيمة لم يعلنها نظامه حيث ضاعت فلسطين ونحن في ذكرى نكبتها الستين، هزيمة لم يعلن ألماً يوازيها حين ضياع الأراضي العربية بتواطؤ منه ومن شركائه عام 67،لم يعلن عنه بل ساهم بتغطيته شخصياً وكنظام عندما استباحت إسرائيل أجواء واراضي لبنان وأرواح أبنائه في عام 71 وعام 72 وعام 2006... وعوض ان يخرج من الأزمة بتوجيه النصائح بالحوار بين اللبنانيين نراه يخرج بمزيد من الاشتراطات والحقن باتجاه دفع الأمور الى مزيد  من التوتر واستخدام لبنان في معركة النفوذ بينه وبين القوى الإقليمية الأخرى والنتيجة المباشرة لهذا الموقف النعي المسبق لمهمة لجنة الجامعة العربية (على المستوى السياسي) عبر قلب أولويات المبادرة العربية... وللمناسبة الإيجابي الوحيد في حديثه كان الإشادة بالديمقراطية ومنطق الإنتخاب في لبنان... فيا ليتك يا "سمو الأمير" تستفيد من هذه التجربة وتسعى الى تعميمها في الأنظمة العربية وخاصة في بلادك....

 

والخاسر الثالث هو المقاومة، نعم المقاومة التي رغم نجاحها بإجبار الحكومة عن التراجع، فإنها لم تسلم من جراح ووحول الحرب الأهلية... نجح الفريق الحكومي في استثارة الغرائز المذهبية مستعيناً بأخطاء وقعت فيها "المعارضة" سواء تجاه المواطنين أم تجاه الإعلام والرأي الآخر أو عبر الاستمرار بالعمل بالقطعة دون خطة سياسية واضحة وآفاق جدية للخروج من أزمة الوطن، حيث فيما عدا التوجه ضد العدو الإسرائيلي والتصدي له فإن كل الخطوط الأخرى ملتبسة وغير واضحة... فالممارسات التي تشجع وترتكز أحياناً على الغرائز المذهبية ستنقلب حكماً على المقاومة وخطها... ولذلك فالمطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى العمل على خروج المقاومة من الوحول التي جرتها اليها القرارات المشبوهة للحكومة وأكثريتها والمطوب من الجميع مساعدتها في ذلك وليس الإرتكاز الى القوة العسكرية للمقاومة من قبل البعض لتحقيق بعض الطموحات "الزواريبية" وحتى الطائفية والمذهبية التي لا يمكن أن تساعد المقاومة... ومرة جديدة نؤكد بأن قيم المقاومة وتجربتها تجعلنا واثقين بأنها قادرة على السمو فوق منطق الثأر باتجاه تأكيد قيم النضال والمقاومة... وبالتالي حتى لو استمرت بمعركتها بطابعها المدني فيجب ان تكون خطتها مرتكزة على عدم استفزاز المواطنين بما في ذلك إعادة النظر السريعة بموضوع المطار والمرافق... لصالح خطة أخرى تتوجه للحكومة مباشرة وليس للمواطن....

 

وأخيراً الخاسر الأكبر هو مشروع الوطن الذي يتأكد مجدداً عدم قدرة الصيغة الحالية لنظامه على إنقاذه بل هي، بفعل منطقها الطائفي المذهبي التحاصصي، وبفعل ارتباطها بالخارج، مسؤولة عن أزمته واستمرارها وعن جريمة "دفن الوطن" دفاعاً عن الصيغة...

 

*       *       *      *      *

 

وحتى لا نكتف بالندب وإحصاء الخسائر... ما هو المخرج لإنقاذ الوطن؟... طبعاً نحن لسنا من دعاة "قطع الرؤوس" ولسنا ممن يهملون الواقع اللبناني وبنيته وهذا الإرث التاريخي الذي ولدته الصيغة ولكن أيضاً لسنا من دعاة "عفا الله عما مضى" وإعادة تبويس اللحى تحت شعارات التعايش التي لها رائحة التكاذب وسرقة الوطن والمغامرة على حساب أرواح بنيه ومستقبله كوطن...

 

إن الأزمة ناتجة عن عاملين: إنحياز المسؤولين لإعطاء أولوية الصيغة على الوطن وربط الصراع اللبناني دائماً بالاستقطابات الإقليمية واللجوء للخارج لدعم التوازنات الداخلية...

 

ولذلك فاقتراحنا للحل ينطلق من قناعة تكوين الإطار الداخلي اللبناني للحل بما يخفف ارتباطه (ولا يلغيه) مع الصراع الإقليمي وباتجاه يقترح لتجاوز الصيغة، بما يمهد لبناء وطن تسود فيه دولة عصرية ديمقراطية علمانية وعربية.

 

إن هذا الحل ينطلق من أننا لا ندع لقطع الرؤوس ولكن دون عفا الله عما مضى ولذلك فإن من أخذ القرارين سواء عن تآمر، أو سوء تقدير يجب أن يتنحى عن المسؤولية، فالحكومة يجب أن تستقيل ولن يخرب البلد فبإمكان الحكومة تصريف الأعمال [وهي لا تفعل غير ذلك وحتى أنها لا تقدم بذلك] بما يتح المجال للدخول في الحوار الذي تقترح عليه قراراً من نقطتين متوازنتين إنتخاب رئيس الجمهورية التوافقي ميشال سليمان وتشكيل حكومة إنتقالية مؤقتة تصيغ قانوناً للإنتخاب قادر على تجاوز منطق المحاصصة وتجديد الفئة المسيطرة بما يؤهل لتجاوز الصيغة، قانون للإنتخاب على أساس النسبية والدائرة الواحدة وخارج القيد الطائفي وبعد ذلك لتحكم الأكثرية بمشروعها وتعارض الأقلية بمشروعها....

 

وأخيراً... نعم الوطن اهم من الصيغة... نحن سنعطي الأولوية للمواطن ومصالحه وليس للزعيم....

بيروت في 14 أيار 2008

* الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني

عن موقع الحزب الشيوعي اللبناني

بقلم د. خالد حدادة *
الجمعة 16/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع