يافا وستون عاما للنكبة



لا يمكن أن نتحدث عن النكبة كحدث دون ذكر ما جرى في يافا عام 1948، ولا يمكننا أن نتحدّث عن يافا دون أن يكون موضوع النكبة أحد المواضيع الرئيسية في حديثنا بحيث يصبح موضوع يافا والنكبة أو النكبة ويافا توأمان يكمّل الواحد الآخر.
خمسة آلاف وستون عاما عمر هذه المدينة، العروس التي فقدت عذريّتها وهي في لباس الفرح ليلطّخ الثوب الأبيض بالدم الذي لم تزِله أمواج البحر منذ تلك الليلة وحتى يومنا هذا ولم تخفِ نسائم رائحة زهر البرتقال رائحة الموت والدم الذي ما يزال ينزف منذ تلك الليلة، صراخُها يسمع من زقاق البلدة القديمة ومن خلف القضبان، من البوغاز عند الميناء وراء صخرة اندروميدا ومن الدير ومن فتات مئذنة مسجد روبين التي فجّرت ومن سوق البلابسة واسكندر عوض، من كل مكان ولكن هل من مغيث؟؟ صراخها غريب وكلماتها مبعثرة كما الشعب الفلسطيني في الشتات وفي المخيمات وفي قبور الشهداء الذين سقطوا دفاعا عن العروس.
يافا عروس فلسطين وعروس البحر وعروس الشرق تنزف، يافا التي تأبى أن ترفع الراية البيضاء كي لا تمزّق فستان فرحها الغالي، وترفض أن تتحدّث بلغة غير الضاد وترفض أن يقال كانت، فهي باقية وان أصابها ما أصابها من هتكٍ وفتك، حاضرة في وجداننا وفي ذاكرتنا وفي أعماق أحشائنا، أنفاسها ثقيلة ومتقطّعة ولكن شريان الحياة فيها ينبض وتسمع نبضاته في العجمي والجبلية وحتى من أعماق البحر الأزرق الذي يتردد عليها ويترقّب حالها، ليتنا نتعلّم من إخلاص هذا البحر الكبير الذي يحتضن شهداءنا الذين سقطوا أثناء الهجرة وكأنه يقول: "عودوا إلى دياركم لا تتركوا يافا فهي منكم ولكم، لا تتركوا من ضحّت بأغلى ما عندها من أجلكم" إنه البحر الذي دفع بقارب عائلة الدباغ لتعود إلى يافا مرة تلو الأخرى فلم يفهمه أحد، إنه الخوف والرعب أو كما نقولها بالعامية "حلاوة الروح" كانت أقوى من البحر وأمواجه.
دير ياسين ومجزرة مسجد دغمش وقصف المنشيّة بقنابل المورترز البريطانية وبراميل القنابل في شارع النزهة أم قصف مبنى السرايا وثمانية عشرة مجزرة حدثت في يافا، الخوف على الأرض والعرض، الخوف من الغريب المتوحش الذي يفتك بالنساء الحوامل ويغتصب النساء العذارى فيمسي هذا الشعب كالمستجير من....
لن أكون حكما، من كان أصدق نحن أم أنتم، الذين بقوا أم الذين هجّروا، إنها مهمة صعبة تكاد تكون في شبه المستحيل، قالوا إنها الخيانة العربية، القضية مبيوعة، من لا يملك أعطى لمن لا يستحق، أين العدالة والإنسانية وحقوق الإنسان، أين كلمة الحق والعروبة وصلاح الدين وأسبوعان وشهران وسنتان وستون عاما وما زالت الأسئلة مطروحة، وأنا وطفل المخيم والمعمّر في عين الحلوة والعائلة التي سقطت قبل أيام في غزة بصاروخ إسرائيلي وذلك الطفل لم ينطق بكلمة فلسطيني حتى أمسى الشهيد الفلسطيني الـ... وهل الأرقام هي المقياس؟ لا وألف لا كل قطرة دم من هذا الشعب غالية على قلوبنا في غزة والضفة ومخيمات اللاجئين وعلى كل شبر من الوطن العربي.
النكبة ليست حدثًا بل تاريخ وحاضر ومستقبل، النكبة ليست عنوانًا لفيلم أبطاله أطفال المخيم، هي ليست الحزن والجراح والشهادة، إنها ليست السواد والجوع والحصار والدمار، ليست الأمهات الثكلى ولا الرجال الذين يبكون عند بوابات الثلاجات التي تحتضن الشهداء الذين يسقطون يوميا دفاعا عن الوطن، النكبة هي الصورة البانورامية الواسعة والمتكاملة لما يحدث لهذا الشعب الصامد منذ وعد بلفور أو بالأحرى وعد نابليون إلى يومنا هذا، ولم يكن بلفور أول من وعد اليهود بإقامة دولتهم على أرض فلسطين. هذه الصورة ملونة بألوان العلم فيه الأسود والأحمر... وأشهد أنني أحب هذا العلم بكل ألوانه.
ونعود إلى يافا أو إلى النكبة ونقول إن ما يحدث في يافا اليوم وضمن هذه الصورة البانورامية هو تجسيد للنكبة فالحرب ما زالت مستمرة، إنها حرب من أجل الوجود، إنها حرب من أجل الحفاظ على ما تبقى من عروبة المدينة وهويتها، إنها الحرب من أجل سماع لغتنا وموسيقانا ونواحنا، بلغة قريبة إلى قلوبنا ووجداننا وإن كنا نتقن اللغات الأخرى حتى اعتقد البعض أننا انصهرنا في هذا الكيان إلى درجة فقدان الـ"أنا" لنصبح استنساخا جديدا شكله عربي ومكنونه شيء آخر، لقد طرح هذا الموضوع ضمن الذكرى الخمسين للنكبة فراح من يتساءل هل نحن السبب بأنّ العرب الفلسطينيين في يافا والمدن والقرى الأخرى هم نتاج لسياسة خاطئة منهم وماذا ستكون النتائج لو كان كذا وكذا بحيث أصبحنا بنظرهم على الأقل فئران تجارب.
عندما تجلس ابنتي أمام الحاسوب لتبحث عن أغاني مرسيل خليفة وزهرة المدائن لفيروز وبحرك يافا لسميح شقير وتكون سعيدة عندما نزور مقام روبين، أعلم أن مناهج وسياسة السلطة لن تنزع منا هويتنا ولا تراثنا ولا ثقافتنا، لكن النكبة تبقى جزءًا من هذه الحياة التي تجعلنا نفكر في الوجود أو كما قالها لي ابني الذي لم يبلغ من العمر الرابعة عشرة: "هل ستشتري لي بيتا في يافا؟" قلت له: "ستسكن معي" فقال: "لا أنا أريد بيتا لي في يافا" وفي الظروف الراهنة لا نعلم ماذا سيكون مستقبل أولادنا وهل سنضمن لهم العيش على تراب هذا الوطن في يافا أو في أي مكان آخر والتاريخ يشهد أنهم جاءوا بنا إلى العجمي واليوم يندمون على فعلتهم محاولين اقتلاعنا من هذا الحي مهما كلّف الأمر من ثمن.
هي حياتنا اليومية التي نعيشها من أن يقطع حبل الوريد ويسجل في شهادة الولادة عربي إسرائيلي، تلك أمانيهم ولكن هيهات أن تكون كذلك فهي يوميات النكبة التي يعيشها كل فرد في الوطن.
وعندما تهدد المئات من العائلات العربية في يافا بهدم البيوت والإخلاء ويستباح نبش القبور في مقبرة طاسو من قبل المحكمة العليا وأسماء شوارع يافا لا تمت بصلة إلى سكانها والبلدة القديمة خالية من السكان العرب والمنشية أصبحت منتزها وحسن بك مرتعا لرؤوس الخنازير وقبل أيام يقيم مركز تراث بيغين يوما احتفاليا بمناسبة احتلال يافا وتهجير سكانها العرب وتصبح يافا مطبخا شرقيا يحلو فيه أكل الفول والحمص ويصبح الفلافل من الأكلات القومية الإسرائيلية، نعلم أنها تفاصيل النكبة.
في هذه الأيام تقوم بلدية تل أبيب يافا بملء شوارع يافا بالأعلام الفلسطينية، آسف الإسرائيلية والكل مبسوط وفرحان "ولا حدا بجيب سيرة ولا شخرة". لكن عندما جاب أهالي يافا شوارعها يحملون الأعلام الفلسطينية  صارت القصّة "طنّه ورنّه"، كيف يجرؤ هؤلاء العرب "اللي لحم أكتافهم من خيرنا" أن يرفعوا أعلام سمّاها الإسرائيليون أعلام "آشف" أي منظمة التحرير الفلسطينية وكأنّ هذا العلم عرفه الفلسطينيون فقط مع إقامة المنظمة عام 1964، كان ذلك في المظاهرة الحاشدة التي جابت شوارع يافا بمناسبة يوم الأرض الثاني والثلاثين، فأنا كفلسطيني من مواليد يافا عام 1960 كان لي شرف الوقوف تحت العلم الفلسطيني لأول مرة عام 1984 في خيمة الاعتصام التي أقيمت في برلين بعد مجزرة صبرا وشتيلا وكنت فخورا عندما حملنا أول عائد إلى يافا أخي وصديقي الغالي البروفسور إبراهيم أبو لغد وكان التابوت مغطى بعلم فلسطين يومها التقى إبراهيم أصدقاء العمر هو وهشام شرابي وادوارد سعيد وفيصل الحسيني الذي لحق به بعد أسبوع عند زيارة الكويت.
هي صور وأحداث ليس لها أول ولا آخر ولكنها تصب في هذا المصطلح الذي أصبح جزءًا من تاريخ وواقع هذا الشعب الصامد على أرض الآباء والأجداد. وكي أنام وأنا مرتاح أعاهدك يا أخي إبراهيم ويا أختي الغالية هالة خورشيد ويا صلاح ويا كل فلسطيني أينما كنت أنني سأدافع عن يافا وكل ذرّة من ترابها حتى الرّمق الأخير كي يعود مجدها وتبقى عروسا في ليل زفافها ترقص على زغاريد النساء وهتافات الرجال وإنا على العهد باقون..

abir68@gmail.com
(يافا)

عبد القادر سطل
السبت 17/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع