رياح زعاترة: رجل من هذي المدينة



نقلت إلي الشبكة العنكبوتية، خلال إبحاري اليومي فيها، أمس الاثنين، خبرا محزنا أثار مشاعر هجعت في النفس، عرفتها تمام المعرفة منذ رحيل الأحباء، أخي جوهر، أرملة خالي محمد خضرة، والإنسانة الأقرب إلى قلبي وروحي في العالم والدتي ظريفة عبد الكريم، طابت ذكراهم، في فترة قلت عن الشهرين بأيام، ابتداء من اليوم قبل الأخير من عام 2006، وانتهاء بأقل من خمسين يوما من بداية العام الماضي 2007.
مفاد هذا الخبر أن الصديق العزيز، رغم قلة اللقاءات بيننا في السنوات الأخيرة، رياح زعاترة – أبا عرسان، من مواليد عام 1942، من حي بئر الأمير في مدينتنا الناصرة، لم يعد بيننا، وانه غادر في رحلته الأبدية، ماضيا في طريق اللاعودة والغياب اللامتناهي.
في البداية فزعت بآمالي إلى الكذب، وهو ما فعله شاعرنا أبو الطيب المتنبي، حينما بلغه نبأ رحيل جدته، الإنسان الأقرب إلى نفسه، غير أنني ما لبثت أن سارعت للتنقل بين عدد من المواقع الالكترونية، في محاولة مني للتأكد، فقد حرصت دائما على التيقن قبل التصديق، فلعل هناك خطا ما في النشر، أو ما شابه، غير أن ما أفاد به العديد من المواقع، لم يخرج عما أفاد به الموقع الأول.
تعرفت إلى أبي عرسان، شخصية شيوعية جبهوية، في السبعينيات الأولى، كنت في البداية أراه في نشاطات وفعاليات يبادر إليها وينظمها الحزب الشيوعي أو جبهة الناصرة الديمقراطية، وكان ما أن يغيب في ثنايا الذاكرة حتى يحضر، بمشيته المنحنية، التي تذكر بانحناء السنبلة لما ناءت بحمله من حبوب الحنطة، وبأناقته التي كان يحرص على الظهور بها في تلكم النشاطات والفعاليات الشعبية.
توطدت العلاقة به فيما بعد، في أعقاب تعريف الصديق المشترك لنا نحن الاثنين، مفلح طبعوني، وراحت تنمو لقاء اثر لقاء ويوما تلو يوم، حتى تعمقت وباتت عصية على الغياب، واذكر، في هذه المناسبة الحزينة، انه لم يترك أخا أختا صديقا صديقة، إلا عرفني به مزهوا بي وعارفا لما يبعثه هذا بي من فرح الوجود.
معظم أصدقائه، مـَن رحل ومن بقي منهم، باتوا من أصدقائي، تعرفت إلى والده المرحوم عرسان زعاترة، أبي رياح، وتعرفت إلى أقاربه، بعيدين وقريبين، واذكر أن المرة الأخيرة التي التقيت بها أثناءها، كانت في المستشفى الانجليزي( مستشفى الناصرة حاليا) يوم كان كل منا في زيارة لقريبة متوعكة له، يومها دعاني إلى غرفة من زارها، معرفا بي معتزا، حتى أنني رأيت إلى نظرات استغراب في عيني بعض الحاضرين، فما كان منه، إلا أن أدرك بحاسته المشرئبة بيقظتها دائما، ما حصل، فتوجه إلى الجميع قائلا: صديقي الكاتب ناجي ظاهر، لا شك أنكم قرأتم بعضا من مؤلفاته ومقالاته في الصحف والمجلات الصادرة عبر الأربعين عاما الماضية. عندها زال الاستغراب عن وجوه ظهر عليها، ليحل مكانها ترحيب قوي بواحد من كتاب مدينة الناصرة.
منذ تعرفت إلى رياح، أبي عرسان فيما بعد وعلى طول الخط، لمحت فيه بوادر ايجابية في النظر إلى الحياة والتعامل معها، فهو لا يضع حدودا لطموحه، ولا يسلم بأمر واقع، وإنما هو مبادر دائما وابدأ لإيجاد ظروف ملائمة، لما يريد أن يرسله من نبض في حياته وفي حياة الناس المحيطين به، فإذا لاحظ، أن واحدا ممن عملوا معه تكاسل وتراخى، بادر لإيقاظ القوة في داخله ممتدحا ما يرى انه يتمتع به من خصال، وإذا ما لاحظ انه وجد هناك من استولى عليه العجز، استفز كل ما فيه من شهامة للمواجهة وتحقيق الذات.
 كان أبو عرسان يؤمن بالإيحاء النفسي، فهو لا يتردد أحيانا، في التحريض على الفعل، وفي توجيه الكلام إلى من لا يقصد أن يسمعه، بقدر ما يقصد أن يسمع الجارة.
أما تحمله للمسؤولية، فقد كان واحدا من الملامح الفارقة في شخصيته، كانسان عامل ويعرف ما للثقافة من أهمية في حياته وحياة المحيطين به، بل وحياة مدينته أيضا، لا أتذكر أنني شاهدته وقد تخاذل في تقديم المعونة لمن يطلبها، بل إنني اشهد، هنا، في هذه اللحظة القاسية، لحظة الفراق الأبدية، انه ما أن كان يستمع إلى انه يوجد هناك من يحتاج للمساعدة والمعاضدة من الأحباء والأصدقاء المقربين، حتى يتوجه إليه عارضا مساعدته، دون أن يمس مشاعره، ولا أبالغ إذا قلت انه حينما يعطي، كان يـُشعر من قـُبالته انه هو من يأخذ، حتى لا يجرحه أو يـُشعره بان كرامته جرحت.
أبو عرسان كان يعيش همومه الشخصية وكأنما هي همومه العامة، بنفس القدر الذي كان يعيش فيه هموم مجتمعه العامة وكأنما هي همومه الخاصة، لهذا كان يهمه ما يحصل في حياة مدينته، ولهذا أيضا كان من المبادرين الأوائل المتحمسين لإقامة جبهة الناصرة الديمقراطية، وكان من اشد المتشيعين لها في حارته بئر الأمير، يقف جنبا إلى جنب، مع رجال لا ينقصهم البأس في مواجهة الشدائد، وما أكثر ما ذكر أمامي الشيخ طه البيومي، ذلك الشيوعي العريق، الذي رأى أن الدين لله والوطن للجميع فتمكن من نشر بذور المحبة في كل مكان مكث فيه، وفي حيه تحديدا.
أبو عرسان، كان واحدا من العشاق الكبار لمدينتنا الناصرة، لهذا كان يضايقه ما يضايقها ويفرحه ما يفرحها، كان يوقع دقات قلبه على إيقاع دقات قلب مدينته، فإذا ما استقر وضع دقات مدينته، استقر وضع دقات قلبه، وإذا ما شعر بأنه وجد هناك شرخا بين الإخوة من أبناء مدينته، سارع للمشاركة في رأبه، لهذا أرى أن خسارتنا في رجل مثله، هي خسارة فادحة، ومن الصعب تعويضها.
طابت ذكرى أبي عرسان، كان رجلا حقيقيا من هذي المدينة، لهذا اعتقد انه سيبقى رغم رحيله.

بقلم: ناجي ظاهر
الثلاثاء 20/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع