قصة
"أناديكم"



أخذ أخونا برهوم يدور ويلف في ذلك المجمع التجاري الكبير، بقلق كبير وعصبية شديدة، ومن ثم يصعد من طابق الى آخر، ويهبط على غير هدى وقد تملكه وسواس كبير وخوف شديد لم يشهد له مثيلا في حياته الزوجية كلها.. حيث راح يتفرس ويحدق ويطيل النظر في وجه كل امرأة شابة تلف رأسها وشعرها بطرحة زهرية اللون بشكل خاص، لعلها تكون زوجته التي إفتقدتها الآن ولم تعد كما وعدت الى ذلك المكان الذي كان قد اتفق معها عليه أن يعودا ويلتقيا به من جديد، على ذلك المقعد الخشبي المثبت أمام مدخل ذلك المجمع التجاري في تمام الساعة السابعة والنصف تماما وبعد أن يكون كل واحد منهما طبعا قد إنتهى من مشترياته والتي أتيا معا هذا اليوم من أجلها خصيصا.. وكانت زوجته قبل ان تفترق عنه قد أكدت له اكثر من مرة بأنها لن تتأخر كثيرا ولن تدور وتلف هذه المرة كعادتها على أي مكان آخر من ذلك المجمع ولا تحت أي ظرف كان.. سوف تشتري لها قارورة عطر معينة فقط من حانوت " سوبر فارم" وتعود حالا بعد نصف ساعة على أبعد تقدير.. وقد حددت بنفسها ايضا الدقيقة التي ستعود بها.. فهي من هذه الناحية دقيقة جدا جدا في مواعيدها التي تضربها وتحددها مع الآخرين.. وخصوصا مع زوجها بالذات الذي هو مثلها دقيق جدا في مواعيده مع الآخرين وخصوصا مع زوجته بشكل خاص... ألمانية اختنا مثله في سلوكها وثقافتها ومواعيدها التي تضربها وتحددها مع الآخرين وخصوصا مع زوجها بالذات واكثر من الالمانيات أنفسهن.. حيث ينطبق عليها وعليه ذلك المثل الذي يقول وافق شن طبقة.. أو كما يقولون في مثل آخر ما تجاوروا إلا ما تشاوروا.. كل شيء في حياتها منظم والوقت بالنسبة إليها ثمين.. وكل كلمة تنطق بها دين عليها ثابتة ومقدسة وقاطعة ومبررة أيضا لا لبس فيها ولا رجعة عنها على.. الاطلاق.. وكل موعد تضربه لك وتحدده بالدقيقة والثانية ايضا ولا.. لبس فيه ولا رجعة عنه.. إذا وعدتك مثلا تراها تبر وتوفي في وعدها.. صادقة وثابتة في كلمتها التي تقولها.. إذا قالت لك مثلا سأعود والتقي معك في تمام الساعة كذا وكذا تراها تعود في تمام تلك الساعة بالضبط التي حددتها لك دون دقيقة واحدة..ناقصة ولا حتى دون دقيقة أخرى متقدمة.. لقد أكدت له أنها ستعود في  تمام الساعة السابعة والنصف تماما.. وأكدت له أيضا انها سوف تعود قبله وتنتظره على ذلك المقعد الخشبي المثبت أمام المدخل الرئيسي لذلك المجمع الذي اتفقت معه ان يعودا ويلتقيا عليه.. ولما رأى أخونا برهوم زوجته لم تعد حسب ذلك الموعد الذي ضربته هي بنفسها وحددته ايضا بالساعة والدقيقة وقد مر على تخلفها أكثر من ساعة بكثير، ساوره الشك  وقلق عليها كثيراً وكثيرًا جدًا وأخذ يضرب أخماسا باسداس ويفكر  بالطالح قبل الصالح.. او كما يقولون.. بالعامية أخذ يفكر بالعاطل قبل المليح.. أخذ يفكر بالشر قبل الخير.. فهذا شيء طبيعي.. يحدث مع كل إنسان يتعرض لأي مأزق ما.. فاندفع أخونا مرة ثانية إلى داخل ذلك المجمع على غير هدى مثل المجنون يدور ويلف ويصعد من طابق الى آخر ثم يهبط وقد ازداد وسواسًا وقلقا وخوفا أيضا وأخذ يفتش عليها في كل مكان ويتفرس في وجه كل امرأة شابة تصادفه تلف رأسها بطرحة زهرية اللون وتحمل في يدها حقيبة زهرية أيضا لعلها تكون زوجته ولكن بدون جدوى.. وكأن الأرض قد انشقت وبلعتها بالفعل وجعلتها في خبر كان وأخواتها أو كأن واحدا قد إختطفها منه.. ماذا تراه يفعل أخونا برهوم الآن في مثل هذه الحالة الحرجة.؟ أجل ماذا تراه يفعل..؟ إنه أول مرة في حياته الزوجية يواجه مثل هذا المأزق الحرج .. إنها أول مرة تخلف زوجته في مواعيدها معه.. هل يا ترى تكون زوجته قد تخلفت هذه المرة بإرادتها أم بالرغم من ارادتها ومشيئتها..؟ إنه لا يتصور أن تكون زوجته قد تخلفت بإرادتها.. لا بد أن يكون شيء قاهر جدا قد جعلها تتخلف بالرغم من ارادتها ومشيئتها.. أين هي يا ترى الآن..؟ إلى أي مكان يا ترى تكون زوجته من هذه الأمكنة قد دخلت اليه..؟ هل يا ترى تكون زوجته قد "زحمت مثلا واشتدت عليها تلك الزحمة" ولم تستطع ان تضبط نفسها فدخلت الى احد تلك المراحيض العامة وعلقت في داخله ولا حول لها ولا قوة..؟ هل يا ترى تكون زوجته قد.. إلتقت مع إحدى قريباتها أو إحدى صديقاتها صدفة مثلا وشطحت معها بالحديث وقد نسيت ان تعود..؟ هل يا ترى تكون زوجته قد صعدت في احد تلك المصاعد الكهربائية او.. هبطت فيه وقد تعطل فجأة وعلقت في داخله ولا حول لها ايضا ولا قوة..؟ هل يا ترى تكون زوجته قد أصابها نوبة قلبية فجائية وغابت عن الوعي ويكون قد طلبوا لها سيارة اسعاف ونقلتها الى احد المشافي..؟
ويحه لمثل هذه الافكار.. ويحه لمثل هكذا وسواس.. ويحه ويحه.. ماذا تراه يفعل أخونا برهوم الآن بعد أن فشل في العثور عليها..؟ أجل ماذا تراه يفعل..؟ لقد أوشك على الإنهيار التام.. لقد أوشك على فقدان الأمل في العثور عليها.. ما في أصعب على الإنسان أن يفقد الأمل.. إنه الآن في حيص بيص من أمره.. انه في حيرة تامة من أمره..إنه يكاد يفقد عقله.. يكاد يجن.. يكاد ينهار ويسقط على الأرض.. ما في أصعب على الإنسان ان يفقد أغلى شيء في حياته.. إنه يحبها ويحبها.. إنه يعبدها ويقدسها.. لا يستطيع أن يعيش لحظة واحدة بدونها.. فهي كل شيء في حياته.. فهي الماء والهواء والزاد بالنسبة إليه.. سوف ينتحر إذا لم يجدها.. لقد قلب هذا المجمع التجاري كله عليها.. لم يترك مكانا الا ودخل اليه يبحث عنها.. لم يصادف واحدا يعرفه الا وسأله عنها.. حتى انه ذهب إلى مراحيض النساء وتسمر أمامها بعض الوقت لعله يجدها.. ولكن بدون جدوى.. لو كانت قطعة  نقدية صغيرة قد سقطت من جيبه لكان قد وجدها.. لو كانت حتى إبرة صغيرة قد سقطت من يده لكان قد وجدها.. لو كانت لو كانت.. ماذا تراه يفعل أخونا برهوم الآن..؟ يكاد يفقد عقله..؟ يكاد يجن.. يكاد يسقط على الأرض.. يكاد ويكاد.. ماذا يفعل الآن..؟ أجل ماذا يفعل..؟ هل يذهب الى مكتب الاستعلامات ويطلب نجدته..؟ هل يذهب الى مركز الشرطة ويبلغ عن إختفائها..؟ هل يأخذ هذا البوق من يد هذا الحارس الذي يقف الى جانبه ويصرخ عليها لعلها تسمعه..؟ هل وهل..؟ لا وألف لا.. لن يذهب الى مكتب الاستعلامات ويطلب نجدته.. ولن يذهب الى مركز الشرطة ويبلغ عن إختفائها.. ولن يأخذ هذا البوق من يد هذا الحارس الذي يقف الى جانبه ويصرخ عليها.. ماذا يقول عنه الناس.. ماذا يقول عنه الذين يعرفونه.. ربما يفكرون باشياء عاطله.. لا.. سيواصل البحث عنها مرة ثانية.. لا يزال لديه بصيص من امل في العثور عليها.. لديه إحساس داخلي كبير الآن بأنه سيعثر عليها في احد هذه الأماكن من هذا الطابق الذي صعد اليه الان.. لديه احساس قوي جدا بأن زوجته متواجدة الآن في داخل أحد هذه الحوانيت التي تبيع ملابس نسائية فاخرة.. لا بد ان يكون ثوب خاص مميز.. من هذه الاثواب الانيقة الفاخرة المعروضة في داخل هذه الوجهات قد جذب زوجته.. وشدها اليه وجعلها تدخل الى هذا المكان الذي يقف امامه الآن وقد نسيت ان تعود.. لا بد ولا بد.. الانسان كل إنسان معرض للنسيان.. أغلب الظن ان يكون هذا الثوب.. الزهري الخاص الانيق والفاخر والمميز بالذات قد جذب زوجته وشدها اليه واخذ عقلها ودفعها لتدخل الى هذا المكان لتشتريه وقد نسيت ان تعود.. أغلب الظن وأغلب الظن.. إنه بالفعل ثوب أنيق وفاخر ومميز ومغر ايضا.. كل إمرأه تراه يجذبها ويشدها اليه وياخذ عقلها ويسيل لعابها عليه.. كل إمرأة جميلة وفاتنة مثل زوجته ترتدي مثل هذا الثوب الزهري الانيق الفاخر المميز تزداد به جمالا على جمال وفتنة على فتنة ايضا.. فهو يعرف زوجته معرفة تامة ويعرف ذوقها الرفيع السامي ويعرف حبها وشغفها وولعها ايضا بالاثواب الانيقة الفاخرة خصوصا اللزهرية الناعمة الشفافة منها بشكل خاص.. لا شك ان يكون هذا الثوب الانيق الزهري الفاخر المميز المعروض في هذه الواجهة التي يقف امامها الان قد جذبها اليه بكل تأكيد وشدها وجعلها تدخل الى هذا المكان قسرا لتشتريه مما جعلها تنسى وتخلف في موعدها معه هذه المرة.. لديه إحساس داخلي قوي يؤكد له ان زوجته الآن في داخل هذا المكان الكبير الذي يعج وينغل بالمشترين.. لديه إحساس قوي جدا بان زوجته الآن في داخل أحد تلك الاماكن المغلقة المخصصة للقياسات.. إنها بكل تأكيد لا تزال تقيس واحدا من تلك الاثواب الذي جذبها وشدها النه... ما من مره واحده أحس بأي إحساس وخاب إحساسه على الاطلاق.. إنه صاحب إحساس مرهف وشفاف.. صاحب فراسة قوية.. ماذا يفعل أخونا برهوم الان من أجل ان يتأكد مائه بالمئه من دقة وصحة إحساسه..؟ أجل ماذا يفعل..؟ هل تراه يندفع نحو تلك الاماكن المغلقه المخصصة للقياسات ويصرخ عليها باعلى صوته..؟ هل تراه الان وقد أصبح امام تلك الاماكن ان ينبطح على الأرض ويمد رأسه من تحت كل فسحة باب من تلك الأبواب المغلقة المخصصة للقياسات ويبص في سيقان كل واحدة..؟ فهو يعرف ساقي زوجته من بين سيقان مائة امرأة وامرأة..لا والف لا.. هل جن أخونا حتى تراه يقدم على مثل هذا العمل الجنوني..؟ هل فقد عقله..؟ هل قلع الحياء..؟ هل شلط أيضا..؟ هذا الا يليق به كرجل معروف بين الناس ومؤدب ومثقف.. هذا عيب ثم عيب.. هذا يعتبر في عرف الناس قلة أدب وقلة حياء ايضا.. هذا يعتبر سلوك نواسي مشين.. هذا يحط من كرامته.. هذا يعتبر تلصلص وقح وحقير.. هذا يعتبر إنتهاك للأعراض.. هذا وهذا.. ماذا تراه يفعل أخونا برهوم الآن..؟ أجل ماذا تراه يفعل..؟ يريد الان من ينصحه ويرشده ماذا يفعل.. يريد من يدله على طريقه ليعثر بها على زوجته.. يكاد الآن يجن.. يكاد الان يفقد عقله تماما.. لم يعد يقوى على شيء.. لم يعد يميز الاشياء من بعضها البعض.. لم يعد يحتمل إختفاء زوجته.. كيف له الآن ان يعود الى منزله  بدون زوجته..؟ كيف له..؟ كيف له ان يهدأ..؟ كيف له ان ينام بدون زوجته..؟ الساعة الآن تقترب من التاسعة.. بعد ربع ساعة يقفل هذا المجمع التجاري أبوابه.. بدأ المتسوقون يخرجون واحدا بعد الآخر.. ماذا يفعل أخونا برهوم الآن..؟ أجل ماذا يفعل..؟ ووجد نفسه يصرخ باعلى صوته "أناديكم".. وكاد لا يصدق ما يسمعه.. كاد يطير من شدة الفرح وهو يسمع صوت زوجته ينساب الى اذنيه في ايقاع شاعري موزون أشد على أياديكم....

(حيفا)

نجيب سوسان*
الخميس 22/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع