سحر الهامش



  كيف أنسى نادل فندق روكي؟ يديه الدقيقتين، وجهه الحريص، حركته البطيئة، عينيه الـمتفاجئتين العطشتين؛ الحفلة صاخبة إلى درجة أننا كنا نرى أفواهنا تتحرّك بلا صوت، كنّا نقرأ شفاه بعضنا ونفهم ما نريد، كنّا ظلالاً متعبةً لأشخاص آخرين خرجوا قافزين من رتابة مدننا، إلى ذرى تلال الحلـم، بينما هو كان صامتاً يتجوّل بين الطاولات، يضع كأساً هنا، يتناول زجاجةً آيلةً للسقوط عن الطاولة، يعدّل فوضى طاولة، ويحمل صحناً نصف فارغ هناك، يخفف من انفعال كرسي هنا، ويبتسم، يبتسم باستمرار، دون أن يبادله الابتسامة أحد، كان شاباً، في أواخر العقد الثاني، في لحظةٍ ما تعثرت به كما كان يتعثر الكثيرون من صبايا وشباب، فجأة انتبهت إلى أنني تعثرت بإنسان، لـم يكن طاولةً أو زجاجةً مرميةً على الأرض، كان إنساناً، إنساناً، ووسط غبش فضاء القاعة الـمجنونة الـمثقلة بالـموسيقى والرقص والأضواء الخاطفة والـمتغيرة، أدركت أنني أمام حالة من الحالات الإنسانية الغنية التي لا أستطيع مقاومة تأملها وممارسة الوجع والأسئلة أمامها، اقترب مني، حين رآني أوقف سيل الآخر الذي خرج عني:
ــ مرحباً، أهلاً أستاذ، كيفك؟. ــ تمام أستاذ، الله يعينك علينا إحنا كثير مزعجين الليلة. ــ بالعكس أستاذ إنتو رائعين، كنت بتمنى لو ... ــ لو شو؟ ــ لو إني صديق إلكم، كان نفسي أرقص معكم بس ممنوع لأنه أنا شغلي إني أخدمكم.
صدمتني أمنيته، لـم أستطع أن أتابع كلامي معه، خرجت إلى الشرفة أتنفّس بعمقٍ، طارداً ما تبقى من الآخر الذي يتملـمل داخلي ليتابع انفلاته الهادر، الآن صرت أنا تماماً، الـمدرس الـمهزوم والـمحتفل بالهامش، والـمنحاز إلى الجوانب غير الواضحة من الصور، والـمتسائل دائماً، عدت إلى واقعي الثقيل، والـمختل، في لحظةٍ ما وأنا أتهيأ للعودة إلى القاعة، تعرقلت قدمي بكيس، كانت تتدلى منه أدوات وملابس مستعارة، واضح أنها لإحدى الفرق الـمسرحية التي تشارك في حفل التكريم الـمشتعل. جاءتني فكرة: تعال يا صديقي. سحبته إلى الرواق، خلعت عنه معطف العمل. (كان مستغرباً)، البس (قلت له). ناولته طاقيةً ونظارةً شمسيةً، وشارباً مستعاراً وقميصاً أصفر، وإشرت إلى القاعة، اذهب وارقص، لن يعرفك أحد الآن، حتى أنك لن تعرف نفسك، ارقص، ارقص ارقص، اقتحم مجهول القاعة ارقص حتى الدموع، رأيت دموعه ترقص خلفه. أما دموعي فقد اصطحبتها معي يداً بيد إلى الشرفة. كانت هادئةً جداً، على غير عادتها هل شاخت؟ أم تراها عقلت وصارت ذكيةً، وخبيرةً بالهزائم.


 
سيدة الشاي
في مقهى ما من مقاهي الـمدينة، كانت تجلس مع صديقتها الأجنبية، تشرب الشاي بهدوء، تضحك بشكل حقيقي، تبتسم بعمق، تحرّك يديها تماماً كما تفعل في كل الأمكنة، في مؤسستها مثلاً. هنا في هذا الـمقهى لا شيء حقيقياً أو عميقاً، ومع ذلك فهي تفرض الآن صدقها وتلقائيتها في عالـم مكوّن من قش متطاير وخشب محروق، لـم تكن تهتم لأحد سوى صديقتها وكلامها، لـم تكن ترى أحداً، كنت أنا أراها، وحدها فقط، دون العشرات من الصبايا والشباب، ممن يترمون هنا وهناك طامحين إلى علاقة ومتوسلين حباً، يتحركون على عتبات الاستكبار والثرثرة الفارغة حول الذات، والاقتراب الـمصنوع، والاستعراض. كانت تشرب الشاي باستمتاع صادق كأنها تشرب أناقة بيتها، بينما القاعة الصغيرة تعبق بالـمتعة الـمفتعلة، والصراخ الفارغ واللغة العوراء حولها، كانت الـمشروبات تدخل القلوب عنوة. وتصدر صفيراً شاحباً، كشخص مسكين يحشو فم السحابة الـمعلقة فوق منزله بحكايات الصيف الـمريض، بينما شايها يدخلها بلهفة وحب كأنه شقيقها الغائب، الذي عاد بعد غربة قاتلة. ويصدر ذبذبات طاقة مشعة كانت تخترق وجودي وتصنع مني زلزالاً صغيراً نادماً تخلى عن طبيعته الـمدمرة وهرب إلى الصحراء ليفجر نفسه. بعيداً عن مدارس الـمدينة. واحة صدق هائلة في محيط هائل من الرياء. هكذا كانت هي وكان شايها وابتسامتها. كنت أنا الـمسافة بين رياء الـمكان وصدق شايها؟

العازف
وحده دائماً مع ربابته، في أحد شوارع الـمدينة، لا أحد ينتبه، لا أحد يراه، يعزف باستمرار، لـمن يعزف هذا الرجل؟لـم يكن يرى أحداً، كان يعزف فحسب، أحسبه أحياناً مريضاً، وصف له الطبيب العزف علاجاً. لا ينتبه إلى أحد، كل الخطوات أمامه سيان، مرة رأيته يستمر بالعزف، بينما الـمدينة تغلي بالغضب والشهداء والـمستعربين، راقبته مرة وهو ينهض، عائداً إلى بيته الذي لا أعرف أين هو، ترك الربابات على الأرض، ذهب إلى البيت وحده، بيديه الطليقتين؛ في الليل الـمتأخر، مررت عن الربابات، كانت نائمةً، وضعت بجانبها وردةً، ومشيت إلى شارع الإرسال في مشواري الرياضي اليومي، لـم يفكر أحد في سرقة الربابات، لا أعرف لـماذا بالضبط، ولـماذا لا يخاف العازف على رباباته؟ أحس بأن الناس تدرك أن الربابة تحرس ذاتها، وتحرس صاحبها أيضاً. كيف تدافع الربابة عن نفسها لو هم أحدهم بسرقتها؟وماذا لو حاول جندي إسرائيلي لـمسها؟ ماذا لو حملها ببراءة طفل يسير مع أبيه معتقداً أنها لعبة، ماذا لو مشت الربابات في شوارع رام الله. أقسم لكم أن صاحب الربابات مرّ الآن عن مقهى رام الله بينما أكتب هذه الكلـمات ورجل الزاوية الـمشمسة في الـمقهى شاهد على ذلك. هل خرج العازف من كلـماتي ليمر عني.؟ ليقول لي فقط: أنا لا أراك؟ لا أراك. حتى لو كنت سليل نصك.

zkhadash@yahoo.com

زياد خداش
الخميس 22/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع