"منارات" خافتة



* إفتتاح

اقامت جمعية "المنارة" بمناسبة مرور ثلاث سنوات على تأسيسها، معرضًا للفنون والاشغال اليدوية.. حمل عنوان "معرض منارات – لأصحاب قدرات"، وقد افتتح المعرض مساء يوم الاثنين الموافق 12 ايار الجاري، في صالة الفنون التابعة للمركز الثقافي البلدي في الناصرة، وشارك في حفل الافتتاح رئيس بلديتها المهندس رامز جرايسي، وتحدث فيه ايضًا، مدير الجمعية المحامي عباس عباس ومنظمة المعرض الفنانة ماجدة غنيم.

* أشغال


تعود الاعمال المعروضة فيه، الى عدد من الاشخاص وبعض الجمعيات الناشطة في مجال المعاقين العرب، فضمن هذا المعرض "المختلط" لاعمال فنون تشكيلية واشغال يدوية، منها صناعة القش، النسيج، الخزف الحرفي، شك الخرز، والتصميم الغرافي، فان بعضها يعود الى اعضاء من جمعية الشفاعة والرحمة في كفر قرع، ولنادي الرينة للفتيات صاحبات القدرات الخاصة.. ويشارك ايضا في  هذه الصناعات اليدوية، كل من أمينة بصول من الرينة، واخلاص ابو علي من سخنين واميرة دياب من طمرة. ومجمل هذه الاعمال تندرج في سياق الاشغال اليدوية، وتعطي دلالة، على الرغم من ان اصحابها يعانون من اعاقة ما، الا ان منتجيها يستطيعون تنفيذ وتكوين اعمال جميلة.

* رسومات


يضم المعرض أيضًا اعمالا تشكيلية راقية، وهناك اعمال بقلم الرصاص تعود لأمل شبلي من قرية عرب الشبلي، وهي عبارة عن رسومات تمتلك موهبة متوسطة، تحتاج الى ممارسة ودراسة عمقية تجريبية اكثر، كما تشارك فيه الرسامة هدى زعبي، بثلاث لوحات تشكيلية مستوفاة الشروط الفنية في تكوينها، وهي تنبئ عن غزارة القدرة والموهبة الكامنة فيها، ويذكر ان هدى زعبي تعاني من اعاقة بسبب بتر ذراعيها، لذا فهي ترسم بواسطة فرشاة تقبض عليها بأسنانها، أي ما يعرف بالرسم بواسطة الفم، وايضًا بواسطة امساكها للريشة او اللون بواسطة اصابع قدمها، تحمل رسومات هدى جمالية ضوئية تنبعث من تلابيب لوحاتها المشبعة بالالوان، فرغم معاناتها المستمرة منذ طفولتها المبكرة، الا ان لوحاتها تعبق بالامل والحياة، وهذه الثلاثية من اعمالها اليتيمة، هي صورة عما تحمله نفس هذه الانسانة الطيبة من اشراق وامل بالحياة.

* فن تشكيلي


هناك ايضًا مجموعة من الاعمال التشكيلية العابقة بالقدرة الفذة على انجازها، وهي تعود لفنان رائع يدعى شاكر ابو رومي، وتجسد تلك الاعمال صورة حقيقية لمقدرة هذا الفنان على تشكيلها، من خلال الاساليب والتقنيات المتمكن منها بشكل رائع. فمعظم الاعمال التي يشارك فيها ابو رومي، تعود لأواخر سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، وهي صور عن تلك المحاولات التجريبية لغوص صاحبها في اكتساب الخبرة والتحدي، في انجاز اعمال رائعة من ناحية المبنى الكلي للوحة، ان كان ذلك من خلال عناصرها وتجانس الوانها، او من خلال قدرته على الغوص بعيدًا في معالجة ضوء اللوحة وظلالها. وتنتمي بعض هذه الاعمال لمدارس فنية متعددة منها التكعيبية والتعبيرية والكلاسيكية.. ويعمد ابو رومي الى الذهاب بعيدًا في صقل لوحته بالكثير من الدقة والزخرفة الانشائية، فيما يُحمل اللوحة كثيرًا من التجانس التشكيلي الجميل، ذلك بالربط بين مزاجية اللون وتجانسه من ناحية، واحتفائه بالزخرفية المتتالية المجردة من الناحية الاخرى، مرة من خلال استعمال التدارج اللوني للون الواحد، ومرات من خلال لعبة الالوان المتناقضة المتباعدة في سياقات عديدة.

 

تتعربش على جدران صالة العرض اعمال بمستوى فني جميل، وهي التي تعود اصلاً لريشة هذا الفنان، وهو فنان يعاني من اعاقة جسدية حدثت له من جراء سقوطه وهو بعد دون سن الخامسة، فانتقل للعيش، تاركًا مسقط رأسه في طمرة ليستقر ويعيش في مدينة القدس، وهناك تفتحت موهبته الفذة في الرسم والتصوير الملون، وقد تتلمذ وتعرف على اصول الرسم، من خلال اشتراكه في عدة دورات اقيمت آنذاك في بيت الفنانين في القدس، كما تتلمذ على يد الفنانين المقدسيين اوري شتيتنر ومارك يناي، الا انه اعتمد اكثر على صقل موهبته، من خلال مقدرته الذاتية لتطوير ادواته، والمضي بها الى عالم من الابداع والجمالية الحقة. لذا فانه مارس فنه بكثير من الوجدانية والاحساس الصادق، وتابع مسيرته بصمت حتى جاءت الايام لتعلنه فنانا تشكيليا من الطراز الاول.

 

شاكر ابو رومي معاق حركيًا يعتمد على الكرسي الطبي في تنقله، تزوج من لينة سنة 2005 وانجبا طفلهما الاول الذي سمي بكنية توقيعه على لوحاته، التي يعتبرها عائلته الاولى.. واصبح اسمه الذي ينقشه على لوحاته "رومي" هو اسم طفله الاول.

 

شاكر يعمل ويقوم باعالة اسرته من عمله وجهده الذاتي، والاعمال التي يعرضها في معرض "منارات" هي منارات مشعة تحمل كل الدلالات على اصالة هذا الفنان، وعلى علاقته ودوافعه التشكيلية الفنية الغنية بالمضامين والرموز. وهنا، كما في الاعمال الاخرى، يثبت ابو رومي ان قيمة الفن في ذاته وفي مستواه الابداعي، لا في منبته  او اسم الشخص الذي ينتجه. ورغم اعاقته التي تحد من قدرته على الحركة، الا ان اعماله في مضمونها، نوعيتها، كيفيتها ومصداقيتها هي التعريف الحق على انه فنان قدير، يعرف حق المعرفة كيفية بناء اللوحة وتطويع ابعادها، وسبر اعماقها لتكون عملا ابداعيا خلاقا وجميلا. ولولا وجود اعمال شاكر ابو رومي في هذا المعرض، والتي احتلت الجزء الاكبر من مساحته، لكانت اضواء هذه "المنارات" مظلمة، او خافتة جدًا على اقل تعديل.

* إختلاط


من وجهة نظري اقول، ان المعرض دخل في معضلة اظهار قدرات المعاقين الذين شاركوا فيه، الا انه وقع تحت وطء الدمج غير الموفق، بين عرض اعمال فنية على مستوى راقٍ وجميل، وبين عرض اعمال اشغال يدوية تندرج في سياق المهنية والعمل العادي، واعتقد انه كان من الافضل الفصل بين هذين النوعين من الاعمال الفنية. فمن اجل عرض اعمال انتجات اشغال يدوية فنية، فانه يتوجب عرضها من خلال جلب اكبر قدر ممكن من هذا الاعمال وتنوعها، وعرضها على شكل بزار شعبي يتناول تسويق هذه الاعمال، كضرورة واحتياج يومي للناس من خلال العمل والعلاقة اليومية بها.. على ان تنضوي في سياق دعم الجمعيات والمؤسسات التي تعنى بقضايا المعاقين وتطوير ادواتهم.. كما هي ايضًا دعم شخصي لمن يساهم في انتاج هذه الاعمال من ذوي القدرات الخاصة، على اختلاف مشاربهم واعاقتهم، اضافة الى قدراتهم على انتاج اشياء جميلة وعملية.. ولكي يشكل هذا النوع من العرض "البزار"، محفزًا امامهم لانتاج اعمال ونوعيات أخرى متجددة ومكتسبة.

 

نحن في فجر الالفية الثالثة، ولا زلنا نعمل بصورة ارتجالية توافقية الى حد كبير. على الرغم من وجود القدرات والامكانيات والميزانيات، التي تتيح تحقيق هذا النوع من النشاطات الثقافية، بشكل مهني وعصري جيد.  وعليه يتحتم ان نرفض اقامة معارض اليوم بطريقة تعود بنا الى اواسط القرن الماضي، حين كنا نقيم المعرض بشكل تطوعي وارتجالي، نحتل من خلالها نوادي الحزب الشيوعي في القرى العربية، او في قاعات تابعة لكنيسة هنا او ناد شبابي هناك.
وقعت الاساءة الكبرى في هذا المعرض على اعمال الفنان شاكر ابو رومي، فهي تنتمي الى مصاف الاعمال التشكيلية الرائعة، وبعض من هذه الاساءة حصلت ايضًا لاعمال الرسامة هدى زعبي. كما يعتري الناظر الى هذا المعرض شيء من الشفقة على صيرورة عرض محتوياته، وكأنه جاء ليقول ان هذه اعمال معاقة!! مع ان الأمر  في كل ما يحتويه المعرض يكتنز في مجمله قدرات متفاوتة، ويدل على ان هناك فنانين معاقين يستطعون انتاج اشياء جميلة، في حين ان الدمج بين الاشغال اليدوية والفنون التشكيلية، لم ينجح الا في قليل منها، فالاعمال التشكيلية الفنية لها طريقة ورؤية عرض فلسفية يضعها منظم المعرض، من خلال ما يختاره من اعمال، كما ان طريقة عرضها لها نوع من الجدلية ما بين القطعة الفنية والمتلقي، ليشكل الامر في نهايته، وجودا متسعا من فضاء العلاقة بين محتويات العرض، والرسالة التي يحملها المعرض للوافدين اليه بشكل عام. ولكن على الرغم من كل هذا، فلا بأس في هذه الخطوة، وفي اقامة هذا المعرض كونه خطوة اولى، وكونه  اول تجربة "للمنارة" في هذا المجال.

* خلاصة


أخيرًا أتمنى للذين انجزوا هذا العمل، من اعضاء جمعية المنارة، وممن ساعدهم ايضًا، كل الخير والتقدير.. والى مزيد من العمل الطيب والعطاء المستمر، لما فيه خير المعاقين العرب ومجتمعهم، واتمنى ان تحمل هذه التجربة في سياقها العملي، محفزًا ودافعًا للاستمرار في العمل والعطاء، وتحسين الادوات والاداء.. في الانجازات المقبلة.. اخذًا بالمقولة اللينينية التاريخية التي تقول: "ان من لا يعمل هو وحده لا يخطئ".

زاهد عزت حرش *
الأثنين 26/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع