صوت ورائحة وشكل (إلى ريم بنا)



    "ريحتك زعتر"، قلت لها حالما رأيتهما وغمرتهما هي وليونيد في لوبي الأوتيل. لم أكن أتخيل أن بإمكان أحد ما حمل وطنا كفلسطين أينما حلّ، فلسطين المثقلة والمخضّبة بالآلام وما ترسب عنها من آمال. نظرت إلى وجهها، أردت البكاء قليلا، تكثفت قطرات الدمع على حواف عينيّ المشغولتين بتأمل الجليل في وجه ريم. كنت أضحك! كدت أبكي! كالمجنون الذي ما استطاع الرحيل إلى وطنه بعد، فرآه بكليّته حالًّا ضيفا عليه في ذكرى نكبته. أغمرُ هذا الوطن أمام تلبد الناس في اللوبي حولنا، ناس بلا مشاعر ولا أوطان ربما.
    "هيّو هون"، قالت عن الزعتر مشيرة إلى كيس في يدها. وعدتني منذ ما يزيد عن سنة ونصف بأن تجول بالـ "ويب كام" في حديقة بيتها في الناصرة لتحمل فلسطين إليّ كما قالت. لم يحدث ذلك، ولم أتوقع، ولا هي ربما، أن آخَرنا سيذكر ذلك الوعد. جلسنا قليلا، تحدثنا وشكوتها لزوجها ليونيد بأنها لم تحملني إلى حديقتها وقتها، ففتحت الكيس وأخرجت ما بداخله: كيلو من الزعتر الجليلي الأخضر الطري، ثلاث حبات ليمون لم أر كأصفرها، كيسا رقيقا يحمي حجارة وترابا لحديقة بيتها، وما لم أستطع الحصول عليه من ألبوماتها في شتاتي.
    لم تكتف بكلّيّة فلسطين فيها تمنحها لي بغمرها، لم تكتف بوطن بالمجمل، انتزعت حفنة من خلايا قلبه في الناصرة وحفظتها في كيس، من الناصرة، إلى أبوظبي، إلى لوبي فندق بارد في مدينة حارة تعج بالسيارات ويعج بالناس، ناس كالسيارات بلا أوطان. تحملت هي وحديقتها وناصرتها وجليلها وفلسطنتها هذه الغربة في اللوبي، وهي وترابها تعرف المعاناة الجديدة لحبيبات التراب هذه في حياة أخرى، غير العالم الآخر هناك خلف حدود حوّلت ما خلفها خيالات، لست أكيدا بعد من مدى قربه للحقيقة.
    كانت ريم ككل ناس وبيوت وقرى ومدن الجليل، كانت خيالا، له صوت وصورة ويتحرك ويتكلم في لقطات الفيديو أحيانا. صارت حقيقية فجأة. حينما أكدت لي مجيئها إلى أبوظبي خفت قليلا، سأخضع لتحدي واقعية هذا التخيل، قد ينتهي حلم سلسلة التخيلات هذه وأفيق لأجدني في فلسطين بلا نكبة حدثت قبل ستين عاما، ولا مخيمات، وريم تغني عن الحب، وعن كل شيء غير الشهداء والأسرى واللاجئين. وقد أكون في حياة واقعية، ليس حلما، ولكن الحياة هناك خلف الحدود، قد تكون كلها مجرد خيالات حين يأتي موعد قدومها لإحياء حفلتها الأولى هنا، ولا تأتي، قد أتأكد حينها من خيالية الناس والأشياء هناك، وهي حالة أكثر استقرارا على كل حال. ولكنها أتت وتجسّدت، فما عدت أصدق بأنها، ريم ووطن ريم، مجرد خيالات قد اخترعها انحراف ما في عقلي، خيالات لا يدركها غيري ربما.
    شممت رائحة الجليل في شعرها وجاكيت الجينز والكوفية الفلسطينية المرقطة التي تلفها حول رقبتها بأسلوبها الموسيقي، وفي الكلمات الأولى التي لفظتها بلهجة فلسطينية نصراوية نقية. كان كل شيء حقيقيا، كان لها رقم تلفون هنا في الإمارات، أكبسه رقما رقما فترد بصوتها المغسول بالزيت المقدس، كانت حقيقية إذن.
    ولم تعد كذلك ربما..
    اختفت كما أتت، أو أسرع قليلا ربما. وكأن كل فترة الانتظار هذه، والإيمان المتفاقم بخيالية ريم ووطنها معها، وكأنه يقتل ذاته إن زادت حقيقيتها عن يومين، أو كأن الحقيقة ذاتها تنتحر بالسم إن طالت لأكثر من يومين. ما كان حقيقيا هو أن خيالية الجليل ورِيمها هبطت، بعد رحيلها، عليّ كلوح زجاج انهار على رأسي وتبعثر رذاذه ليصير دخانا يمحي صور اليومين الماضيين، ويرجع الخيال أكثر ضبابية منه قبل مجيئها.
سأنسج خيالا جديدا يا ريم، أو سأبقي على خيالي السابق عن الجليل مع تعديلات ليست بسيطة في الصوت والرائحة والشكل، لأقول يوما أني غمرت وطني وجذر جذري.. هل منكم من غمر وطنه؟؟

كاتب فلسطيني \ أبوظبي
www.horria.org
..........................
www.rimbanna.com

سليم البيك
الجمعة 30/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع