يا ذا القلب الكبير



كانت مهاتفتها مفاجئة لي، فلا موعد ولا توقع، اذ كيف يمكن ان تنتظر مكالمة ممن لا تعرفها، ولست متأكدا من انها تعرفك؟ ومع ذلك جاء صوتها عبر الخلوي:
- ألو...
- نعم
- الاستاذ..؟
- نعم. من يريده؟
- اريد ان ادعوك لحضور حفل..
يا...ه!
أما زالت في هذا الجدب العالمي المترامي الاطراف، مثل هذه الخضرة اليانعة؟ اما تزال في هذه الفيافي مثل هذه الواحة ذات القطوف الدانية والأنسام العذبة؟!
هذا العالم الذي يبدو انه تجرّد من معظم اخلاقياته، وصار فيه الكذب والنفاق والعهر والقتل والابادة والتدمير "الدمقراطي"، سِمة العصر الغالبة، ما زال كما يبدو، لا يخلو ممن يقطرون تهذيبا وأدبا وانسانية حقيقية.
هذا العالم الذي "اوكلوا (فيه) القرد بمعط الجلد"، او بخلية الطحين، فيشبع الجائعون جوعا، وتزداد وحوش الغابة الرأسمالية شراهة وشراسة، ويظل "كليم الله"، آخر طبعة، مسؤولا عن مصائر الشعوب، وتظل وزيرة خارجيته تعِظ زعماء العرب المنبطحين امام ساقيْها، لا بدافع غريزي جنسي، فهم امامها يخفون كل مظاهر رجولتهم "ولا يبين منهم سوى ذيل الفأر"، على حد تعبير مظفر النواب، بل لكي يعرفوا منها ان عدو العرب والمسلمين هو حسن نصرالله الشيعي وبشار الاسد العلوي وايران. سلاح ايران النووي المزعوم، الذي تصر حتى ايران نفسها على عدم الرغبة في التوصل اليه، سلاح اجرامي قاتل، في حين ان الـ (150) رأسا نوويا اسرائيليا (العدد على ذمة جيمي كارتر)، لا تحمل سوى النهود الفتية النافرة الجاهزة للمص والمداعبة، وكميات من اللحم المشوي مع البطاطا المسلوقة. اصبح كارتر بعد هذا التصريح، وبعد ان وصف حصار غزة "بالجريمة ضد الانسانية"، عجوزا خرفا، وربما يبول في سرواله! لكنه عندما ألقى بالسادات في جب خيانة الموقف العربي، وأخرج مصر من المعركة في مؤامرة كامب ديفيد، فقد كان آنئذ رمزا للعقل والذكاء والحصافة!
عند اليهود زعماء وعند العرب عملاء.
ها هم في الولايات المتحدة، يفرضون على الرئيس المتواري، ضمان مستقبل اسرائيل لستين سنة قادمة. ويفرضون على الرئيس المفترض القادم، باراك اوباما، ذي الاصول الشرقية السمراء مثلنا، ان يمارس انبطاح العرب، ويهرق دماء الحياء في وجهه، ليؤكد لليهود الامريكيين ان اسمه بالعبرية "باروخ"، أي مبارك!
اللهم عفوك ورضاك! نحن لا نعترض على تدبيرك، لكننا دعوناك للتخلص من واحد، فاذا بك تزيدنا "مباركا" جديدا!!
اما زعماء العرب فيراقصون بوشهم بالسيوف المذهبة، وربما على متن البوارج "الثقافية" وحاملات الطائرات "الدمقراطية" وفوق اشلاء العراقيين وخرائب ديارهم، وعلى زقزقة العصافير في بطون الغزيين الطاوية. فهل يستعدون لوليمة شواء بشري مع البطاطا المسلوقة في البريج وبيت حانون وبيت لاهيا.
لا بل ان هؤلاء الزعماء يأخذون على الامة طول لسانها. فبوش – كما يؤكدون – لم يأت لتهنئة اسرائيل، بل لتعزيتها!
- كيف يا طويل العمر؟
- الا تسعى اسرائيل الى مد ملكيتها الى ما بين النيل والفرات!
- صحيح
- وهل حققت ذلك؟
- لا
- اذًا من المنتصر يا فهيم؟
- أفحمتني يا طويل العمر..
ترى هل كانت هذه النظرة الى الامور، هي ما جعلت لي مكانة خاصة في القلب الكبير لذلك الانسان الكبير؟ وهل كانت جذوره القروية عاملا في تمتين العلاقة بيننا؟
هل كان من خلال كتابتي، بصفتي قرويا (رغم اطلاق اسم المدينة على قريتي)، يلج "قاع" البيت، ويرى "معقال" الدجاج ويلمس "خلية الطحين" ويتحسس "السراج" المعلق على الداخون يقاوم الهواء، ويرنو الى "الطيارة" الخشبية المتأرجحة في فضاء البيت، تحفظ الاطعمة من الفساد وليست من مصنوعات امكور وتديران؟!!
كنا نلتقي في المظاهرات والمسيرات والمناسبات الوطنية. لا يمنعه عامل السن ولا المرض من المشاركة، ابحث عنه ويبحث عني حتى نلتقي ونسلّم بحرارة. "انا احب اولاد سخنين"، يبادرني، "حط ايدك على قلبك، اللي بتحبو بحبك"، اجيب. فالذين تلقوا العلم على يديك لا ينسون فضلك، وفضل الناصرة، حين كانت مدرستها الثانوية، احدى القلاع الثقافية القليلة في بلادنا. وكانت بيوتها تحتضن القرويين وتوفر لهم سبل العيش وتحقيق حلمهم العلمي، رغم انف اوري لوبراني.
كنا نتبادل الآراء ووجهات النظر، في كل ما يجري في المنطقة وفي العالم. ننفث الالم ونتمسك بأهداب الامل الذي يضيق العيش بغير فسحته.
وحين كانت المسافة الزمنية تنأى بين المناسبة الوطنية وأختها، لم يكن يتردد في الاتصال هاتفيا، يناقش معي المقال الاسبوعي او فكرة اعجبته فيه، حاثّا اياي على مواصلة الكتابة. كان يخجلني حين يمتدح كتابتي.
وبعد، فلما كانت الثمرة لا تسقط بعيدا عن الشجرة، فان الدعوة المهذبة الى حفل التأبين لم تعد غريبة. فالمتصلة هي الصبية الجامعية عُرَيب، والمحتفى بذكراه العطرة، هو المربي الصديق الوطني الانسان خالد الزعبي..
أبا صائب.. سأفتقدك كثيرا.. سنفتقدك كثيرا..
**

 

*ومضة*

- هل ثمة في هذا الزمان من يعتذر عن اساءة لم يرتكبها؟
- أجل. ايمن عودة على سبيل المثال.

يوسف فرح
السبت 31/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع