تعليم الكتابة الإبداعية



في معظم جامعات العالم الكبرى، وربما تلك التي تصنف في قاع السلّم الأكاديمي، هناك شيء يسمى برنامج الكتابة الإبداعية الذي يمنح شهادات عليا في كتابة الشعر والرواية والقصة القصيرة. وهناك عدد كبير من الكتاب والروائيين والشعراء البارزين في العالم تخرجوا في تلك البرامج، وأصبحوا من الكتاب الذين يشار إليهم بالبنان في بلدانهم.
هذا لا يعني أن على كل من يسعى لاحتراف مهنة الكتابة أن يذهب إلى هذا النوع من البرامج الأكاديمية ليتعلم الكتابة الإبداعية، فهناك أناس موهوبون وقادرون على تعلم أشياء كثيرة عن الكتابة لا يعلمهم إياها أحد. حتى إن بعض هؤلاء يأتون إلى عالم الرواية والقصة والشعر، وغير ذلك من مناشط الحياة الإبداعية، من عوالم بعيدة: من الطب والهندسة والفيزياء، وحتى من عالم الأعمال اليومية مثل قيادة القطارات والسيارات العمومية... إلخ مما يخطر في البال من أعمال وتخصصات.
لكن ذلك لا يعني أن الكتابة هي مجرد موهبة، ولا يدفع الجامعات إلى عدم تبني تخصصات الكتابة الإبداعية. لكن المؤسسة الأكاديمية العربية، في مشرق العالم العربي ومغربه، من محيطه إلى خليجه، لا تؤمن بهذا النوع من الدراسة، ولا تعترف بالكتابة الإبداعية عملاً بحثيًا وطاقة خلاقة يمكن مكافأة صاحبها على جهده من خلال منحه درجة جامعية. من هنا يبدو من الضروري استحداث برامج دراسية في الجامعات العربية تعلم الكتابة الإبداعية: شعرًا ومسرحًا ورواية وقصة وكتابة تلفزيونية، وسيناريوات سينما، لأن ذلك يدل على تسرب قدر من الإيمان بأن الكتابة يمكن أن تعلم، وأن تصقل، وأن تغذى بالمعرفة والتقنيات والدربة، وأنها ليست موهبة آتية من وادي عبقر.
ذلك ما يؤمن به العالم المتقدم، والمؤسسات الأكاديمية الكبيرة في مشارق الأرض ومغاربها. ولهذا، فإن الكتابة، وما نسميه الإبداع، يتطوران ويتحولان إلى حرفة أساسية تمكن صاحبها من العيش من دون اللجوء إلى مصادر أخرى لكي يقيم أوده، ويواصل العيش والكتابة في الوقت نفسه، بعكس كتابنا الذين يتعاملون مع الكتابة بصفتها هواية، وعالمًا متواريًا من حياتهم اليومية، وشأنًا خاصًا بهم وحدهم. وهم بذلك لا يعولون كثيرًا على الكتابة بصفتها مصدرًا أساسيًا للرزق والرفاهية.
ذلك مقتل من مقاتل الكتابة في ثقافتنا، واختزال لها، وإقرار بأنها غير أساسية في حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولنا عبرة في نظرة المجتمع المستصغرة لشأن الكتابة، وعدم حضورها في المخيال الشعبي إلا بصفتها تحليقًا في عوالم هيولية خيالية، وتلهيًا ينشغل به الخياليون الرومانسيون من البشر. وهو ما ينعكس بصورة مؤذية على مفهوم الكتابة نفسها، وعلى نظرتنا نحن الكتاب لها، وعلى طريقتنا في مزاولتها، فهي لا تؤخذ بالجدية الكافية، ولا تصقل عبر المران والتعلم والمعرفة، ولا يتوصل إليها بالجهد والمغالبة الدائمة لفعل الكتابة والتعبير اللغوي.
ما أعنيه هو أن الصورة المتخيلة للكتابة تؤثر سلبًا في ارتقاء الكتابة وتطورها، وتمنعها من أن تصبح شريانًا اقتصاديًا آخر في المجتمع، فيما تشكل الكتابة في الغرب، ومناطق أخرى من العالم، ممارسة تدر مالاً كثيرًا على أصحابها عندما تصبح مطلوبة في الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى، وفي دور النشر. ولهذا، فإن الجامعات الكبرى في أميركا والدول الأوروبية تكرس برامج أساسية في الدراسات العليا لكي تعلم الطلبة الكتابة والتأليف والشعر والرواية والكتابة القصصية، لأنها تؤمن بأن الإبداع يعلم ويصقل ويشحذ عبر المراس والبحث والكتابة المستمرة.

* ناقد أردني ("الحياة" اللندنية)

فخري صالح *
الأثنين 2/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع