العربي في المحاق!



في مأتم حضرته، مؤخرا، أنشأ إمام المسجد خطبة استمرت خمسة وخمسين دقيقة لم يُشر فيها إلى المتوفى سوى ثوان معدودات. وقد كرّس جهده لإقناعنا نحن الحضور الوافد للمواساة أن الدنيا ما هي إلا خدعة أو بدعة وأن الموت هو الأمر الجلل الذي ينبغي أن نستعدّ له. وذكّرنا مبتسما ابتسامة إشفاق يقارب الاستهزاء بأننا تبارينا في حمل النعش بينما سنكون نحن المحمولين فيه غدا! وكرر علينا السؤال متوعدا بألف صيغة: "هل أنت مستعد لملاقاة ربك؟". ذمّ الحياة في حديثه وجعلها دنسة كجيفة وشرع يمجّد الموت وما يفتحه من أفق! وكان قريبا جدا من أن يقول لنا اذهبوا وموتوا أشرف لكم! وغداة هذه التجربة الغاية في الدلالة استمعت إلى شيخ آخر يتحدث إذاعيا عن الجنة التي تنتظر المؤمن منا. ولم يكن في حديثه أي جديد سوى أنه انعطف في إحدى مسالك الحديث ليؤكّد للمؤمن منّا ألا يهتم إذا كانت زوجته شمطاء أو قبيحة لأنها في الجنّة ستتبدّل وتحلو وتبهى! فضحكت وحدي قبل أن أبكي.

 

في المأتم، لم يخطر ببالي سوى أننا حيال تديّن شعبوي يبخّس الحياة ويلغي الإنسان أو يجعله بمنزلة الصفر أمام الذات الإلهية. وهمست في أذن الجالس بجواري "ما دام الفرد منا صفرا على نحو ما شرح إمام المسجد فلماذا نستغرب أن تكون مكانة أمتنا صفرا بين الأمم؟". وفي حالة الشيخ المتحدث إذاعيا، بدا لي تديّنه كمن يدعو لشرب المرطبات المنشطة التي تعد شاربها بليل طويل من الحيوية والفحولة! أقولها محاولا استرجاع كل ما كسبته في أيام طفولتي وصباي وقد تربيت تربية دينية فلم أعثر على أثر لمثل هذه المعاني فيما انتقل إليّ شفهيا أو من النصوص الدينية المكتوبة.

 

الكتب هي هي لكن المرحلة مختلفة. أو النصوص هي هي ولكن المجتهدين فيها تبدّلوا. ولأننا قرأنا دريدا وفوكو وفيتجنشطاين وسعيدا فإننا على علم بأن كل نص حمّال أوجه، وأن ملكيته تنتقل لحظة الاطلاع عليه إلى القارئ، وأنه سيظل خاضعا للتأويل طالما قرأه المعنيون. ومع هذا جزعت لأن نصيّ الإمام والشيخ يجسدان مشهدا ثقافيا واسع الانتشار منتشرا كالكثبان الرملية المتحركة في لغتنا وخطابنا الراهن. وهي كثبان قادرة على إخفاء كل معلم في المسالك والمناهج وكل قافلة أو عابر فيها. شعبوية ساعية بثبات إلى تبخيس الراهن على الأرض وتجاوزه نحو الموت/الجنة على ما توفّره للمؤمن! والنزعة المستقبلية هذه وجه آخر للماضوية التي دأبت من قبل، ولا تزال، على التهليل للماضي المجيد تستحضر منه شخوصه وأبطاله لتنفخ فيهم الروح كأنهم أحياء عند ربهم يرزقون الآن! لن نخطئ إن قدرنا أن تبخيس الحياة أمام واقع الموت يأتي للدلالة على جبروت الموت وأن إلغاء الذات الإنسانية يأتي للدلالة على سطوة الذات الإلهية وصيغة لإدراك الموت عبر دمجه بفكرة الله ودلالاتها. وعلى النسق ذاته أمكننا أن نقول أن صعوبة الواقع العربي أو ما يُفترض أنه قسوة حياة أو سوء طالع أو نكسة أو نكبة أو هزيمة يدفع الإنسان العربي إلى حضن "ماضوية" تُعيد إليه ولو وهما مجده أو توازنه، أو إلى "مستقبلية" يكون فيها من الفائزين المحظيين حتى ولو جمعه الراهن بزوجة شمطاء! الحركتان معكوستان في الاتجاهين توحيان بالعجز. عجز الأفراد والجماعة المستنقعة في ثقافة كهذه. فالعيش في ماض نعتبره ذروة وكل ما أعقبها كبوة، أو في جنة مستقبلية باهية مشرقة وكل ما قبلها ظلام وبؤس وشقاء لا يتطلب أفعال العقول. لا تطلب مثل هذه الثقافة من المشارك فيها سوى فعلين، التحسّر والتمني. التحسّر على ماض تليد وتمني الفوز بالجنة. وبين هذا الفعل وذاك تنتشي الهواجس والنزعات الدفينة والأحلام والنشوات والنزوات. فتتحرك حياة الأفراد بين مجد غابر لا يُستعاد وبين مقامات في الأعالي لا تُدرك.
مثل هذه الثقافة لا تملك مشروعا ولا طريقا لأنها ليست بحاجة إليهما. وهي في هذا تتلاقى مع الثقافة الأثيرية، ثقافة الصورة المبثوثة المنقولة المتحركة بكبسة زر أو زرين على الأكثر. شيء ما يتجاوز الحقيقة الصلبة إذا صحّ التعبير، يتجاوز الحياة الناجزة الحاصلة نحو حالة من الخدر اللذيذ بين الليلك والياسمين والورد وسجائر الكيف والمشروبات المنشطة وعقاقير لا أسماء لها في دهاليز المشعوذين أو البريد الأثيري! ثقافة ترفض العيش في الراهن وتتقن فن التحايل والالتفاف عليه. وهي لا تُشبه في هذا ما ألفناه من عقائد اهتمت بصناعة الأمل لأن الأخيرة لم تقفز فوق الحاضر ولم تنكر الزمن الصعب بل خاضت فيه وعبره محددة مسالك ومعابر وغايات وجدولا زمنيا (الخطط الخمسية مثلا). وكونها لم تحقق للإنسان العربي كبير نجاحات أو كون ولادتها عقيمة جوفاء لا يخولنا وضعها على قدم المساواة مع الثقافة موضوع حديثنا هنا. فالإمام الذي ألغانا كليا وشطب الحياة تماما من قاموسنا ترك للشيخ في الإذاعة أن يصف ما ينتظرنا من ملذات إن آمنّا! لأن حياتنا على الأرض صعبة فالأفضل أن ننكرها تماما وننكر أنفسنا فيها ونستعدّ للموت الذي سيخلّصنا وينقلنا على جناح السرعة إلى حيث فرش لنا الشيخ الديباج ورمم لنا وجه الزوجة وجسدها على أفضل ما نتمناه كي تبدأ حياتنا هناك!

 

وأنا الذي كبرت في كنف عمومة مؤمنة أنه لا يجوز الأكل على مائدة سلطان أو من "نعمه" تذكرتهم كلهم وهم يحفرون الآبار في ساحات دورهم يجمعون بها ماء المطر لئلا يضطرون لشرب ماء وصلت قريتنا بالأنابيب من مكان مجهول فاستنكفوا عن شربه. وتذكرتهم حينما رفضوا أن يتقاضوا مخصصات الشيخوخة لأنهم لم يعرفوا مصدرها وطريقة جمعها فلم يخاطروا في تسلمها. وبدل أن يلعنوا الزمان الصعب افتلحوا الأرض وأنشأوا في كتف الجبل جنتهم وأكلوا من عرق جبينهم ومما أطلعوه من الأرض وما استطاعوا أن يجترحوه . فما ضاعت لحظة وما انزلق من بين أصابعهم وقت وما تعب عقل من حكمة الحياة يوسعون فيها المساحات الخضراء ويضيئون فيها مشاعل نور. جعلوا إيمانهم عونا  يعيشون به الحياة الكريمة الحرة على قدر ما بكّروا وأعملوا مناجلهم . واجهوا الحياة بشرف كأنهم يعيشون أبدا.

 

لست متدينا ولا مناصرا للأديان ولا للممسكين بأعناقها ومفاتيحها، فلا قِبل لي بمقارعة نص ديني بآخر، لكني شاهد على أشكال أخرى للتدين السهل الممتنع. تديّن غير متبجح ولا شعبوي، تديّن روحاني لا ترهيب فيه ولا ترغيب، لا وعود ولا غيبيات، تدين لا يلغي الإنسان ولا يجعل الموت فوق الحياة أو قبلها، تديّن لا يلغي العقل ولا يوصد الباب دونه. ومن التدين ما يمكّن الإنسان ويبني قدراته ويحثّه على تحقيق الجنة على الأرض وتحقيق الرائع في الحاضر. والمشكلة في أن ثقافة شعوب عربية بكاملها انزلقت راهنا إلى تهويمات الإمام والشيخ المذكورين. فالإمام مهتم بإعلاء شأن الموت المطلق على الحياة النسبية لأنه يُدرك أنه في حالة الموت محرر من أي واجب سوى الحديث عن الموت (مثله فعل تجار الشهادة السُدى) بينما هو في حالة الحياة مسؤول عن صنعها وترتيب أوراقها والمرور في مساربها ومنعرجاتها وتقليم أظافرها إذا لزم. وهو ما يتطلب العقل بكل طاقاته ونوره الأمر الذي لم يبد أنه يحوزه! أما الشيخ فيعد بالجنة دون أن يكون قادرا على ضمانها أو دون أن يكون مطالبا بشيء بخصوصها. وفي الحالتين يُحيل الإمام والشيخ الملفّ للبت فيه إلى ذات إلهية مفترضة وينسلان خارج الزمن المعطى إلى زاوية معتمة حيث يمكنهما أن يُخفيا ابتسامة ظفر! والمستمعون يحاولون أن يغادروا خانة الصفر نحو الوجوه المرممة كما في رواية الشيخ ذي الصوت الإذاعي. وإذ بالحياة تتراءى لهم كما خلقها ربها كثيفة لطيفة، ثقيلة خفيفة، نجسة عفيفة تُغوي العقل أن يُدرك. شيخ وإمام منتشيان يُجسدان ثقافة الإتباع المفضية بالضرورة إلى ضياع في المحاق بينما أفضت ثقافة الإبداع بالآخرين إلى الوجود في الأرض والوصول إلى القمر!
دالية الكرمل

 


marzuqh@gmail.com

بقلم: مرزوق الحلبي
الأثنين 9/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع