كَوْنْ لا زَمَنْ ـ 2



 

 

 

 

 

 


      قالتْ: لا أعرِفْ، كيفَ تُحْكَى الرّواياتُ كيفَ يأخذُ شَكْلَ الرّيحِ الشَّجَرْ؟
      قُلتُ: أرضٌ تكتُبُ العِشْبَ يَكْتُبُها العِشْبُ.. .. .. فَصْلٌ بعدَ وَصْلٍ ـ
      إلهٌ من هنا، قبلَ هُنَيْهَةٍ، عَبَرْ!
  *

نتَّكِئُ على شَمْسٍ. نَحْفُرُ في سَماءْ.
نُطالِعُ عالَمَنا السُّفليَّ. نلعبُ النَّرْدَ مع نِرْجالْ1
نهزمُهُ يهزُمُنا... ـ
شَريعَةٌ، في لَهْوِنا، تتلَعْثَمْ ـ
[.. لَهُ النّارُ لنا حَيْضُ جَهَنَّمْ.
*

سَماءٌ عَفْلاءْ.2 الإلهُ اعْتَفَقْ.3
: طينٌ يَسْتَنْطِقُ طينا.
 خَوَاءٌ يسْتَمْلئُ خَواءْ
والأُفْقُ انْفَلَقْ.
*

خَفيفَةٌ طَيّاشَةٌ فَراشَتي.
"مُتَّكِئَةٌ على فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إسْتَبْرَقٍ"4 لا زَمَنْ لا كَبَدْ
مَوتٌ يُرَفْرِفُ
أزَلٌ لا أوَّلَ لهُ ـ
     في انحِرافِهِ لا أبَدْ.
*
[.. حينَ تصْطَفُّ غُربَتُكَ أسراباً على رَصيفِ مَجَرّةٍ هَرَبَتْ بارِدَةْ أو حينَ يَعْوَجُّ الفَرَاغُ في كَوْنٍ كانَ دَفيئَةْ أو حينَ تَمُوتَ مَرَّتَيْنِ تَعُودَ.. تعُودَ ولا شيءَ غيرَ الصَّمتِ يُطَرْطِقُ خَجُولاً بين أصابعِ يَدَيْكَ ويترُكُ بينَ قَدَمَيْكَ بعْضَ فُتاتِهِ ودَهْشَةِ العِتْمَةِ ورُفوفِ غُرْبَتِكَ...
بَيْتُكَ أنتَ والكَوْنُ سَريرْ
تاريخُنا لحظَةٌ حَشَوْتَها
     سَهْواً في جَيْبِكَ الصَّغيرْ..
يا إلهَ الغُربَةِ كيفَ ابتدأتَ حِكايتَنا
     بلا وَطَنْ، بلا كِتابٍ
     أو عقيدَةٍ أبديَّةْ؟
كيفَ كتبْتَ أسْفارَ تحوُّلاتِكَ
     بلا دِماءٍ أو أبجَدِيَّةْ؟
كيفَ، في اللاّهَواءِ، أخرَجْتَ هذا الصَّفيرْ؟
*

      قالتْ: كيفَ حينَ تتجرّأ اللّغةُ يصيرُ الصَّمْتُ نبيّاً ـ
       كيفَ لم نقُلْ شَيئا يخفّف عن خزائن الغَدِ احتمالاتِهِ؟
قُلْتُ: قُلنا كلّ شيء ولم نقُلْنا.
دخلنا في سيمياءِ الحروف خيانةً لكيمياءِ الفعل.
قلنا كلَّ شيء ولم نقلْ أيّ شيء
لكن العيونْ واختلاجاتٍ توتّرت خلف الشّفاه ـ
ضاعت بين هبّات الرّيح، قالت ما لم نقُلْ
فضعنا في الكلامِ..
قالت: أراكَ.. في لُغةِ الصَّمتِ الدّفينةْ
 حينَ يجْفِلُ الضَّوْءُ، أراكَ
   في مَنامي
وحين تنهضُ خلايا الدِّماءِ في جَسدي المَدينَةْ
هُناكَ، في الرُّكامِ أراكَ.. وأعجَبُ:
 تراني أحبَبْتُكَ أنتَ
      أم أنني أحبَبْتُ رُكامي؟!
 قُلتُ: أخافُ على أشياء الطبيعةِ من طبيعةِ الأشياءْ
ولا يبقَ لي سوى خوفي.
تبّاً لتلك اللحظات التي لا تنتهي،
هُناكَ عَلِقَتْ ولادتي..
هناكَ أمارِسُ عادَتي
الوَحيدَةَ
 والصَّدى
  والنِّداءْ..
تباً لقُبلةٍ طبعتُها على خدِّكِ،
فوقَها، يطبعُ الآخرون قبُلاتِهم،
      لا لشيء
      سوى أن أختفي..!
 قالت: هل تذكر حِكايةً
      ضاعَ فيها إلهُكَ، وفيها ضَيَّعْتني؟
 قُلتُ: إنْ أردْتَ أن تتْبَعَ الضَّوءَ
  فاجْعَل الضَّوءَ بالضَّوءِ يَقتَفي
  حين سألتُ عنكِ الإلهَ
  خَلَعَ عنهُ مَدَارَهُ وتمدَّدَ هُناكَ،
  عندَ ذاكَ المُنْحَرَفِ.
 *

يا إلهَ الغُربَةِ كيفْ:
[.. ذاتَ يَومٍ كانت الحرب،
      (وكانَ موتو5 ضائعاً في مَتاهَةِ أعْضائِهِ..
واستُدْعي ابنُها ابن الثامنة عشر الى التّجنُّد.
      (فيما إيريشكيجال6 تُضاجِعُ عشيقَها وتحتسي النارَ..
استدعت مصوّراً فوتوغرافيّاً رغبةً في حيازة صورة تذكاريّة لها ولإبنها معاً وهو لأوّل مرّةٍ في زيّه العسكريّ..
ودّعته.
بعد أيامٍ قليلة قُتلْ.
(وما زال موتو يلوكُ جَسَدَهُ، فيما التّنين يُرْهِبُ الأرضَ والسّماءْ.
منْ أنجبَ التّنينَ سواكَ يا بَحرَ الضّياعِ؟ منْ رسَمَ شَكلَهُ على لوحِ السّماء بريشَةِ إنليلْ؟7 ومن كان يلتقطُ الطّيورَ بلسانِهِ ويحرّك الكون بذيله؟
الآلهةُ ساجدون أمام إيا8.
نسيت الأم الصّورةَ والمُصوّر
وكأن شيئاً لم يُرسَمْ على لوح السّماءْ.
رحلت حيث لا ذاكرة ولا مكان.. ومرّ الزمان.
      (وكانَ موتو يحتَسي الرّغبَةَ من نافورة جهنّمْ..
      وكانَ موتو يُضاجع نينتو9
      وكان موتو يتساقط مطراً فوق بحرْ
      وكان موتو يعزف الأبدِ على أوتار الألجارْ10
      وما زال موتو موتو/ إلهٌ يَقينٌ حائِرْ
      يلوكُ بأسْنانِ الغَيْمِ
      لَحْمَ جسدِهِ المُتنافِرْ
    
بعد عشرين عاماً طلبت صديقةٌ للأم، تنوي الهجرة، أن تمنحها صورَةً تذكارية لها تحتفظ بها. ذهبت الأم لتتصوّر مرتديةً ثوبها الأسود الذي يلازمها منذ مقتل ولدِها. استلمت الصّورة. نظرت. كانت تبدو كما هي في عمرها الحاليّ وفي رداء حدادها.
لكن، ها هو ابنها ابن الثامنة عشر يجلس الى جانبها مرتدياً زيّه العسكري...11
*

* لذكرى فضل شناعة، المصور الذي اغتالته اسرائيل بقذيفة دبابة


1  (Nergal) هو ملك العالم السُّفلي ابن الإله إنليل  (Enlil)(سيّد مجمع الآلهة) والإلهة كوتوشار (Koutoushar). وكان المُصلّي يعتبر نرجال إلهاً لجميع البشر مُتَّصِفاً بالحلم والتسامح والغفران.
2  الضَّيّقَةُ الفَرْجِ من وَرَمٍ يحدُثُ بين مسلكيْها.
3  انثنى بعد انتصابه واستوائه.
4  القرآن الكريم، سورة الرحمن، اجتزاءٌ من الآية 54 مع تصرُّف. بالأصل "مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ.."
.
5  "موتو" Moutou أي الموت. وهو من كائنات العالم السّفلي له رأس تنّين ويدا بشريّ ورجلا طائر.
6  Ereshligal هي عشيقة نرجال، وقد أصبحت ملكة العالم السُّفلي وهي أخت إنانا/ عشتار.
7  الإله إنليل، وبحسب أسطورة التنّين لابّو رسم إنليل شكله في السّماء، فكان طوله خمسين بيرو (بيرو = 10 كيلومترات على الأقل)، وسُمكُهُ بيرو واحد، وقياس فمه ستّة أذرُع ولسانه إثنا عشر ذراعاً...
8  Ea  هو الإله إيا، إله المعرفة ومهارة الصُّنع وأمير الأبسو (البحر).
9  نينتو Nintu هي إلهة الولادة.
10  الألجار ِAlgar، قد تكون آلة موسيقيّة ابتدعها الإله أنكي، وبحسب لوحة موسيقيّة أوغاريتيّة فإن الوتر الرابع في القيثارة التُّساعيّة معروفٌ بالوتر الصّغير وأكاديّاً بالوتر الذي خلقه إيا (Ea).
11  وردت هذه القصّة على لسان ساعي البريد في فيلم أندريه تاركوفسكي الأخير "التّضحية".

وسام م. جبران
السبت 14/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع