"صوت من بعيد "



آخر ما كان يتوقع العم أبو فروج أن يفقد فجأة هذا الصباح ومن أمام دكانه بالذات أغلى وأثمن وأعزّ بل وأحب شيء في حياته على الاطلاق.. آخر ما كان يتوقع العم أبو فروج بالفعل أن يفقد فجأة كلبه العزيز الغالي المحبوب والمدلل كثيرا  ركس أو ركوس كما يطلق عليه الكثيرون من سكان ذلك الحي الشعبي الذي يعيش ويعمل فيه معا  في مهنة "الغسيل والكي" والذين يحبونه أيضا  كثيرا  خصوصا  الاطفال منهم... آخر ما كان يتوقع العم أبو فروج أن يفقد كلبه هذا المتعلق به كثيرا  إلى حد العبادة وفي مثل هذا اليوم بالذات الذي يُصادف أول يوم من دخوله عامه الثاني... كان العم أبو فروج عازما  هذا اليوم ومخططا  أن يُقفل دكانه هذا المساء باكرا  قبل الموعد المعتاد الذي دائما  يقفل فيه دكانه كل مساء بساعة واحدة أو حتى بساعتين أيضا  ليتسنى له مزيدا  من الوقت الكافي ليدور مع كلبه ركس أو ركوس كما يُطلق عليه الكثيرون خصوصا  الاطفال منهم في بعض شوارع وأزقة ذلك الحي الشعبي المتواضع الذي يعيش فيه ويعمل في مهنته معا .. ليوزع بعض الاطعمة من بقايا النقانيق والاجبان وغيرها التي إشتراها يوم أمس من بقاله العم أبو فرهود المجاورة خصيصا  على بعض الكلاب والقطط أيضا  التي قد تُصادفه في بعض تلك الشوارع وبعض تلك الأزقه من خلال تجواله فيها بمناسبة دخول كلبه ركس أو ركوس عامه الثاني.. ماذا تراه يفعل العم أبو  فروج الآن بعد مرور مثل هذا الوقت الطويل ولم يعد كلبه حتى الآن..؟ أجل ماذا تراه يفعل..؟ لقد مضى أكثر من عشر ساعات حتى الآن على إختفائه.. إنه مثل المجنون الآن يدور ويلف ويحدق ويتفرس بكل كلب يمرر من أمامه ويتمنى لو يكون ذلك الكلب يفهم عليه ليسأله إذا كان قد رأى كلبه ركس.. انه لا يعرف ماذا يفعل الآن ولا يعرف الى أين يتوجه ليفتش عليه.. لو كان العم أبو فروج قد فقد مبلغا من المال لكان الأمر أهون عليه بكثير.. لكن أن يفقد كلبه ركس باذات فهذا ما لا يمكن ان يهدأ له بال على الأطلاق.. إنه أغلى وأعز ما في الوجود بالنسبة اليه بعد ان تعود عليه وتعود على عشرته والتونس به.. انه مثل واحد من اولاده بل وأكثر أيضا.. يكفي انه صادق وأمين.. داير باله عليه كثيرا.. الغالي يرخص له.. يشتري له طعامه كما يشتري لنفسه ولزوجته واولاده.. يهتم به كما يهتم بزوجته واولاده.. لقد تعلق به كثيرا.. أينما يذهب تراه يصطحبه معه.. كل مساء تراه يقفل دكانه ويصطحبه من مكان الى آخر في تجواله الويل ثم الويل لمن يرفع صوته على العم أبو فروج تراه يهجم عليه مثل النمر ويريد أن يشلخه.. حدث مره أن كان العم أبو فروج يسير معه في إحدى الحدائق ألعامه فتدركم العم أبو فروج بحجر ووقع على الأرض ولم يستطع ان ينهض من شدة الوقعه.. فتقدم أحد الماره ليسعفه.. فهجم عليه ركس مثل النمر وكاد يشلخه فنهره العم أبو فروج وقال له إهدأ يا ركس.. هذا الإنسان يريد أن يسعفني.. فهدأ ركس حالا وأخذ يراقب ذلك الرجل بحذر تام وحين تأكد من معروف ذلك الرجل إندفع اليه وأخذ يلحوس بقدميه وكأنه يشكره.. لو كان كلبه ركس قد لحق بالفعل بأي كلب آخر مثلا ومثلما له بالعادة في بعض الأحيان أن يلحق بأي كلب يمر من أمامه لكان قد عاد بعد ساعة أو ساعتين على أبعد تقدير.. لقد حدث مرارا أن لحق بكلب ما أو بعدة كلاب مروا من أمامه فغاب ساعة أو ساعتيين لكنه سرعان ما كان يعود ويتسمر أمام الدكان ولا  يجعله يقلق عليه.. لقد قلب العم أبو فروج الحي كله عليه.. قلبه من شرقه الى غربه ومن شماله الى جنوبه فلم يعثر عليه وكأن الأرض إنشقت وبلعته.. لم يترك واحدا صادفه إلا وسأله عنه.. كل واحد في الحي يعرف ركس معرفة تامة.. إنه أشهر من نار على علم.. سيرته على كل لسان مثل سيرة إبريق الزيت.. نغنوش الملعون كثيرا ومحبوب أيضا كثيرا.. إبنة الجيران الصغيرة لا تغفو إلا بعد أن تقص أمها عليها حكاية عن ركس.. كل واحد في الحي يحبه ويداعبه ويتمنى أن يكون عنده كلب مثله من هذا النوع.. إنه بالفعل من جنس الكلاب النادره والمميزه وغاليه الثمن لا يوجد في البلدة التي يعيش فيها كلب مثله على الأطلاق.. ولا يتصور أن يوجد كلب أخر مثله في أية بلده أخرى مجاورة.. كم وكم دار العم أبو فروج مع كلبه ولف في شوارع هذه البلدة وأزقتها التي يعيش فيها فلم يصادف ولو مرة واحده كلبا مثله.. إنه نادر الوجود.. الكل يحسده عليه.. كل واحد يتمنى أن يكون عنده كلب مثله نغنوش ودلوع أيضا.. أين هو الآن يا ترى..؟ أين..؟ وأخذ العم أبو فروج يتمتم بينه وبين نفسه أين أنت الآن يا أوفي الاوفياء..؟ أين أنت الآن يا أصدق الأصدقاء..؟ أين أنت الآن يا أخلص المخلصين..؟ أين أنت الآن يا أعز ويا أغلى ويا أحب ما في الوجود بالنسبة الي..؟  أين أنت أين أنت..؟ كيف لي ان اهدأ..؟ مش ممكن أن اهدأ على الأطلاق لا بد ان أعثر عليك لا بد ولا بد... ولا بد ان يكون واحد إبن حرام قد حط عينه عليه وغافله وسرقه عن سبق إصرار.. لا بد ان يكون واحد قد غافله هذا الصباح وسرقه  عن سبق اصرار .. لا بد أن يكون واحد قد غافله هذا الصباح وسرقه .. لا بد أن يكون هذا الواحد قد راقبه هذا الصباح حين دخل المرحاض وسرقه.. لا بد ولا بد.. كثيرون حاطين عيونهم عليه.. كثيرون عرضوا عليه مبلغا دسما من المال من أجل ان يبيعهم إياه.. واحد دفع له مبلغا مغريا من أجل ان يشتريه منه.. دفع له الف ورقة خضراء.. كثيرون حاولوا سرقته ايضا.. لقد سرقه مره واحد من الحاره الشرقية قبل شهر فذهب العم أبو فروج الى هناك وإهتدى اليه حالا واسترجعه.. فهو أليف جدا ويوال حالا على كل واحد يداعبه ويحسمس عليه.. لقد قالت له إحدى الجارات بأنها رأت رجلا هذا الصباح أوقف سيارته أمام دكانه وأخذ يداعب ركس  ويحسمس عليه .. لقد قالت له احدى الجارات بأنها رأت رجلا هذا الصباح أوقف سيارته أمام دكانه وأخذ يداعب ركس ويحسمس عليه ثم حمله بين يديه وأدخله الى سيارته وصعد به صوب الحي الجنوبي.. وقالت له ايضا بالعلامة كان لون تلك السياره حمراء وعلى زجازها الأمامي إشارة طبيه تؤكد بأن  صاحبها قد يكون اما طبيبا او ممرضا أو صيدليا.. يا له من سارق محترف.. يا له من لص محترف.. يا له من حرامي محترف ياله ويا له.. الويل ثم الويل له مني.. أين هو الآن لألقنه درسا قاسيا..؟ سوف أفعل به كذا وكذا.. سوف أفصفص عظامه سوف وسوف.. أن يقدم واحد من عامة الناس على أية سرقه فهذا أمر مألوف كثيرا ويحدث في كل مكان وزمان.. ولكن أن يقدم واحد في مثل هذه المنزلة الاجتماعية الرفيعة والسامية فهذا ما لا يمكن أن يصدق ويركب على عقل إنسان..

* * *

لا بد ان يكون هذا السارق قد حط عينه عليه منذ زمن طويل وخطط بعناية تامه لسرقته.. لا بد أن يكون هذا السارق يعرفه معرفة تامه وقد رصده وغافله هذا الصباح حين دخل الى المرحاض وسرقه.. لا بد ولا بد.. فمنذ ان خرج العم أبو فروج من ذلك المرحاض لاحظ عدم وجود ركس أمام دكانه فلم يتبادر الى ذهنه أي شك.. تصور أن يكون كلبه قد لحق بكلب آخر ولا بد له من ان يعود بعد ساعة او ساعتين على أبعد تقدير.. لم يخطر على بال العم أبو فروج أن يكون واحد قد رصده وغافله وسرقه.. ماذا تراه يفعل العم أبو فروج الآن بعد أن قالت له تلك الجاره ما قالته..؟ أجل ماذا تراه يفعل..؟ هذه البلده التي  يعيش فيها كبيرة وكبيرة جدا.. وأحياؤها كثيرة ومتعددة أيضا.. وهذا الحي الجنوبي بالذات من أكبر أحياء هذه البلده ومن اكثرها إزدحاما.. وفي كل شارع من شوارعه يوجد أكثرمن طبيب وأكثرمن ممرض وأكثر من صيدلي.. وفي هذا الحي يوجد عشرات الأطباء وعشرات الممرضين وعشرات الصيادلة.. وفي هذا الحي يوجد شارع معظم سكانه أطباء وممرضون وصيادلة ويطلق عليه بشارع إبن سيناء فكيف للعم أبو فروج أن يهتدي الى السارق..؟ كيف له أن يهتدي الى السارق وسط هذا الكم الكبير من الأطباء والممرضين والصيادلة..؟ ما عليه الآن سوى أن يدخل الى هذا الشارع المزدحم بمثل هذه المجموعة الكبيرة من الأطباء والممرضين والصيادلة ويأخذ في التصفير والمصمصه.. أجل في التصفير والمصمصه.. فإذا كان كلبه ركس بالفعل متواجدا في احد هذه المنازل فلا بد له من أن يشم رائحته حالا ويسمع صفيره ومصمصته فيأخذ في العواء والنباح أو في النعوصة على الأقل فيرشده بذلك الى مكان تواجده.. الكلاب لها حاسة شم قوية جدا ولها ايضا حاسة سمع خارقة جدا.. الكلاب تشم رائحة أصحابها عن بعد عشرات الأمتار.. الكلاب أيضا تسمع وتميز صفير ومصمصة أصحابها عن بعد عشرات وعشرات الأمتار.. كلبه ركس له حاسة شم قوية جدا ومميزة تفوق حاسة شم أي كلب آخر.. له أيضا حاسة سمع خارقة جدا تفوق حاسة أي كلب آخر.. إذا كان كلبه ركس بالفعل متواجدا الآن في أحد هذه المنازل فأنه حتما سوف يشم رائحته مجرد ان يدخل الى هذا الشارع ويسمع صفيره ومصمصته فيأخذ في العواء والنباح أو النعوصة على الأقل.. ليرشده الى مكان تواجده.. فهو يعرف صوت كلبه ركس من بين مائة صوت كلب وكلب.. عندما سرقه واحد من الحاره الشرقية قبل حوالي الشهر وعرف العم أبو فروج بذلك فذهب الى هناك وما أن دخل الى احد الشوارع وأخذ يصفر بين الحين والآخر ويمصمص أيضا.. فشم ركس رائحته حالا وسمع صفيره ومصمصته عن بعد عشرات الأمتار فأخذ يعوي يا حرام وينبح بشكل.. متواصل فاهتدى اليه العم أبو فروج حالا واسترجعه.. يا الهي يا الهي.. يا لها من فرحة عارمة.. يا لها من سعادة كبرى.. يا لها ويا لها.. ها هو الآن يسمع صوت كلب  من بعيد.. ها هو يسمع صوت كلب يعوي وينبح من بعيد بشكل متواصل..لا شك أن هذه الصوت صوت كلبه ركس .. لا شك أنه شم رائحته الآن ..لا شك أنه سمع الآن صفيره ومصمصته .. لا شك ولا شك.. يا الهي يا الهي.. سيارة حمراء اللون متوقفة الآن أمام ذلك المنزل.. يا الهي يا الهي من نوع أوبل أيضا ومن ماركة أسترا أيضا كما حددتها تلك الجارة.. يا الهي ويا الهي وعليها أيضا إشارة طبية كما أكدت تلك الجاره.. أنه ولا شك هو السارق بعينه.. أنه هو الحرامي بكل تأكيد.. إنه وإنه.. هذا صوت كلبه ركس بكل تأكيد.. فهو يعرف صوب كلبه من بين مائة صوت كلب وكلب.. شكرا لتلك الجارة أم النواعم والف شكر لها.. تستحق منه الآن هدية ثمينة.. تستحق منه قارورة عطر ثمينة.. تستحق منه قبله حاره أيضا وتستحق وتستحق... يا ليتها قالت له منذ الصباح.. يا ليتها قالت له منذ أن رأت هذا السارق يقدم على هذه السرقه.. يا ليتها ويا ليتها.. شكرا لها مرة أخرى والف شكر.. لولاها لما كان العم أبو فروج قد إهتدى الى كلبه ركس على الأطلاق.. لولاها لما فكر أبدا أن يأتي الى هذا الحي الجنوبي بالذات.. كان يتصور أن يكون السارق من حي آخر.. كان يتصور أن يكون السارق ذلك السارق الأول نفسه الذي سرقه قبل حوالي الشهر من ألآن.. كان يفكر أن يذهب الى تلك الحارة الشرقية قبل أن تقول له تلك الجارة إم النواعم ما قالته.. كان يفكر يفكر أن يذهب حالا الى منزل ذلك السارق الأول الذي سرقه ويطرق بابه دون شور ولا دستور.. كان وكان.. أنه بكل تأكيد كلبه ركس.. هذا صوته بكل تأكيد.. يا عيب الشوم عليك يا هذا.. يا عيب الشوم عليك يا دكتور.. طبيب نسائي كبيير ومشهور أيضا ومعروف في البلد وأسمك على كل لسان وتسرق..؟ لو كنت واحدا من عامة الناس وأقدمت على هذه الفعله لكنت قد عذرتك بل لكنت قد سامحتك ايضا وغفرت لك.. لكن يا هذا .. لكن يا دكتور أن تكون في مثل هذه المنزلة وهذه المرتبة الأجتماعية الرفيعة والسامية في البلد وتسرق فلن أعذرك على الاطلاق ولن أسامحك على فعلتك ولن أغفر لك أبدا.. هذه الفعلة تعتبر في نظر الناس كل الناس سرقة بكل معنى الكلمة.. هذه تعتبر أيضا جنحة خطيرة جدا يعاقب عليها الجاني بالغرامة المالية الكبيرة والسجن الفعلي معا.. هذه وهذه.. وطرق العم ابو فروج باب ذلك الطبيب السارق بكل ثقة وقناعة تامه بأنه هو السارق.. فسمع  صوتا من داخل ذلك المنزل  يسأل بصوت مرتبك من الطارق من الطارق..؟ أتسأل ايضا يا هذا من الطارق..؟ أتسأل ايضا يا دكتور دون خجل وحياء من الطارق...؟ الطارق يا هذا .. الطارق يا سراق.. الطارق يا لص.. الطارق يا حرامي.. يا علي بابا.. الطارق صاحب هذا الكلب الذي يعوي وينبح داخل منزلك.. إفتح يا هذا إفتح حالا وإلا.. والا استدعيت لك الشرطة. إلا واستدعيت لك أبو كلبشه..إلا وإلا..  وتصاعد عواء ونباح ركس خلف الباب أكثر وأكثر وإزدادت خربشته كثيرا تخيل العم أبو فروج بأن ركس يحاول بكل تأكيد أن يقطع ذلك القيد المكبل فيه للإفلات منه والتحرر.. وعندما فتح ذلك الطبيب الباب غمغم وجهه من شدة الخجل والحياء وكان يلف إحدى يديه بشاشة طبية توحي بل وتؤكد بأن ركس أو ركوس كان قد عضه..

(حيفا)

 

قصة – نجيبب سوسان
الأربعاء 18/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع