في جولة لكتلة الـجـبـهـة البرلمانية
هموم البلدة القديمة المقدسية تتجمع في كل زقاق



*النائب محمد بركة: القدس معلما وطنيا فلسطينيا وتراثيا  ودينيا، وتستحق انتفاضة عالمية للدفاع عنها في وجه الجريمة المتواصلة *النائب دوف د. حنين: الاحتلال لا يرتدع عن استعمال وسائل غير أخلاقية لفرض واقع دخيل على المدينة* الأنفاق تصدع البيوت وتجعل السكن فيها تحت خطر دائم *التجار يواجهون مؤامرة سلطوية منظمة تساندها اعتداءات المستوطنين *ومن عذابات المكان تظهر مكتبة الخالدي معلما حضاريا على مستوى انساني عالمي*

 

اليوم نزور القدس ليس من أجل الزيارة ولمس دفء المكان وعراقته، اليوم نزور البلدة القديمة محط أنظار العالم، برفقة كتلة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة في الكنيست، والنائبين محمد بركة ود. دوف حنين، لنسمع أنين البلدة بأهاليها ومعالمها وحجارتها، تحت وطأة واحدة من أكبر جرائم العصر بحق الإنسانية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي.
وكان النائبان بركة ود. دوف حنين، برفقة وفد مقدسي ضم حسيب النشاشيبي منسق الجولة ومرشدها ود. محمد جاد الله وعارف ناصر الدين، وهم أعضاء في الائتلاف من أجل القدس، قد قاما بجولة في البلدة القديمة في الأيام الأخيرة، وكان الهدف المركزي من الجولة الإطلاع على ما تسبب به الحفريات الإحتلالية التي تجري تحت بيوت البلدة القديمة، من حفر أنفاق لاختلاق تاريخ، وتستهدف الحرم القدسي الشريف ومسجده الأقصى المبارك، إلا أنك حين تدخل أسوار البلدة، فأنت منذ الآن "رهينة" الحدث، بعد كل عدة أمتار يستوقف الأهل الوفد مرحبين بحرارة أصيلة، ورأسا تنتقل المحادثة لشرح الهموم.
ولكن قبل أن تصل المكان تمر بالأزقة لتشعر حجم الجريمة، فالمستوطنون ينتشرون في كل مكان، وباء.. آفة ملوثة لكل بيئة إنسانية، على كل غرفة يستولون عليها بشتى طرق الخداع والنذالة المعهودة، ينصبون علمهم، لقد احتلوا العالم من جديد.
وتحت كل علم مشاريع ترميم تهدف إلى شيء واحد: تغيير طبيعة المكان، ولشديد السخرية، وخطورتها، فعلى أحد الجدران ترى حجرا نشازا، لا داعي لفحصه، مغروس بشكل مصطنع في جدار المبنى وحفرت عليه نجمة داوود مع بعض الأحرف، ليختلقوا تاريخا وهوية.

 

التجارة بين اعتداءات المستوطنين والغزوات الضريبية

على طول مسار الجولة الذي كان يطول من زقاق إلى آخر، كان المشهد الغالب إما حوانيت مغلقة، أو مجموعات تجار تجلس في حلقات أمام حوانيتها، ورغم ان المنافسة بينهم ضرورية على ضوء تشابه البضائع المعروضة، إلا أنهم التقوا على الهم الواحد.
وكان الاستقبال العفوي للنائبين بركة وحنين حارا، ليندفع التجار فورا في سرد مآسيهم، التي في بعضها لا حاجة لسماعها، حين لا تلمس حركة تجارية أمام مئات الحوانيت المنتشرة في كل زقاق وزاوية.
تفضلوا تعالوا انظروا وشاهدوا.... محل للتذكاريات مقلوب رأسا على عقب، الرفوف على البضائع والبضائع مكسرة، ويقول التاجر وعينيه حمراويين، المستوطنون يا أخي في كل مرّة يعتدون على متجري، يدعون انه كان كنيسا يهوديا، فعن أي كنيس يتحدثون وأنا هنا منذ عشرات السنين وورثته عن والدي، يقتحمون المكان متى شاؤوا ويصلون فيه، إنه متجري، وكل الشكاوى التي تقدمت بها منذ أكثر من عامين وحتى الآن، لم أتلق أي رد.
في هذا المجال فإن عدد نقاط شرطة الاحتلال المنتشرة في أزقة القدس يصعب حصرها لكثرتها، فهي هناك لتحمي عصابات المستوطنين، وليس الأهل الأصليين.
وتلتفت إلى الخلف لتجد محلا صغيرا لا تتعدى مساحته الإجمالية 6 أمتار مربعة، لبيع عصير الفواكه، ويشكو صاحبه من أن شركة الكهرباء تطالبه بدفع 25 ألف شيكل، ويسأل: كيف من الممكن صرف 25 ألف شيكل خلال بضعة أشهر إنها مؤامرة "تطفيش"، لنرضخ ونبيع محلنا.. أنظر المستوطنين من فوق متجري، إنهم يسعون لشرائه على الرغم من صغره، ولكن هيهات ولا أموال الدنيا كلها تجعلني أبيع ذرة تراب واحدة من هذا المحل وبيتي.
وننتقل إلى زقاق طويل آخر، مجاور لمكتبة الخالدي التاريخي التي سنأتي عليها هنا، مجموعة من التجار تتحاور، وتاجر بينهم تجاوز الخميسن من عمره، و"الجابصين" على يده يبدو "جديدا"... يندفع نحو النائبين بركة وحنين ومرافقيهما أحد التجار لبيع التذكاريات، ليشكو أمره وأمر جاره الذي هو أيضا صاحب محل للتذكاريات... لقد جاؤوا كالغزاة، موظفي البلدية (بلدية الاحتلال) ومعهم الجنود، وانهالوا علينا بالضرب، يطالبون كل محل منا بعشرات آلاف الشيكلات، أنظروا.. لا حركة تجارية ولا يحزنون، فمن أين نأتي إليهم بمئات الألوف، أنا مضطر شهريا لدفع 1500 شيكل، كغرامة ورسوم محامي البلدية، ولكن هذا لا ينتقص من الدين المزعوم، يطالبوننا بضرائب بلدية وكأننا في مجمعاتهم التجارية الضخمة، دون أي حساب لوضعية متاجرنا الصغيرة وضعف الحركة التجارية إلى شبه انعدامها.
ويقول آخر، إذا أردت أن أسدد كافة الديون المفروضة على متجري وهي ديون غريبة عجيبة، فهذا يعني أنه عليّ العمل لأشهر طويلة دون طعام أو شراب فقط من أجل تسديد تلك الديون.
ويجمعون على أن الهدف واحد هو جعل التجار يبيعون محلاتهم للمستوطنين مباشرة، أو أن تتم مصادرتها تحت حجة الديون لتبيعها البلدية لاحقا لمن تشاء من عصابات المستوطنين.

 

الأنفاق وتصدعات البيوت

وتأخذنا الجولة إلى مجموعة من البيوت التي تجري من تحتها حفريات تستهدف الحرم القدسي الشريف، إنها جار الأقصى الأمين، وأول من تتضرر لنعرف الضرر اللاحق، وللأسف فإن الكاميرا ومهما تطورت لا يمكنها أن تعكس حجم الجريمة.
في أحد البيوت نجد التصدعات في كل مكان، وهو ليس من البيوت التي تركه أصحابها، بل وضعيته الهندسية جيدة جدا ومرممة بما يليق، ولكن التصدعات ضربت الأسقف والأرضية، ولا توجد غرفة واحدة فلتت من خطر التصدعات.
ولكن ليس هذا فحسب، بل محظور على هذه العائلة أن تستنشق الهواء على سقف بيتها الجميل، وأن تجلي عيونها ببريق قبة الصخرة المشرفة، التي تبعد بضعة عشرات أمتار، خط هوائي، فأولئك المحتلون وبتوصية من عصابات المستوطنين تمنع العائلة من الصعود إلى السقف، إلا للقيام بمهمة قصيرة ومغادرته فورا، فشرطة الاحتلال بالمرصاد، وإذا غابوا فإن المستوطنين بصغارهم قبل كبارهم الموجهين، لا ينتظرون إذنا ليلقوا الحجارة على أهل البيت، دون أي حساب أو من يمنع.
تخرج من هذا البيت لتدخل إلى آخر، والوضع ليس أفضل، ثم تمر بزقاق ضيق جيد ومعتم لتصل إلى ما لا يمكن احتماله، فتصل إلى بيت متواضع فيه أطفال، قد وصلت الحفريات إلى هذا البيت، فانهارت عتبة المدخل، ليغطوا الحفرة الكبيرة بألواح خشبية هشة، وهنا لا حاجة للتعليق، فقط تخيلوا الجريمة.
وتقريبا في كل بيت أو متجر دخلناه نسمع الحكاية ذاتها، "عرضوا علينا فلوس كثيرة لشراء البيت"، وعلى الرغم من أن التكرار أحيانا مملا، ولكن في هذه الجولة كان التكرار ممتعا، خاصة عندما نسمع نفس الخاتمة: "والله كل فلوس الدنيا لا تجعلنا نبيع ذرة تراب من هذا البيت، إنه بيتي وهويتي ورثناه عن أجداد أجدادنا.
ولكل البيوت رواية وتاريخ ولكل بيت شوق للعائلة وأكثر، ولكن في أحد البيوت رواية وتاريخ وحنين لشعبنا الفلسطيني بأكمله، إنه بيت عائلة الإمام، بيت عريق انقضت عليه عصابات المستوطنين لتسيطر عليه، ولكن النضال اثمر، رغم ان المستوطنين سيطروا على غرفة أو أكثر منه.
وهذا البيت هو بيت خال القائد الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ونصعد إلى غرفة على درج ضيق نموذجي للقدس العتيقة، وتقول السيدة في المكان بصوت امتزجت فيه الغصة والبسمة: "في هذه الغرفة كان يقيم ياسر عرفات، ابن عمتنا، حين كان يأتي إلى القدس (قبل حزيران 1967).
وهذا البيت طالته الحفريات لتنهار إحدى ساحاته، أما السيدة الجدة الكبيرة فتقول بعنفوان تمنى الشباب مثله، إن من أبنائي من اضطر للسكن خارج الوطن، أحد أبنائي تم ابعاده في العام 1967 وهو ابن 16 عاما، وأنا لم أغادر القدس لئلا يستولي المستوطنون على البيت، أنا هنا، رغم لوعة الفراق.

 

 

مكتبة الخالدية... ميثاق الخالدين

حين تبكي القدس بناسها وحجارتها فهذا لا يعني الإحباط، لأن هناك من يقاوم، ويصر على البقاء، الناس والمعالم الشاهدة على الهوية، والذاكرة والتاريخ، الشهادة على الانتماء، من بين صروح الهوية، "مكتبة الخالدية"، تعود لعائلة الخالدي العريقة، وهي مكتبة متناثرة بين عدة غرف وأكثر من مبنى، تجمع على رفوفها وفي مخازنها مخطوطات عتيقة، كبلدتها، قيمتها التاريخية تضيف قيمة نوعية لأضخم مكتبات العالم.
مخطوطات باليد، وعلى رأسها المصحف الشريف بخط اليد منذ أكثر من ثمانمائة عام، وغيرها من المخطوطات القيمة التي تعود لمئات السنين، ومن بينها كتاب في الطب.
وبقاء المكتبة إلى يومنا هذا هو بحد ذاته حكاية صمود وتصدي لسلسلة من المحاولات الإحتلالية، ولعصابات المستوطنين الشرسة، التي حاولت وضع يدها على المبنى وعلى المكتبة بشتى الوسائل، مما اضطر العائلة للغرق في أروقة القضاء الإسرائيلي على مدى أكثر من عشرة أعوام من أجل الحفاظ على مباني المكتبة، ورغم النجاح، إلا أن العصابات الاستيطانية اقتنصت جزءا منه.
وقد هبت أوساط فلسطينية محلية وفي المنفى، وخاصة المؤرخ الفلسطيني القدير وليد الخالدي، ابن العائلة المقدسية، ثم انضم لهم محاضرون مختصون بالآثار والتاريخ ومن بينهم أمنون كوهين ودان باهط عالم الآثار.
وفي السنوات الأخيرة تحظى المكتبة برعاية المربية هيفاء الخالدي، التي خبرتها ومعرفتها الدقيقة بتفاصيل المكتبة وتاريخها أغنت هذا الكنز التراثي الحضاري ليس للقدس وحدها وإنما للشعب الفلسطيني بأسره.

 


في سجل الزوار يكتب النائب محمد بركة الكلمات التالية: "المكتبة الخالدية اسم يستحق الخلود لأن فيه الجذر والجذع وأوراق الانتماء الوارفة لهذا الجزء العزيز من ثقافتنا، ولهذا الجزء العزيز من وطننا... تحية لحراس الحضارة في عاصمة الحضارة والتراث.. تحية للأخت الكريمة هيفاء الخالدي لرعايتها مشروع عمرها الذي هو مشروع عمرنا".
ويكتب النائب د. حنين في نفس السجل: "آمل أن نزور هذا الصرح الثقافي العظيم قريبا، وقد تحررت القدس الشرقية وأبناؤها من الإحتلال والكبت والاستيطان.. آمل أن نزور هذه المكتبة في القدس الشرقية، عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة".

 

الاعتداء على المواطنين

من حكايات اعتداءات المستوطنين، أن المستوطنين احتلوا أحد المباني وحولوه إلى معهد ديني: "موريا"، ولكن المعهد سيطر على زقاق وساحة عامة في قلب البلدة القديمة تربط عدة أحياء ببعضها، ولكن كل فتى أو امرأة تمر من المكان معرضة لاعتداء خطير، وترفض شرطة الاحتلال التدخل.

 

 

 

بركة: الجريمة في القدس ضد الشعب الفلسطيني والإنسانية


ويقول النائب محمد بركة رئيس كتلة الجبهة البرلمانية، إن ما يجري في القدس المحتلة ومنذ عشرات السنين، جريمة حرب ضد الشعب الفلسطيني والإنسانية ووتيرتها ازدادت في هذه السنوات الأخيرة، وقضية القدس حاضرة لحظة بلحظة في وجدان شعبنا وضمير الحضارة الإنسانية.
التفاصيل كثيرة، وقد تكون معروفة ولكن لمسها على أرض الواقع يكشف حجمها الذي من الصعب وصفه، والمؤامرة كبيرة، وتحتاج وقفة عالمية حقيقية، فهنا ترصد مليارات من أجل سلب مدينة ومعلما حضاريا على مستوى التاريخ البشري، ولو كانت هذه الجريمة تنفذ في مكان اثري آخر في العالم لشهدنا انتفاضة عالمية، ولكن العالم يصمت صمت الموتى، لأن الجريمة في القدس تتم بتنسيق مباشر على الإدارة الأميركية المتواطئة دون حدود مع المشروع الإسرائيلي الإحتلالي.
إن القوانين الدولية يتم سنها لاماكن أخرى في العالم، فكل مستوطن في البلدة القديمة هو مجرم حرب، فكيف يكون مرسله ومموله والسلطة الحاكمة من فوقه، ولكن العالم يصمت ولا يحاسب، ولهذا فإن الأسرة الدولية قد تكون شريكة في الجريمة.
لا يكفي القول إن القدس هي من ثوابت المشروع الوطني الفلسطيني، فهي تواجه نزيفا متواصلا لحظة بلحظة وساعة بساعة ويوميا على مدار السنوات، وعلينا كشعب وقيادة أن نستنفر العالم لضمان السيادة على المدينة، لأن السيادة هي التي ستضمن حق الوجود وحق العبادة، وهي التي ستحفظ هوية الأرض والمكان.

 

د. حنين الاحتلال يحاول فرض أمر واقع دخيل في القدس

ويقول النائب د. دوف حنين، في نهاية الجولة في البلدة القديمة في القدس المحتلة، إن تنظيم الجولات الميدانية في القدس هو أمر بمنتهى الأهمية، للإطلاع على معاناة أبناء المدينة الفلسطينيين جراء المحاولات الإسرائيلية لفرض أمر واقع جديد ودخيل على القدس الشرقية، دون أي رادع عن استخدام أدوات مروعة وغير أخلاقية لتضييق الخناق على أبناء المدينة الفلسطينيين، في محاولة للإجهاز على المشروع الوطني الفلسطيني بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
إن رؤية البؤر الاستيطانية في حارات القدس المختلفة، هو أمر مقلق للغاية، هذه البؤر- وبعضها تتلفع زورا بأسماء ومشاريع دينية يهودية- تؤدي إلى خلق جو مشحون في المدينة، وخاصة في ظل الاعتداءات المتكررة التي يقوم بها المستوطنون تجاه المواطنين.
أقلقني جدا أن أرى نسبة القاصرين والمراهقين المرتفعة في هذه المستوطنات، والتي تعد دفيئات لغرس الحقد والعنصرية.
رغم كل الألم إلا أن المعنويات العالية لعدد كبير ممن التقيناهم من أبناء المدينة عزز لدينا الأمل بأن أصحاب الحق مصممون على حقهم الشرعي، هذا ما لمسناه في حديث الناس عن تمسكهم بمدينتهم ورفضهم لجزرة المغريات المالية وعصا السلطات والمستوطنين، وهذا كله يضاعف من مسؤوليتنا في الجبهة وفي الكتلة البرلمانية لتكثيف عملنا وجهودنا والارتقاء إلى مستوى التحدي المصيري حول القدس، مصيرها ومصير أبنائها.

 

تقرير خاص بـ
السبت 21/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع