قصة قصيرة
نفس يعقوب



 

 

 

 

 

 

 

-هالو بروفسور "ياكوف".. كيف حالك؟
-حالتي سيئة جدا.. إنني أحتضر، تفشى السرطان في أحشائي الداخلية وتدهورت حالتي الصحية، وأرقد في المستشفى منذ ثلاثة أسابيع.
- أوه.. سلامتك وألف سلامة، سأحضر لزيارتك في المساء.. ماذا تحب أن احضر لك؟
- احضري صبايا حسناوات..
- ألا أكفيك أنا؟
ضحكا معا، ثم أقفلت "سلام" الهاتف وفكرت في نفسها.. بدا صوته ضعيفا وغريبا.. هل دنت نهايته؟ كيف لم تسأل عنه وهي تعرف بأنه مريض.
قدم "ياكوف" من ألمانيا إلى بلادنا في سنوات الخمسين، ويعيش مع زوجته "عوفرا" في أحد الإحياء اليهودية الراقية وتربطه علاقات وثيقة بالعرب، من خلال شركات الاستيراد والتصدير ومطابع النشر ومراكز الحواسيب وقاعات الأعراس التي يملكها.
أصيب البروفسور ياكوف بمرض السرطان منذ سبعة أعوام، ويقاوم المرض بوعي وادراك وتقبل، يقتني دواءه الخاص من أمريكا بمبالغ طائلة تصل قيمتها إلى ثلاثة آلاف دولار شهريا. ويشارك في دورات تقوية معنوية لمرضى السرطان، حتى أنه أصبح مرشدا للمرضى المبتدئين. وكان في الماضي قد شغل مناصب عليا في الجيش الإسرائيلي وكان حاكمًا لإحدى المدن الفلسطينية المحتلة في سنوات السبعين.
أما "سلام" فتعمل مساعدة لطبيب أسنان، وأيضا عاملة الاستقبال والنظافة والبدّالة، وتحضير القهوة للأطباء، وتحمل قسوة تعاملهم. وكانت تحصّل الحد الأدنى من الراتب وتسكن في بيت قديم، آيل للسقوط وتفوح منه رائحة الرطوبة، وتقاسمها أجرة البيت "دلال" وهي طالبة جامعية. ويسكن في حيها خليط من الفقراء العرب واليهود والقادمين الجدد من روسيا، والعملاء الفلسطينيين، وتنتشر فيه الجريمة على مختلف أنواعها.
تعرفت "سلام" على "ياكوف" خلال عملها في عيادة طب الأسنان وهو من الزبائن المحترمين، وكًنَ له الأطباء الود الكبير.. توثقت العلاقة بينهما، وتبادلا الزيارات وتوطدت علاقتها مع زوجته. ولم يترك فرصة إلا واحضر لها الهدايا التي يحصل عليها مجانا من الشركات التي يتعامل معها، بالاضافة إلى الملابس المستعلمة التي لا تحتاجها زوجته وابنتاه، وإذا أراد تجديد أي غرض في بيته، كان يعطى القديم لسلام.. وكان يراودها لنفسه بين الفينة والأخرى لكنها رفضته بإصرار.
طلبت سلام من صديقتها "دلال" ان ترافقها لزيارته في المستشفى. وعند دخولهما غرفته، بدا مختلفا، نحيفا ومصفرا وملامح المرض واضحة جلية على وجهه وعدة أنابيب طبية موصولة إلى جسده.. تصنعت "سلام" الابتسامة وقالت له: كيف تشعر يا "ياكوف"؟
- أوجاع وألم في كل جسدي.
- هل معاملة الأطباء جيدة؟
- طبعا، وفي هذا القسم يوجد طبيب من قريتك..
فقالت سلام ضاحكة: أخبره بأنك صديقي!
نظر إليها مستهزئا وقال: ها ها ها.. أنا لست بحاجة إليك ولا لطبيبك.. مدير هذا القسم هو جاري.
ابتلعت "سلام" ابتسامتها، ثم أردفت قائلة: وما هو وضعك الصحي الآن؟
- لقد تفشى السرطان إلى كتفي والى فقرة رقم (12) في العمود الفقري ولكنني سأتغلب عليه. سيصلني غدا دواء جديد من أمريكا.. هل تعرفين كم كلفته يا "سلام"؟
- لا.
- الإبرة الواحدة، تعادل راتبك لمدة عامين..
- هل تتلقى مساعدة نفسية؟
- نعم، هناك أخصائية نفسية تزورني مرتين في الأسبوع، أنا لست مثلكم انتم أيها العرب، تخجلون من زيارة الطبيب النفسي.. أنتم العرب مهملون، تذهبون إلى الطبيب بعد أن يكون المرض قد أخذ مأخذه.
- نحن لا نذهب إلى المعالجين النفسيين، لأننا ننتمي إلى عائلات كبيرة ويدعم أحدنا الأخر، ثم لا يوجد عندنا أموال نبذرها على الكلام الفارغ.
ثم صمتت وخيم الهدوء، إلا أن قال "ياكوف": انتم العرب تشترون فقط من بعضكم البعض، ولا يمكن أن تجد عربيًا يشترى من اليهود.. من أين تبتاعين خضارك يا "سلام"؟
- من سوق "الكرمل"، وهي سوق يؤمها الفقراء اليهود والعرب..
كان كلام "ياكوف" قاسيا وساخرا عن العرب، مما أستفز مشاعر "دلال".. وعلقت: العرب يشترون من الأماكن الرخيصة...
عندها، دخلت الممرضة وسألته: أي نوع دواء تريد للنوم؟ فأجابها: ما الفرق بين الأنواع؟ وأخذت الممرضة تشرح له بإسهاب عن الفرق بين الأدوية.
بجانب سرير "ياكوف" كانت ملقاة جريدة عبرية، نظر إليها وكأنه تذكر شيئا، وقال: انظري إلى حوادث الطرق في الشوارع، أغلب القتلى هم من العرب، يقودون بتهور وبدون رخص سياقة، يسمحون بتحميل عدد ركاب أكبر من المسموح به، وسياراتهم غير مؤهلة للسير على الشوارع.. حياتكم فوضى عارمة!!
اقتربت "دلال" من "سلام" وقالت بعتاب: "يخزي العين على هيك صديق"!
ابتسمت لها سلام بنوع من الخجل.. وقالت: ما باليد حيلة.. هذا هو "ياكوف"..
حاول "ياكوف" رفع رأسه ليتسنى له الجلوس على السرير، ولم يفلح، فقامت "سلام" بمساعدته.. وفجأة سألته "دلال": اذا كان العرب كما تقول، لماذا تأكل في مطاعمهم وتشتري خضارك من حوانيتهم وتعطيهم خدمات من شركاتك وتصادق العشرات منهم؟
- أنا اربح منهم النقود!
- أتربح من ناس لا تقدّرهم، أنت مثل الرجل الأبيض الذي فتح حانوتا له في حارة السود..
- الدولار ليس أبيض ولا اسود، الدولار اخضر ولا يهم من أين يأتي؟
تجرأت سلام وقالت: أنت تحب التودد إليهم.. وأنت تعرف ماذا أقصد.. هل تعتقد أنك تستطيع شراء أي عربي بنقودك؟
- نعم أستطيع..
وقفت "دلال" معلنة لصديقتها نهاية الزيارة.. وخرجت قبل "سلام"..
***
في اليوم التالي، قرر الطاقم الطبي إجراء عملية جراحية لياكوف لاستئصال الورم من عموده الفقري، وقد أخبره بذلك الطبيب، ابن قرية سلام، وبأنه سيجري له العملية بنفسه.. لم يوافق ياكوف، وطلب التحدث مع مدير القسم واخبره بأنه يريد طبيبا آخر، وعلم منه أنه لا يوجد مختصين في هذا المجال إلا هذا الطبيب، ومدير المستشفى بنفسه، الذي لا يستطيع إجراء العملية بسبب مشاغله العديدة. وبعد تداول مضن وافقت إدارة المستشفى على أن يقوم المدير باجراء العملية بنفسه..
توجه ياكوف لمدير المستشفى بعد نجاح عمليته، قائلا: أريد أن أبعث إليك برسالة شكر وتقدير على جهدك.. أعطني أسمك وعنوانك الكامل فقال المدير: "دكتور سومرية".
-"سومرية" هو اسم العائلة وما هو اسمك الشخصي؟
- محمد..
قال ياكوف بنبرة عالية: طلبت مدير المستشفى أن يجري لي العملية وليس أنت؟ّ
- أنا مدير المستشفى.. أنا "محمد سومرية"!!
***
بعد مرور أسبوعين، قامت "سلام" بالاتصال مع "ياكوف" على هاتفه الشخصي مرارا، ولم يجب، فاتصلت بمنزله فردت زوجته قائلة: توفي "ياكوف" قبل عدة أيام..
- ألم تجرى له عملية جراحية ناجحة؟
-العملية كانت ناجحة وزال الخطر..
-إذا، ماذا حدث؟؟!!
- بينما كان يمارس رياضته الصباحية بجانب البيت، دهسته سيارة جيش مسرعة وولت هاربة...

ميسون أسدي
السبت 21/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع