"وتمزّق قلبُها إِرَبًا"



وخيرُ جليسٍ في الزّمان كِتابُ.
حالفني حظّي حين كان جليسُ شهري كتابًا كنتُ قد استلمته من والدي أبو خالد بعد أن وصله تقدِمةً من كاتبه وممهورًا بتوقيع كاتبه ورفيقه منذ أيّام الشّبيبة الشّيوعيّة في مدينة حيفا، في أوائل خمسينيّات القرن الماضي مع الكلمات التالية: لرفيقي إبراهيم تركي وزوجته لذكرى تلك الأيّام، وسلام من زوجتي لينا، مع الصّداقة مائير ريفكين. أمّا الجليس الخيِّر فهو رواية باللغة العبريّة تحمل اسم  "وتمزّق قلبها إِرَبًا" (וליבה נקרע לגזרים) من إصدار دار "أسترولوغ للطباعة والنّشر م.ض." عام 2004، هود هشارون.
لقد أتممتُ قراءة هذه الرّواية بعد أن انتهيتُ من قراءة رواية سحر خليفة "صورة وأيقونة وعهد قديم" والتي صدرت عن دار الآداب في بيروت عام 2002، طبعًا باللغة العربيّة.
مسقط رأس مائير ريفكين وسحر خليفة هو فلسطين، وُلِد الأوّل قبل كارثتها وسكن في نيشر المُحاذية لقريتيْ بلد الشّيخ والحوّاسة، قضاء حيفا، أمّا سحر فقد وُلِدت بعد النّكبة، في مدينة نابلس وعاشت فيها.

 


تدور أحداث رواية الكاتب مائير ريفكين ما بين حيفا ومخيّمات اللاجئين في لبنان إلى الارجنتين وتشيلي. بينما تدور رواية الكاتبة سحر خليفة في مدينة القدس وضواحيها والمهجر في البرازيل، أي أنّ أحداث الرّوايتين تدور ما بين فلسطين وأمريكا اللاتينيّة، ما بين الاحتلال الإسرائيلي والاستيطان إلى الحبّ والعشق والتّحدّي لمُسلّمات اجتماعيّة ودينيّة وقوميّة، وقد كُتِب للتّحدّي إمّا النّجاح أو الفشل، كلّ بمنظار الكاتب الخاصّ.
فبينما يتحدّث رفيق والدي في روايته عن ابن حيفا عودة نصران الذي وجد بمخيّمات لبنان ملجأً مع جزءٍ من عائلته، بعد أن وقع في أسر عصابات صهيون والظّاهر أنّهم قاموا بطرده، لينخرِطَ في صفوف المقاومة الفلسطينيّة، بعد حرب الثّمانية وأربعين كما يُسمّيها مائير ريفكين، تاركًا الجزء الآخر في حيفا.
وبعد أن ضاقت الحياة بعودة اللاجئ ذرعًا ترك لبنان مُهاجِرًا إلى تشيلي حيث يُكتب له النجاح الباهر في دراسته وعمله ويُصبح من أشهر محاضري تشيلي ومن كبار المُختصّين في حقل عمله ومن هناك يتواصل مع أهله في الوطن في حيفا الذين سكنوا في حيّ عبّاس. وينشطُ في تشيلي سياسيًّا ليكون من قيادة الجالية الفلسطينيّة، هناك.
خلال تدريسه كمُحاضر في الجامعة في فترة انقلاب الطّغمة الفاشيّة على النّظام الديموقراطي بزعامة السلفادور اييندي يتعرّف على تلميذته تمارة ابنة السّفيرة الاسرائيليّة في العاصمة، حانة كسبي. حيث تتعرّض تمارة للضّغط والتّرهيب والتّرغيب وذلك حين دعوا والدتها السّفيرة لتغيير مسار ابنتها والام بدورها نصحت ابنتها بعمل ما تراه مناسبًا حيث تجد نفسها لاحِقًا مرغمةً على الاستقالة من عملها في السّلك الدبلوماسي وبالمُقابل تجد تمارة الدّعم الكافي والكامل أيضًا من والدها. وبالمُقابل كانت تواجه عودة أيضًا صعوبات وعقبات من قِبل أبناء جاليته من ناحية ومن ناحية أخرى كانت المُخابرات الإسرائيلية في تشيلي تراقب خطواته، مع أنّ أقرباءه قدّموا لهما الدّعم الكافي لتخطّي الحواجز. ويستمر الزّوجان، عودة الفلسطيني اللاجئ وتمارة الاسرائيليّة حياتهما في انسجام وتناغم رغم كلّ العقبات التي كانت تواجههما ويُرزَقان بطفلة، دانيئيل. لكن في خِضم الانقلاب الفاشي يختفي أثر عودة من حياة عائلته ولم يكُن واضِحًا من هي الجهة التي غَيَّبته، أهي فاشيّة تشيلي أم مُخابرات الموساد أم أنّ اليد التي طردته من وطنه هي نفسها التي اختطفته وقتلته في المنفى، ويُبقي الكاتب جواب هذا السّؤال مفتوحًا.
بعد أن فقدت حانة الأمل في رجوع زوجها تركت تشيلي وابنتها لتُسافرا إلى أوروبا وتساعد ابنتها هناك في عملها.  
أمّا عائلة عودة نصران التي بقيت في الوطن، تُرزق بمولود يحمل اسم عودة،
ليكون عودة حاضرًا من المنفى أو اللجوء في وطنه وكذلك حاضرًا من وطنه في المنفى أو اللجوء، ويعمل عودة الذي ولِد بعد العام ثمانية وأربعين مع يهوديّ يُدعي روبي، ويعرف أيضًا عودة اللاجئ وأهله، حيث يدور بينهما سجال ونقاش حول الحياة اليومية، السياسيّة والاجتماعية والمهنية، حول النّكبة والمذابح والتّهجير وكلّ برأيه، مع أنّ عائلة روبي كانت منذ البداية إرجاع الحقّ إلى أصحابه الشّرعيّين والدّلالة على هذا هو حين طلب منه والده إرجاع صندوق العمل للبيت الذي طُرِد منه سكّانه علّهم يعودون ويجدوا الصندوق ليُباشر ربّ البيت عمله من جديد. ويتعرّف كذلك على عائلة حانة وتمارة ودانئيل وتكون علاقتهما حميمة وطبيعيّة جدًّا، كانت بدايةً من خلال رسائلهم مع ابن عائلتهم في تشيلي.
بالمقابل فإنّ رواية الكاتبة سحر خليفة فيها نوع من الإحباط والضّياع وفقدان روح المواجهة والتّحدّي.
حيث أن مريم التي عاشت مع اخوتها في البرازيل وتقع في حبّ كاهنٍ هناك تعيدها عائلتها إلى القدس لتعيش مع والدتها وتخدمها منعًا لسقوطها. تتعرّف مريم المسيحيّة في قريتها، في قضاء القدس، على شاب مقدسيّ مسلم يُدعى إبراهيم أتى قريتها مُدرّسًا ويرتبطا بعلاقة حبّ وعشقٍ. ويستنكر أهل قريتها تلك العلاقة ويحضر إخوتها من البرازيل خصّيصًا حتى يضعوا الحدّ لتلك العلاقة وليحافظوا على شرف العائلة. يهرب كلّ منهما مختبئًا خوفًا من مواجهة الواقع والحقيقة. ويجد إبراهيم في حرب حزيران واحتلال القدس منفذًا يهرب من خلاله إلى شرق الأردن تاركًا مريم حُبلى تواجه المصاعب وحدها حيث تختبئ بعدها في دير للرّاهبات، يُذكر أن إبراهيم كان قد هرب من البيت بعد أن أجبره خاله الغنيّ أن يتزوّج ابنته، مرّة أخرى يهرب من الواقع.
 وبعد أن تلِدَ ابنها ميشيل تنذر نفسها للكنيسة هربًا من مواجهة الواقع وتُبقي ابنها عند حاضنة في القرية حيث رعته وتبنّته واهتمّت وأدارت كذلك أملاك مريم. وبعدها يجد ابنها ميشيل بالرّهبنة ملاذًا ليتمّم حياته هناك.

 

 


بعد ثلاثين عامًا يرجع إبراهيم إلى بلده، بعد اتفاقية اوسلو، ليفتّش عن حبيبته وابنهما طويلاً، إلى أن وجد حبيبته راهبةً في ديرٍ وابنه راهبًا وواعظًا في كنيسة مقدسيّة. وكلّ محاولاته لإقناعهما بالعدول والعودة إلى بعضهم باءت بالفشل.
نرى هنا تحدّي المرأة الممثّل بمريم، تُضحّي بكل ما تملك من أجل من تُحب غير
مهتمّة بتقييدات مجتمعها وفي المقابل يكشف هروب الرّجل الممثّل بإبراهيم من
 الواقع عن أنانيّة وحبّ الذّات.
مريم وتمارة وعودة تحدّوا الصّعاب بينما خضع إبراهيم للواقع المُعاش وهنا نرى مدى قوّة العنصر النّسوي.
تمارة وعودة تزوّجا عن قناعة ومبدأ، كان الحبّ والتّعايش والتّفاهم محوره بينما مريم وإبراهيم سقط حبّهما من أوّل امتحان.
كان على الكاتبة سحر خليفة أن تمنح إبراهيم الشّجاعة والجرأة وعزّة النّفس ليدافع عن طريقه بكلّ إباء ووفاء لحبيبته لا أن يتركها بعد أوّل عاصفة عصفتْ بهما، كما منحتها لمريم إن كان ذلك في البرازيل أم في قريتها. ويمكن أن الكاتبة سحر خليفة أرادت تصوير الإحباط الذي يكتنفنا ويقتلنا كما هو وبدون رتوش علّها تثير فينا ثورة على الوضع المعاش.
وأخيرًا أنصح بقراءة هذين الكتابين حيث لا يسعني إلا اقتباس ما قاله المتنبي في مدح كافور:
أعزّ مكانٍ في الدُّنى سرج سابحٍ           وخيرُ جليسٍ في الزّمان كتابُ

 

* حيفا

د. خالد تركي *
الجمعة 27/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع