سواء كانت نكبة أم تطهيرًا عرقيًّا، علينا أن نحاسب المسؤولين الإسرائيليين عنها وعنه!



يعتمد الباحثون على المصطلح لوصف حالة معينة ويحاولون أن يكونوا أكثر دقة في انتقاء المصطلح ومعنى المصطلح، فمنهم من ينتقي لفظة ويقول اعني بها كذا وكذا. إن لفظة النكبة لدى البعض ومنهم د. إيلان بابيه المؤرخ الجديد الجريء، لم تعد كافية لوصف الحالة ولوصف أحداث 1948.. أولا لأنها عمل إنساني والمقصود بشري أو من صنع البشر وليس قدرا من السماء وثانيا لأنه مع مرور الزمن ومع فتح الخلايا المغلقة في الدماغ البشري ومع فتح الأرشيفات التي كانت مغلقة وفتحت جزئيًّا أو كليا بفعل تقادم الزمن.. فإننا نكتشف أن مصطلح النكبة لم يعد كافيا، وعلينا استبداله بكلمات ادق لوصف الحالة- "التطهير العرقي في فلسطين".
ومهما يكن من أمر وعلى الرغم من أن المصطلحات مهمة إلا أن مضمونها هو الأهم، وعليه اقترح إبقاء اللفظ مع توسيع مضمونه فالنكبة دخلت جميع لغات العالم كما دخلت الانتفاضة من غير استئذان.
فالنكبة والكارثة والمأساة والتراجيدية الفلسطينية وعملية التطهير العرقي في فلسطين هي من صنع الآخر- الإسرائيلي الصهيوني صاحب الإيديولوجية الإقصائية الإقتلاعية المنغلقة العنصرية التي عملت بشكل منهجي مدروس ومخطط ومبرمج وتبريري في معظم الأحيان، بهدف اقتلاع شعب وحلول شعب آخر محله وبهدف محو تاريخ وحضارة وحلول حضارة غربية عن المنطقة، غربية وأوروبية بشكل واضح وصريح.
إن موضوع اليوم الذي نحن بصدده هو التطهير العرقي في فلسطين. جريمة بحق الإنسانية: من المسؤول؟ ومتى يحاسب؟ واعتقد أن الأدق أن نقو : هو ذا المسؤول!
نلاحظ أنه حتى هذا اليوم تتواصل النكبة وتتصاعد عملية التطهير العرقي إبتداءً من الاحتلال والتهديد والترغيب حتى الطرد والقتل الجماعي. ولا شك أن هذه جريمة ضد الإنسانية، لا سيّما أن نتائج هذا التطهير العرقي (النكبة) ما زالت قائمة وقضية اللاجئين الفلسطينيين ما زالت قائمة وقضية مهجري الداخل ما زالت قائمة وعمليات القتل الفردي والقتل الجماعي والإعدامات الميدانية والحصار والتجويع والخنق الاقتصادي والممارسات غير الإنسانية للجيش الإسرائيلي ما زالت قائمة وسارية على قدم وساق في المناطق المحتلة عام 1967 وخاصة في قطاع غزة.
إن الفِعل/ الجريمة ما زال قائما ونتائجه ما برحت. فهنا في حالة الفلسطينيين لا يكرر التاريخ نفسه لان أحداثه متتالية ومتلاصقة وما زالت قائمة ومبنية على ذلك الفعل الهمجي المنهجي. فالمأساة والكارثة والنكبة والتطهير العرقي والاقتلاع أو سم هذا الفعل ما شئت فكله ما زال في خدمة الإيديولوجية الصهيونية... يتلخص في المقولة الصهيونية الكلاسيكية والأسطورية معا: ارض بلا شعب لشعب بلا ارض!
قال لي احد أصدقائي من مهجري الداخل: إن النازية تبدو لعبة أطفال بالنسبة للصهيونية بيمينها ويسارها. هنا شعب يحل محل شعب آخر.. حكومات إسرائيلية متعاقبة منذ 1948 "تطهر" الأرض من البشر ومن التاريخ ومن الجغرافيا تطهيرا  تاما بسكل منهجي ومدروس ومبرمج و دائم.. النازية استخدمت يهودا لفترة محددة جدًا من اجل تحقيق أغراضها وهي المسؤولة عن المحرقة، دفعت وتدفع الثمن حتى اليوم. لكن الصهيونية تقرف مما هو غير يهودي تجرده من إنسانيته كي تبرر نفيه وإلغاءه، وهي لا تعترف أصلا بالفلسطيني كانسان، فهو إما شوكة في الحقل عليها اقتلاعها أو حجر عثرة عليها إزالته... ليتضح فيما بعد أن هذه الشوكة في الخاصرة وذلك الحجر في الحلق.
يتفق المؤرخون الجدد على أن التطهير العرقي هو جهد يرمي إلى تحويل بلد مختلط عرقيا إلى بلد متجانس من خلال طرد جماعي للمواطن الآخر المختلف وتحويله إلى لاجئ مع هدم منزله السابق والاستيلاء على أرضه ومحو تاريخه وذبح ذاكرته الجماعية بهدف الحيلولة دون رجوعه.. ويتم طرده بتخويفه وترويعه وقتله لكي يقول ما قالته العرب: انج سعد فقد هلك سعيد.
وتبقى عناصر التطهير العرقي واحدة سواء كان ذلك في فلسطين أو في أرمينيا أو في كوسوفو أو في رواندا: استعمال القوة على أساس تمييز ديني أو عرقي أو سياسي أو استراتيجي عقائدي أو لمزيج من هذا كله.
ويبقى التطهير العرقي شكلاً من أشكال النكبات. وتبقى النكبة شيئا عاما والتطهير العرقي شيئا خاصا وليس بالضرورة أن تكون كل نكبة تطهيرا عرقيا إنما كل تطهير عرقي هو نكبة ونتائجه نكبة مستمرة لا تنتهي بالموت والاقتلاع واللجوء، إنها موت مستمر واقتلاع مستمر ولجوء مستمر. بحسب تعريفات الأمم المتحدة؛ التطهير العرقي هو تحويل منطقة مأهولة من قبل أعراق أو أديان أو إثنيات مختلفة إلى منطقة أحادية العرق والدين والمعتقد والإثنية وذلك باستعمال القوة... تصنف الأمم المتحدة هذا الجهد وتعتبره جريمة ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي وهذه الجريمة لا تنتفي إلا بالاعتراف بها أو بإثباتها وبالعودة وبإحقاق الحق.
من المسؤول في الحالة الفلسطينية؟ الاستعمار- الانتداب البريطاني والرجعية العربية أم الصهيونية، درجات المسؤولية تختلف من عنصر لآخر من أركان هذه الجريمة. إن من قام بفعل الطرد وبما يقارب واحدة وثلاثين مجزرة وبإخلاء ما يفوق عن 531 قرية ثم هدمها وبتطهير 11 مجمعًا سكنيًا مدنيًّا تطهيرًا عرقيًا وبتشريد ما يقارب المليون لاجئ، يتحمل المسؤولية المباشرة.
حتى لو لمنا الضحية فهل من الممكن والمعقول أن تكون هي المسؤولة؟ وحتى لو أدنّا الرجعية العربية وتواطؤها الذي وصل حد الخيانة، فهل يعفي هذا الحركة الصهيونية وقادتها الإسرائيليين في حينه وحتى هذا اليوم من المسؤولية. وطبعا يتحمل الانتداب البريطاني قسما لا بأس به من هذه المسؤولية، لكن الفاعل الرئيسي والمجرم الأساسي هو الذي عليه أن يدفع الثمن الذي لا بد من دفعه مهما تعاقبت الأيام وطال الزمن، لأن النكبة كما اللغة تورث من جيل إلى جيل. إن مسؤولية من سهل العملية قائمة ومسؤولية من قام بها قائمة بشكل أكثر وضوحا. وهنا يقف الانتداب البريطاني والرجعية العربية والعملاء من جهة والحركة الصهيونية من الأخرى. وكانت النتيجة سوف تكون هي هي سواء قبل العرب والفلسطينيون بالتقسيم أو لم يقبلوا. والنتيجة واحدة سواء كانت في فلسطين التاريخية دولة دمقراطية واحدة أو دولتان لشعبين. والتاريخ اليوم- واخص منه الفلسطيني- لا يعيد ذاته ولا يكرر مآسيه لأنها ما زالت قائمة حتى اليوم في المشهد الاستعراضي القائم. إن مراجعة كتب المؤرخين الإسرائيليين الجدد وإعادة قراءة كتب المؤرخين الطلائعيين العرب والفلسطينيين تؤدي بنا وتدلنا على هذا الاستنتاج... هذه الكتب وتقارير الصليب الأحمر الدولي والشهادات الحية التي أدلى بها الضحايا أو أقرباؤهم وتقارير الأمم المتحدة لا شك أن هذا كله سوف يفيدنا في عملية الرصد والتقصي والإعداد المنهجي لعملية رفع دعوى ضد المجرمين الحقيقيين في المحكمة الدولية في لاهاي ذات يوم... وان غدا لناظره قريب.
صحيح انه مع مرور الزمن ستقل الشهادات الحية وسيموت جيل النكبة لكن الأهم من هذا كله أن آثار النكبة لا تزول بالتقادم ولن تزول من الذاكرة الجماعية.. كذلك يموت المسؤولون المباشرون عن عملية التطهير العرقي وهذا لا يقلل من أهمية هذه الدعوة لإنشاء الدعوى، لأننا حيال محاكمة للسياسة التي اتبعت في حينه والتي لا تختلف جوهريا عنها اليوم. إننا إذا أدنا المجرم الحقيقي ندين سياسته حتى لو لم يكن على قيد الحياة لأن في محاكمات الموتى عبرة ولأن نتائج أعمالهم ومجازرهم أيضًا ما زالت قائمة... إن محاكمات الموتى ومسامرات الموتى قائمة في التاريخ البشري منذ لوقيانوس السميساطي (200 عام بعد الميلاد) وما قبله وما بعده حتى اليوم، أضف إلى ذلك إن بعض المجرمين الحقيقيين ما زال حيا وإن الهدف هو العدل وإحقاق الحق، ذلك الحق الذي لا يتقادم مع الزمن ولا يموت ووراؤه مطالب.
لا اعتقد أنني وحيد بهذا المطلب، اعتقد انه آن الأوان لكي نعمل بجدية على إنشاء هيئة أو مؤسسة بحثية قانونية فلسطينية عربية إسرائيلية دولية لتعزيز الرواية الفلسطينية وتقديم المجرم للعدالة. يبدو هذا الأمر لأول وهلة ضربا من المحال أو عديم الجدوى أو مجرد حبر على ورق لكن العكس هو الصحيح لقد آن الأوان و"إذا شئتم فليس ذلك بأسطورة"... هنالك حاجة لدراسة وفضح الشعوذات القانونية التي تقوم بها دولة إسرائيل وهنالك حاجة أيضا لاستغلال تقارير الأمم المتحدة والاستعانة بها وبقراراتها التي وصفت الاقتلاع بالقوة والتهجير القسري والتطهير العرقي بأنه جريمة ضد الإنسانية.. وفي خضمّ هذا المشهد المستمر هنالك ضرورة أيضا وحاجة لمراجعة تقارير الصليب الأحمر الدولي بفلسطين منذ الـ48 وحتى يومنا هذا ثم وقبل هذا كله علينا أن نهتم أكثر بتدوين تاريخنا الشفوي، وكذلك تعميقه بشكل اختصاصي  وذلك قبل فوات الأوان.         


*ملاحظة لا بد منها*

تلك كانت مداخلة الكاتب في مؤتمر حق العودة والدولة الدمقراطية العلمانية الذي عُقد في حيفا في قاعة مسرح الميدان في 20و08.6.21. ومن روحها يتضح أنه لا سلامٌ ولا دولتان لشعبين ولا دولة دمقراطية عَلمانية (من العالم) أو عِلمانية (من العِلم) ممكن تحقيقها دون تنفيذ حق العودة بموجب قرارات هيئة الأمم المتحدة وبدون إعادة النظر في حقيقة الحركة الصهيونية وإعادة اعتبارها حركة عنصرية أسوأ من النازية والأبارتهايد.. وإن هنالك حاجة لتأكيد الإجماع على فِكرة حق العودة وتعميقه والعمل الدؤوب على فضح وتفكيك الحركة الصهيونية في البلاد والعالم أجمع بسبب خطورتها ليس على الشرق الأوسط وحسب إنما أيضًا على السلم العالمي!

وليد الفاهوم
السبت 28/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع