جورج حاوي في دعوته إلى الوحدة والمقاومة



أبو أنيس في قصر الأونيسكو بمناسبة تكريم أنور ياسين بعد تحريره (ريشار سمّور) من أطيب ذكرياتي أنني عاصرتُ وناصرتُ ثلاثةً من شوامخ قادة الانبعاث الوطني والقومي والتحرري في أمّتنا. عنيت بهم: جمال عبد الناصر وكمال جنبلاط وياسر عرفات، رحمهم الله. ومن أعزّ تجاربي وإنجازاتي أنّني واكبتُ وشاركتُ في نضالات ثلاثةٍ من مفاخر جيلنا في مواجهة أعداء الحرية والإصلاح والمقاومة، عنيت بهم: جورج حاوي، رحمه الله، سليم الحص وحسن نصر الله، أمدّ الله في عمريهما. بين هؤلاء، كان جورج حاوي الأقرب إليّ نفسيا لكوننا من جيل واحد، فلا عجبَ إن كان أيضا الأقرب ميدانيا، إذ قاتلنا في خندق واحد أكثر من عشر سنوات قبل الحركة الوطنية وبعدها.
أضفى رفقاء وأصدقاء وعارفو جورج حاوي عليه من الصفات والأسماء الحسنى ما يستحق وأكثر. إلا أنني رأيتُ بينها جميعا ميزةً بارزة، تكاد تفيض بمفاعيلها عن سواها، هي حضوره المشعّ كمفكر ومناضل ثوري وواقعي في آن. ثوريته تتجلى في تمسكه بالمبادئ العليا وحيويته النادرة في النضال من أجلها؛ وواقعيته تتبدى في مقاربته الموضوعية للقضايا والتحديات الماثلة، فلا هو مغامر من أهل اليسار الطفولي، ولا هو سياسي من أسرى المصالح والمطامع والأغراض.
تفاعل جورج حاوي مع الواقع طالبا مثابرا وعاملا كادحا ومناضلا ملتزما، فأمكنه أن يدرك الخصوصية اللبنانية بما هي حال في الاجتماع السياسي تنطوي على تعدديةٍ فئوية، وعصبياتٍ طائفية، وثقافاتٍ متنوعة، وسوقٍ مفتوحة على مصالح محلية وإقليمية ودولية، وساحةِ صراعات وتصفية حسابات شخصية وسياسية.
من تعقيدات الواقع وصفاء النظرة الموضوعية إليه، استنبط جورج حاوي منهجا في التفكير والتدبير، قوامه التكامل بين النضال الوطني والقومي، بين العمل السياسي والاجتماعي، وبين الكفاح المدني والميداني.
جورج حاوي هو محرر الحزب الشيوعي من أسر النضال الطبقي إلى رحاب النضال الوطني والقومي المتكامل معه. هو مهندس التزاوج بين العمل السياسي والنضال المطلبي الاجتماعي. هو رائد التركيز والمزج، في آن واحد، بين المقاومة المدنية والمقاومة الميدانية. بكلمة، جورج حاوي هو صاحب الدعوة الدائمة إلى وحدة القوى الوطنية في العمل السياسي والاجتماعي، وإلى الانخراط في المقاومة بلا هوادة حتى حدود الشهادة.
في هذا السياق المتكامل، سياق التكامل بين الاشتراكية والوحدة والمقاومة، يمكن مواكبة مسيرة جورج حاوي النضالية والإحاطة بها واستخلاص دروسها الثرية. فيه ومن خلاله يمكن تفسير قرار جورج حاوي الاستراتيجي بعدم الانحباس في الحزب الشيوعي، بل الخروج به برفقة القوى الوطنية والديموقراطية الأخرى إلى التحالف مع المقاومة الفلسطينية والانخراط في نضالاتها، وإلى بناء الحركة الوطنية اللبنانية تحت قيادة كمال جنبلاط والارتقاء بها كجبهة متقدمة للعمل الوطني التحرري وللإصلاح السياسي والاجتماعي الديمقراطي.
حتى بعد تداعي الحركة الوطنية نتيجة الحرب العدوانية الإسرائيلية الأولى على لبنان في عام 1982، وإعلان اتفاق الطائف في عام 1989، واندراج الطبقة السياسية القابضة في تحالف مدريد مع سلطة الوصاية السورية، ثم انفصالها عنها عقب اغتيال المغفور له الرئيس رفيق الحريري واندراجها على عجل في تحالف مكين مع سلطة الوصاية الأميركية، وتواطئها معها في تظهير حرب إسرائيل الثانية على لبنان في عام 2006... بعد كل هذه الأحداث وفي غمرة تحدياتها ومخاطرها، بقي جورج حاوي أمينا لمبادئه العليا وأهدافه الوطنية والقومية والاجتماعية، وملتزما نهجه النضالي المدني والميداني، فتراه يؤكد للجنة المركزية للحزب الشيوعي في كتاب استقالته من الأمانة العامة أن سببها الرئيس هو «الرغبة في التفرغ للمساهمة في تأسيس حركة ديموقراطية وشعبية جديدة تقوم على قاعدة وأطر أكثر اتساعا وانفتاحا وتنوعا وديموقراطية، وتعمل على فتح آفاق أرحب أمام توطيد السلم الأهلي، واستعادة السيادة الوطنية، وتطوير الديموقراطية، وتحقيق العدالة الاجتماعية والتقدم». ألا ينطوي هذا الكتاب على دعوةٍ إلى تجديد الحركة الوطنية بمضمون ديمقراطي اجتماعي متقدم؟
من موقعه المتقدم هذا، أيدّ جورج حاوي طموح اللبنانيين جميعا وحقهم في الحرية والسيادة والاستقلال، إلا أنه لم يُخفِ معارضته، وبالتالي قلقه من قيادة قوى 14 آذار وسلوكيتها الطائفية وإرثها المترع بالتبعية والفساد، فنراه يعلن بوضوح، عشية اغتياله، «إنه ضدّ استبدال الوصاية السورية بوصاية أجنبية»، وحرصه على «تغيير طبيعة الحكم» وعدم الاكتفاء «بتغيير وجوه الحكام».
ما أشبه اليوم بالبارحة، وما أحوجنا تاليا الى تذكّر جورج حاوي والأخذ بوصيته وتوصياته. ها هو اجتماعنا السياسي يتجاوز في حدّته ظاهرة الطوائف المتنابذة ليتحول في مساره الانحداري كياناتٍ متمايزة ومتصارعة.
كل ذلك في غمرة مشروع أميركي صهيوني للهيمنة الإمبراطورية يلفّ المنطقة العربية كلها، وعلى عتبة تحوّلات إقليمية تهدد وحدة الشعب والأرض في لبنان وفلسطين والعراق. ها هي القوى السياسية المرتبطة بالإدارة الأميركية تحاول بلا كلل إقصاء قوى الإصلاح السياسي الديموقراطي ومحاصرة قوى المقاومة والسعي إلى تعطيل دورها، وصولا إلى محاولة تجريدها من السلاح. إزاء هذا كله، هل من سبيل إلى استجابة هذه التحديات جميعا إلا بالعودة إلى دعوة جورج حاوي الدائمة إلى الوحدة والمقاومة؟
أجل، اليوم بعدما أصبح النظام الطائفي المركانتيلي الفاسد خطرا على الكيان ذاته، نرى أنه آن أوان المسارعة، بثقة وتصميم، إلى دعوة القوى الحية، داخل التنظيمات الوطنية واليسارية الديموقراطية والإسلامية الشورية وخارجها إلى عقد مؤتمر وطني جامع يكون، بهيكليته التنظيمية وبرنامجه المرحلي وقيادته المركزية، جبهةً وطنية أعلى من مكوّناتها السياسية وأفعل منها.
بمثل هذه الجبهة الوطنية، المدنية والميدانية، المتحالفة مع مثيلاتها من القوى الوطنية وتنظيمات المقاومة الشعبية على مستوى المنطقة، تستطيع القوى الحية القيام بمهمات ثلاث مستحقة:
أوّلا: قيادة وممارسة نضال مدني وميداني من أجل الإصلاح السياسي ونضال اجتماعي من أجل الحقوق والمطالب الحياتية والإنمائية.
ثانيا: مواجهة المشروع الأميركي الصهيوني للهيمنة الإمبراطورية محليا، وعلى مستوى المنطقة من خلال استراتيجية متكاملة للمقاومة والتحرير.
ثالثا: التصدي للطبقة السياسية القابضة، ولا سيما للقوى المتحالفة والمتواطئة مع السياسة الأميركية في المنطقة، والعمل على إضعافها وإقصائها.
لتكن ذكرى جورج حاوي حافزا لتنفيذ وصيته وتوصياته في توحيد القوى الوطنية والتزام المقاومة تفكيرا وتدبيرا.

* وزير سابق

عصام نعمان
السبت 28/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع