الحديقة الحمراء



* ... أما في المرة الثالثة، فجلبوا دهانًا. قالوا إنه سيعيد إلى الحديقة زهوها وحيويتها. مع أنه، في حقيقة الأمر، جُلب لأنه أقيل من عمله السابق في صيانة مرفأ أحد الأبناء *

كان ياما كان في قديم الزمان قرية صغيرة على سفح جبل عال. فيها حدائق ومزارع وبيّارات كثيرة. وفي ليلة ظلماء، أتى الإعصار على القرية ومعظم ما فيها، ولم تصمد سوى حديقة واحدة، الحديقة الحمراء، التي رفض صاحباها، رجل وامرأة طيّبان، الرحيل عنها، فبقيا فيها مع أطفالهم الأربعة.
ورغم الدمار الكبير، ظلت الحديقة على قيد الحياة، فكبرت وازدهرت وصارت الأكثر رونقا والأعطر شذى، ونمت فيها أحلى الزهور وبلغ صيتُها القاصي والداني. وظلت الأبهى والأوسع، رغم قسوة الإعصار، ورغم تكاثر الدفيئات الصناعية والزهور البلاستيكية والشتلات المستوردة من حولها. وأحبّ الناس الحديقة الحمراء حبًا صادقًا، وظلوا أوفياء لها بعد أن نفحت فيهم الأمل في الحياة والبقاء في قريتهم، رغم ما حلّ بها وبهم من مآس.
ومرّت السنون على الحديقة، ومات الرجل والمرأة اللذان كانا يرعيانها ودُفنا، حسب وصيتهما، في أحد أطراف الحديقة. وورث الحديقة أبناؤهما الأربعة، وصار كلٌ منهم يريد تعيين أقارب زوجته فيها، فاتفقوا على أن يعيّن كل واحد منهم مسؤولا للحديقة بالتناوب.
في المرة الأولى، جلبوا محاميًا فلم يفلح، وترك الحديقة عطشى في عز الصيف، وظل الجنائنيّون البسطاء وحدهم في الحديقة، يسقونها من مياه شربهم ويحمونها من البرد والريح بملابسهم الرثة، حتى مرض بعضهم ويأس بعضٌ آخر فترك الحديقة التي قضى فيها أجمل أيامه.
في المرة الثانية، جلبوا مزارعًا. فاستبشر الجنائنيون خيرًا. وبعد حين، تبيّن أن الرجل يفهم في زراعة الفجل والبصل والبطاطا، لكنه لا يفقه شيئًا في الورد والحدائق، فذبلت الزهور وغرقت الحديقة في الوحل وحمّل هو شاحنةً من الفجل وفتح بسطة في السوق. واضطر بعض الجنائنيين إلى ترك الحديقة.
أما في الثالثة، فجلبوا دهانًا. قالوا إنه سيعيد إلى الحديقة زهوها وحيويتها. مع أنه، في حقيقة الأمر، جُلب لأنه أقيل من عمله السابق في صيانة مرفأ أحد الأبناء الأربعة. وصارت أحوال الحديقة تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، وقلّ زائروها. وحتى القلة التي ظلت تزورها كانت تتحسّر على أيام كان فيها عبير الحديقة يشتمّ من بعيدٍ بعيد. وقرّر الدهان أن يحوّل جزءًا من الحديقة، حيث يرقد الجدّان، إلى منشأةٍ لغسيل سيارات النقل، على أن تتم سقاية الورود بالمياه التي تغسل فيها السيارات. فأشاد الورثة الأربعة بعبقرية الدّهان، وأعلنوا في ساحة القرية أن حديقتهم ستستعيد مجدها التليد، قريبًا جدًا.
وكان أحفاد صاحبيّ الحديقة مستائين مما آلت إليه حديقة جدّهم وجدّتهم، ومن أنّ "أولاد البارحة"، التي كانت تربتهم على الدوام مربضًا للدواب، أصبحت لديهم حدائق حديثة مترامية الأطراف تضاهي حديقتهم. فقرّروا أن يزرعوا في الحديقة ألف وردة حمراء جديدة. ولكن الدهان كان يمنع سقايتها بالماء ويسعى لطرد من تبقى من الجنائنيين، بعد أن نصّب أحد مساعديه، وهو ساعي بريد سابق، رئيسًا عليهم. مع أنّ هذا المساعد كان يعود إلى بيته حانقًا كلما اتسخ حذاؤه من تراب الحديقة.
ذات ليلة، كان أحد الأحفاد يحلم بأنّ أباه جمع أعمامه الثلاثة، وقرّروا، على شرف الورود الألف الجديدة، فتحَ صفحة جديدة، فجلبوا إنسانًا يفهم في الحدائق ورعاية الزهور، حريصًا على الجنائنيين، ويسهر على مصلحة الحديقة ويلغي مشروع غسيل السيارات؛ حتى عادت الحديقة إلى سابق عهدها، حمراء غنّاء جنّاء فيّاحة.
إستفاق الحفيد من حلمه والفرح يغمره، فركض إلى الحديقة، وإذ بالدّهان ومساعده يقفان بالمرصاد، موجّهين خرطوم المياه إلى شاحنة سوداء كبيرة محمّلة بالبطاطا.
وكان والده وأعمامه الثلاثة يغطّون في سباتٍ عميق..

رجا زعاترة
الأثنين 30/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع