إسرائيل ومسامير جحا



لو أردنا تبسيط القاعدة التي توجه السياسة الإسرائيلية في مختلف المجالات، وخاصة السياسية والعسكرية وحتى الحزبية، نجدها تتبع سياسة "مسمار جحا"، فهذا ما نشهده اليوم في قضية التهدئة مع قطاع غزة، وما نراه في المفاوضات مع الجانبين الفلسطيني والسوري، وما لمسناه في الأيام الأخيرة في قضية الأزمة الحزبية الداخلية، التي هددت بحل الكنيست والتوجه إلى انتخابات برلمانية مبكرة.
ونبدأ بالأخيرة، فقبل أيام قليلة، أسدلت الحلبة السياسية الإسرائيلية الستارة عن فصل من فصول أزماتها الحزبية التي لا تتوقف، إلى حين بدء مشهد جديد، ففي لحظة واحدة خيّم الهدوء على الساحة السياسية بعد عواصف شديدة، وحالة ترقب للحظة التي سيحل فيها الكنيست نفسه، والتوجه إلى انتخابات برلمانية مبكرة.
وقد نشبت العاصفة على خلفية شبهات الفساد المالي الموجهة لرئيس الحكومة، إيهود أولمرت، ولشديد السخرية فإن من يقود "حملة نظافة اليد"، هم المتورطون السابقون واللاحقون في قضايا فساد، من أمثال إيهود باراك وبنيامين نتنياهو وغيرهما.
وعلى الرغم من ذلك، فإنه مع إسدال الستارة تم الإبقاء على عدة بؤر لإشعال الأزمة الحزبية التالية، التي قد تنشب في غضون أسابيع، أو بضعة أشهر على الأكثر، وبين هذا وذاك، فبإمكان إسرائيل الظهور بمظهر "الحكومة الضعيفة"، التي لا يمكنها التقدم في العملية السياسية: "لا تضغطوا علينا أكثر لكي لا نسقط ويحل محلنا اليمين المتطرف وبنيامين نتنياهو"، وهي الرسالة الدائمة التي يطرحها أولمرت ومعه باراك ومن معهما، بالضبط كما كان الحال طوال السنوات الماضي، كمسار لهرب الحكومات الإسرائيلية من استحقاقات المفاوضات والحل.
ونفس الموقف نقرؤه في "التهدئة" الحاصلة مع قطاع غزة، التي بدأت تواجه قلاقل، غير مفاجئة، بعد أيام قليلة من بدئها، فليس صدفة أن إسرائيل أصرت على عدم شمل الضفة الغربية في أجواء التهدئة، بزعم أن هذا "ينتقص من مكانة الرئيس الفلسطيني محمود عباس"، وهي بدعة إسرائيلية الفكرة والإنتاج، ونرى من العرب من يتلذذ بشهية طعمها لجني مكاسب حزبية ضيقة مُخزية.
فإسرائيل تعرف مدى الربط العضوي بين أبناء الشعب الواحد في قطاع غزة والضفة الغربية، وتعرف أن تكثيف الضربات في الضفة لا يمكن ان يحفظ الهدوء لأمد طويل في قطاع غزة، والعكس صحيح.
كذلك فإن المؤسسة العسكرية الإحتلالية "تحتج" على أن شروط التهدئة لا تمنع الاقتراب من الشريط الحدودي مع قطاع غزة، وراحت تهدد بإطلاق النار على كل مجموعة "مشبوهة" بعيون احتلالية، وكما علمت التجربة فإن إسرائيل قد تعتبر مجموعة من الأطفال، "مجموعة إرهابية تهدد الكيان الإسرائيلي والشرق الأوسط برمته، ولهذا وَجَبَ إبادتها".
ولهذا فإن إسرائيل أرادت الاحتفاظ ببؤر مشتعلة، لاستعمالها كوخز دائم يقود إلى اشتعال وانهيار التهدئة، في أي توقيت تختاره إسرائيل، وحين تشتعل الأرض مجددا فمن يسأل عن مفاوضات واستحقاقات، المهم أولا: "القضاء على الإرهاب الفلسطيني"، حسب الرسالة الإسرائيلية الأميركية المطروحة على الدوام.
والحال ليس مختلفا بشأن المفاوضات، فقبل أيام ظهر نائب وزير الحرب الإسرائيلي متان فلنائي، ليقول من على منصة الكنيست، إن على إسرائيل أن تضمن السيطرة الدائمة على "قبر يوسف" في نابلس، والمقصود قبر النبي يوسف، الموجود في قلب البلدة القديمة في نابلس المحتلة، ويؤمه مستوطنون ومتدينون يهود للصلاة فيه، وبشكل استفزازي واضح.
بمعنى أن إسرائيل تريد الاحتفاظ ببؤرة توتر في قلب نابلس، تماما كما هو الحال عند ما يسمى بـ "قبر راحيل" في بيت لحم، وهو مسجد بلال بن رباح، أما "راحيل" تلك، فلنترك لوزيرة التعليم الإسرائيلية السابقة شولميت ألوني لتروي "حكايتها".
وكما هو الحال أيضا في الخليل، والحرم الإبراهيمي في المدينة والحي الاستيطاني، والكنيس اليهودي في مدينة أريحا، وفي القائمة مواقع أخرى كثيرة، إلى جانب الاستيطان ككل في الضفة الغربية.
ونفس العقلية نقرؤها على المسار السوري، إذ تسعى إسرائيل للاحتفاظ بمستوطناتها في هضبة الجولان السورية المحتلة، كتأجير لمدة مائة عام وأكثر، وهي المقامة على أنقاض عشرات القرى السورية المدمرة، وتسيطر على حقولها الخصبة.
وهي نفس العقلية التي توجه التعامل مع لبنان من خلال استمرار احتلال مزارع شبعا الصغيرة والضيقة جغرافيا، نسبيا، إلى جانب أسرى لبنانيين، فقط من أجل الاحتفاظ ببؤر جاهزة للاشتعال مستقبلا.
وكل هذا يقود إلى استنتاج أن العقلية الإسرائيلية الصهيونية تؤمن بأن استمرار حالة القلاقل وعدم الاستقرار على كافة الأصعد كفيل لإسرائيل للحفاظ على أطماعها، وهذا ليس فقط تجاه العالم والمنطقة، بل أيضا تجاه الشارع الإسرائيلي ذاته، الذي لا يعرف أي حالة من الاستقرار السياسي والاقتصادي، وتتم محاصرته دوما بسياسة تخويف وترهيب من الغير، لكي لا يقرأ الحقيقة المنطقية، وليبقى ملتصقا بالعقلية العسكرية ومؤسساتها.

عن "الغد" الأردنية

برهوم جرايسي *
الأثنين 30/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع