أم عمار الجيّوسيّة



    أمعنت التفكير فيما رأيت، وقلت في نفسي: ماذا لو أطلقت مؤسستي "الإغاثة الزراعية" أو أي جهة وطنية أخرى مبادرة أو مشروعا اسمه ( وسام الصمود )..؟؟ لكي يقدم هذا الوسام لكل الصامدين على أرضهم - وخصوصا للنماذج الرائعة من فلاحي بلادنا، الذين سطروا ويسطرون كل يوم أروع ملاحم التحدي والصمود، في مواجهة غول الاستيطان والجدار.. وقررت فورا أن ابذل ما استطيع لتحويل فكرة وسام الصمود إلى واقع - وقد كان ميلاد هذه الفكرة في أعقاب زيارة قمت بها لمناضلة من نساء بلادي أحسست بعدها بعظم حجم العمل الذي يتوجب علي وعلى كل من هو منتم لهذه الأرض أن يفعله.  
 سمعت قصتها مرة واحدة، لكن اسمها ظل عالقا بدماغي، وبقيت أتحين الفرص للتعرف عليها، إلى أن حانت لي فرصة ذهبية عندما كلفتني مؤسستي ( الإغاثة الزراعية ) بجمع شهادات على الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان الفلسطيني، لتقدمها في عمان إلى لجنة خاصة بالأمم المتحدة، وفورا قفز اسمها إلى تفكيري فوضعته في مقدمة القائمة التي قررت زيارتها.. إنها أم عمار- زريفة محمد علي أبو شارب- من سكان قرية جيوس في محافظة قلقيلية..
    زريفة لا تحمل بالعادة جهازا جوالا، ولذلك احترت كيف أصل إليها.. وصلت جيوس عند الساعة الحادية عشر صباحا، وكانت حرارة الجو مرتفعة جدا، توجهت لزيارة المجلس القروي، والتقيت برئيسه، وأجابني على كل الأسئلة التي وجهتها إليه- حول الجدار وتأثيراته على مجمل حياة القرية الاقتصادية والاجتماعية- ومن على شرفة المجلس كان بمقدوري أن أرى بوضوح تام  مسار جزء من جدار الفصل العنصري، واستفزني المنظر كثيرا حيث يلتف الجدار كالانشوطة حول منازل القرية ليخنقها، ويعزلها تماما عن أكثر من 8 آلاف دونم من أجود أراضيها.. وفي نهاية لقائي معه سألت رئيس المجلس كيف يمكن لي اللقاء بأم عمار..؟؟ فقال لي عليك الذهاب إلى قرب بوابة الجدار، وحتما ستجد أم عمار هناك، إما جالسة تحت شجرة أو تكون بضيافة احد المنازل القريبة إلى بوابة الجدار.. نهضت سريعا وتوجهت بالسيارة نحو البوابة، وفي الطريق أجلت نظري بين الأشجار، علني أجد تلك المرأة التي أثارت اهتمامي بقدر كبير، رغم أنني لم التق بها يوما في حياتي، وفكرت هل يمكنني التعرف إليها بدون مرشد أم لا..!! وكانت ترافقني في الزيارة زميلتي السيدة وفاء جودة مرشدة جمعية التوفير والتسليف في محافظة قلقيلية.. وهي التي كانت تقود السيارة، وعندما كدنا نغادر حدود آخر منازل القرية، انتبهت إلى سيدة  في حوالي الخمسين من عمرها، كانت تجلس على مدخل احد المنازل، كانت تلبس ثوبا اسود ويظهر على وجهها آثار أشعة الشمس الحارقة، فطلبت من مرافقتي التوقف كي نسأل، فقد تكون هذه السيدة هي أم عمار.. أوقفنا سيارتنا وترجلنا وسرنا باتجاه المنزل وسألنا السيدة الجالسة على المدخل إن كانت هي أم عمار أم لا، فابتسمت تلك المرأة وأجابت: نعم أنا أم عمار، وعندها انبرت لنا مضيفتها لترحب بنا، وتدعونا لشرب القهوة في منزلها، فاعتذرنا منها بلطف وأبلغناها بأننا في عجلة من أمرنا، ونود انجاز مهمتنا بالسرعة الممكنة بإجراء لقاء مع أم عمار.
    وبعد تعارف سريع طلبنا من أم عمار الصعود معنا إلى السيارة كي نوصلها إلى البوابة - حيث اقترب الموعد المحدد لفتحها وفق القوانين العنصرية - وأبلغناها بأننا كنا نبحث عنها بقصد التعرف إليها وكي نقف من خلالها على عمق الألم الذي يتسبب به الجدار للمواطنين الفلسطينيين، وسرنا في الطريق الترابي نحو بوابة الجدار، وكانت المسافة لا تزيد عن 100 متر، وقد بدأت فورا الحديث مع أم عمار، حيث استفسرت منها عن كل شيء في حياتها وحياة أسرتها، وكيف يتدبرون أحوالهم وهم يقيمون في سجن حقيقي خلف الجدار.
    بدأت السيدة أم عمار حديثها بصوت متهدج حزين وبين كل جملة وأخرى كانت تتنهد وتردد عبارة ( الحمد لله على كل شيء )، واسترسلت أم عمار بالحديث قائلة أن مصيبتها قد بدأت منذ سنين مع الاحتلال، لكنها اشتدت في العام 2005 ، أي عندما قامت دولة الاحتلال ببناء جدار الفصل العنصري في أراضي بلدتها، والمصيبة حصلت عندما أقيم الجدار ليفصل بيتها عن باقي بيوت بلدتها جيوس، الأمر الذي حرمها من التواصل مع أهلها ومع الناس وجعلها تعيش وكأنها في سجن فعلي.. حيث انه وعند بداية بناء الجدار في منطقة بيتها، جرى حصارها كليا ومنعت هي وباقي أفراد أسرتها من الخروج من المنزل لمدة 45 يوما، وحرموا جميعا من التواصل مع القرية وكذلك من التزود بالمواد الأساسية الضرورية للحياة.
    وأضافت أم عمار أن الجيش أقام فيما بعد بوابة حديدية على الجدار، واشترط على الأسرة الحصول على تصاريح أمنية كي يسمح لهم بالخروج والدخول إلى المنزل، وذلك ينطبق حتى على الأطفال ممن هم اقل من عشرة أعوام .. لكن الدخول والخروج أيضا مشروط بأوقات محددة هي على ثلاث فترات : ( صباحا من الساعة السابعة إلى الثامنة - وظهرا من الساعة الثانية إلى الثانية والربع، وبعد العصر من الساعة الرابعة والنصف إلى الخامسة ).. الأمر الذي يعني أن أي فرد من أفراد أسرة أم عمار - إذا ما أراد العودة إلى منزله - عليه أن ينتظر على البوابة حتى ولو لساعات إلى حين فتحها.. ومثال ذلك أبناء أم عمار تلاميذ المدارس الذين لا يستطيعون العودة إلى منازلهم بعد انتهاء دوامهم المدرسي إلا في الوقت المخصص لفتح البوابة.. وكذلك لا يمكن لام عمار الخروج من منزلها لتتسوق من البلدة إلا في الأوقات المحددة، الأمر الذي يعني إضاعة الوقت وآلام الانتظار الطويل والمرير.
    وأبرزت لنا أم عمار من حقيبتها أكواما من التقارير الطبية التي تثبت أنها امرأة مريضة بعدد كبير من الأمراض حيث أجرت في حياتها 7 عمليات جراحية ( مرارة وزائدة وقسطرة .. الخ ) .. وفي أحيان كثيرة وعندما كانت الآلام تشتد عليها ليلا - لم يكن بمقدورها الوصول إلى الطبيب أو المستشفى إلا بعد عملية اتصالات معقدة، إذ عليها الاتصال أولا بالصليب الأحمر، الذي بدوره يتصل بالارتباط العسكري الإسرائيلي، ومن ثم يجري الاتصال بالجيش الذي يقوم بحراسة الجدار.. وعندها أي بعد أن يمر الزمن مشحونا بالألم والمعاناة يسمح لام عمار بالخروج لتلقّي العلاج اللازم..
    ودعنا أم عمار في اللحظة التي جاء بها جنود الاحتلال ومعهم مفاتيح البوابة، حيث دخلت وحيدة بين الأسلاك الشائكة، وخضعت لعملية التفتيش الروتينية الدقيقة بواسطة أجهزة الأشعة، وكانت تحمل أكياسا كثيرة مملوءة بالمواد الغذائية، وأخذت تلوح لنا بيدها إلى أن غابت عن الأنظار، عندها فكرت بعمق وبألم في وضع هذه المرأة وعائلتها، وتساءلت ما الذي يجبر هذه السيدة وعائلتها على البقاء داخل هذا السجن.. غير الإصرار على الصمود والتمسك بثرى الوطن وتحدّي إرادة المحتلين..؟؟ وفكرت أكثر كيف يمكن لمثل هذه النماذج النضالية أن تصبح هي الظاهرة..؟؟ وماذا يمكن لي أن افعل - أنا ومثلي كل من هو حريص ومخلص لقضية شعبه الوطنية - في تدعيم صمود هؤلاء الناس.. وتمنيت أن يكون لدي كل الإمكانيات للوقوف إلى جانبهم.. فكرت أكثر وقلت في نفسي: إن أم عمار تستحق أن تنال وسام الصمود الذي لا بد لجهة وطنية ما أن تتبناه كمشروع وطني ليتم تقديمه لكل الصامدين على أرضهم الذين سطروا ويسطرون كل يوم أروع ملاحم التحدي والصمود في مواجهة غول الاستيطان والجدار.. وقررت أن اعمل فورا وابذل ما استطيع لتحويل فكرة وسام الصمود إلى واقع.

(جيوس – محافظة قلقيلية)

خالد منصور *
الأثنين 30/6/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع