الإشكال الفلسطيني



فقط الواقع قادر أن ينسج هذا المشهد الأكثر غرابة الذي يعيشه الشعب الفلسطيني. تغيرت الأدوار إلى حد تصبح الحياة فيه مستحيلة على أي طرف كان. فما الذي أوصل القضية الفلسطينية إلى هذا المشهد الغريب؛ سلطتان وقراران، وفي كل سلطة بذور السلطة الثانية ممثلة في معارضة رافضة الانصياع، لـ"مصلحة وطنية عليا" هنا أو هناك .. 

***

ما لم يفعله ياسر عرفات، وفيما بعد أبو مازن، خلال 13 عاما بعد أوسلو، فعلته حماس وبكل قوة، خلال أقل من سنة ونصف من نجاحها في الانتخابات التشريعية، وخلال أقل من ثلاثة أيام في حزيران العام  الماضي كانت قد احتلت كافة مقرات السلطة في غزة، ومن يفعل ذلك، بهذه النجاعة وبهذا الحزم، هو آخر من يمكنه القول أنه كان مهددا بانقلاب من قبل فتح، هذه "الفتح" التي انهارت عسكريا، بدون أية مقاومة.
عندما تباطأ أبو مازن وتردد، وقبل ذلك عرفات، في معالجة الانفلات الأمني وتعدد مصادر القرار والتنفيذ، فقد فتح الباب مشرعا لحماس لكي تنفذ انقلابها، وهذا الانقلاب أمر "تطلبه الواقع"، (والمؤسف هنا أن الشرعية لم تنفذ ذلك)، لأن الدولة، مهما كانت وفي أي ظرف، هي  في نهاية الأمر نظام، والنظام يعني أولا وقبل كل شيء سلطة، وأهم سمات السلطة هو قدرتها على الإخضاع.  فيما بعد يمكن تصنيف هذه السلطة، دمقراطية أو دكتاتورية. والسلطة، تعني أيضا، وهذا جزء عضوي من مفهومها، مصدرا واحدا للقرار، ومش مهم هنا إذا كان هذا القرار قد أتى بعد نقاش شارك فيه الشعب أو قرار جاء نتيجة حلم حلمه الزعيم. المهم أن هنالك قرارا ويجب تنفيذه.
هكذا تجري الأمور في السويد و هكذا تجري الأمور في دكتاتورية دموية. في السويد يوجد برلمان وحرية صحافة وأحزاب، ولكن هنالك مصدرا واحدا للقرار وهو البرلمان، وعندما يُتّخذ القرار يتم تنفيذه، ويفعلون ذلك بقوة وبإصرار، شأنهم في ذلك شأن أية دولة دكتاتورية، "بالمليح"، وإذا لم ينفع المليح، "بأعطل" من العاطل، بالنار والحديد.
في السويد، كما هو الحال في دكتاتورية دموية، من يحمل السلاح هم أفراد قوى الأمن الرسمي. لا يوجد تنظيم آخر يحمل السلاح، وكل من يحمل السلاح بشكل مخالف هو خارج عن القانون ويتم معاقبته بشدة كما هو الأمر في أية دكتاتورية في العالم. ولذلك، صحيح أن حماس تجاوزت كل الخطوط الحمراء، ولكن ما فعلته يتطلبه الواقع في ظل تردد الشرعية منذ 14 عاما أن تكون سلطة. لأنه لا يصح إلا الصحيح، وهو أن سلطة وانفلات أمني لا يمكن أن يتعايشان.
المؤسف أن القوى الوطنية الدمقراطية لدى الشعب الفلسطيني تريد كل شيء من الدولة، أن تكون دمقراطية وأن تهتم بحقوق الإنسان وأن تتيح للتنظيمات أن تفعل ما تشاء، وأن.. وأن.. ولكن شيئا واحد لا يريدونه من هذه الدولة، أن تكون جوهرها، أي أن تكون سلطة.. وفيما بعد يتغنون بالوطنية والنضال والحلم الفلسطيني.
لماذا لم يتم ذلك؟
أولا، لم يفعل عرفات ذلك، لأنه في غفلة من الزمن لم يدرك خطورة هذا الفراغ الرهيب للسلطة، ولم يستطع أن يدرك أن هنالك قوانين في الطبيعة يجب الأخذ بها، واعتمد على رصيده الوطني والأخلاقي في ضبط الأمور. وهنالك من يقول أن الواقع أملى عليه، أن يعيش في وضع يكون فيه هو زعامة الدولة وأيضا زعامة المقاومة. ولكن حتى في ظل هذا الإشكال هنالك قوانين، بأنه أيضا في ظل حركة مقاومة، يجب أن تكون هنالك وحدة قيادة وقرار، هذا الأمر كان في الفيتنام وفي الجزائر.. وفي منطقتنا، مع تجربة حزب الله في تحرير الجنوب اللبناني.
وثانيا، لم يتم ذلك، لأنه بالذات لدى الوطنيين بين ظهرانينا، يوجد هذا الضعف أمام كل واحد يقول أنه ضد إسرائيل: من الممكن أن يسطو رجل على بيتك، ومن الممكن أن يعتدي على عائلتك، ومع ذلك لا تفتح فمك، فالرجل ضد إسرائيل. وعندما حذر القلقون مما يجري في غزة من فوضى السلاح، ارتفعت الأصوات عاليا أن هذا السلاح موجه للكفاح ضد إسرائيل.
ماذا كانت النتيجة؟ أن السلاح الذي دخل غزة، قتل من الفلسطينيين أكثر مما قتل من الإسرائيليين، وهذا الأمر لازم النضال الفلسطيني في كل مرحلة من مراحل نضاله، من عشرينات القرن الماضي حتى يومنا. السلاح الذي وجه إلى العدو، تحول في ظل فوضى السلاح وغياب القيادة الموحدة إلى سلاح فتاك ضد أبناء الشعب الفلسطيني، وتجربة ثورة الستة والثلاثين ما زالت ماثلة في أذهاننا.
بعد انقلاب حماس هنالك إحباط وخيبة أمل، أنه في لحظة الحسم، هنالك من بيننا من لم يتصرف تصرفا "أهليا"، كما كان يفعل أبو عمار أو ما يفعله اليوم أبو مازن، بروح شعار "قلوبنا على بعض". ذهبت البراءة، مع أعلام فلسطين التي أنزلت وارتفع بدلها علم فصائلي، علم حماس. ذهبت البراءة عندما دخل أفراد حماس مقرات الأمن والرئاسة. ذهبت البراءة عندما أُنزلت صور عرفات، وديست، هي وصور أبو مازن، بالأقدام.

***

بعد التهدئة هنالك سؤال كبير وهنالك حاجة لوضع الأمور في نصابها، لأن تشابك الأسلاك يسبب تماسا كهربائيا، يحرق الأخضر واليابس، فنقول أولا تعالوا نرجع لثوابتنا في قضية الحل، وفي مركز ثوابتنا، أبيض على أسود: "دولتان للشعبين" وحل قضية اللاجئين والقدس العربية..
وحتى "بلاغ آخر"، يستطيع منتقدونا أن يتحدثوا عن الإجحاف في هذا القرار وعن نواقصه، ولكن في نهاية الأمر حين يجد الجد لا يجدون إلا هذا الحل سبيلا لإنهاء هذا الصراع ووقف هذا النزيف. وجيد أن نتكلم عن هذا الحل مرة أخرى، فالآن كما قبل ستين عاما، وافقنا على هذا الحل لأنه اتضح لنا أن البديل لن يكون كل فلسطين، بل ضياع فلسطين، وها هي الدلائل تشير أنه عندما يسود الخط المعارض لخطنا التاريخي يبتعد حلم الدولة المستقلة عن التحقيق، فمهما كبرت الشعارات، فالحقيقة المرة، أنه اليوم في ظل التهدئة تتحول قضية فلسطين إلى قضية إنسانية، تهدئة مقابل مواد غذائية وأدوية ووقود للسيارات. وهناك من يقول إن التهدئة انتصار..

**

بجملتين يمكن تلخيص الإشكال الفلسطيني: عندما تكون في السلطة في يدك، تريد من الجميع أن ينصاع لك، وعندما تكون في المعارضة تستغيث: "يريدون إسكات سلاح المقاومة".. ولذلك اليوم، بعد هذه التجربة المضمخة بالدم والدموع والدمار، هنالك حاجة لإعادة الثوابت لكل حركة وطنية، تريد الحياة، إنه لا مكان لمقاومة بدون قيادة موحدة ولا مكان لحركة تحرر بدون قرار واحد.
والحقيقة أن في مركز الإشكال أعلاه يقع السؤال الأهم، هل الفلسطينيون ملتزمون نحو الوطن والشعب؟ أم أن التزامهم الأكبر هو نحو الحركة أو التنظيم أو الحمولة؟ نعم هذا هو السؤال المركزي، لأنه يتضح الآن أنه لا يوجد التزام لفلسطين، للبلد، للوطن. كل واحد لدية التزام خاص به، وكل الأحاديث والشعارات الكبيرة ما هي إلا ضريبة كلامية.. للأسف.

عودة بشارات
السبت 5/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع