يافا هي البيارة



مدينة كالعروس تلقي بقدميها على شاطئ البحر لتغسل عنها رمال البحر الذهبية التي تدغدغ أناملها وتعكس أشعة الشمس الذهبية المنبعثة من وراء البحر عند الغسق فتمسي كالمرجان المتلألئ فوق الأمواج.
ومن حولها طوق من البيارات الخضراء تكسوها وتبعث منها رائحة العبير مع كل نسمة هواء شرقية تتمايل وتتراقص على أنغام صوت أمواجها المترامية على شاطئ البحر عند صخرة اندروميدا. وتلاطم جداران تحول بينها وبين القلعة الشامخة فوق البلدة القديمة تنظر وراء البحر علّها ترى من تركها منذ أمد بعيد فتضيء له المنارة وتسمع صوت الزغاريد بين رنين الأجراس من كنائسها وصوت الآذان من مساجدها لترسم لوحة شرقية تجيد اللغة المنسية في أزقتها وتخرج أجمل لحن يطرب له ذلك الذي يجلس في قصره وذاك الذي لا يفلت أرجيلته كي لا تهرب منه كما فعل مع العروس عند ليلة الزفاف.
لا تبكي يا أبا هادر على شجرة الشموطي المخضر عند بوابة البيارة ولا تحزن لفقدان سحارة المرمير على رصيف الميناء فقد تكسر الرصيف من دب الأقدام المرتحلة وتيبست جذور الشجرة من هول ما ترى من جذور تقتلع عند الساحل وعلى سفح الجبل تنتحر الأشجار المباركة التي تحمي ذلك الفلاح الطيّب عند بيت المقدس وأكناف بيت المقدس وانحنت مئذنة روبين  لتحمي المحراب والمقام والولي الصالح روبين لا يغادر المقام بعد أن غابت رنات السنوج المتذبذبة فوق الرمال البيضاء وعتمة وسكون تحدث ما كان وما جرى فوق تراب روبين خلف الخيمة ووراء كواليس العوالم التي تراقصت حتى بزوغ الفجر.
كان والدي الشيخ فتح الله رحمه الله يصحبنا إلى البيارة في قرية يازور ليتفقد الشتلات والأقلام المركبة  في بيارة الحاج  بكر وكنت في العاشرة من عمري ومعي أخي سامي فيقول لنا أبي سأعود حالا ولا تقربا هذه الشجرات حتى أعود.
فقلنا حاضر يا أبي  وما هي لحظات حتى غاب عنا أبي والحاج بكر وأنا وأخي ننظر إلى ثمار الاسكدينيا حتى لامس  اللعاب  صدورنا وراح الواحد منا ينظر إلى الآخر وكأننا نخاطب بعضا من سيكون المذنب الأول ويقطف أول ثمرة حتى كاد يغمى علينا من كثرة ما بلعنا من النوى وسمعنا الأقدام تقترب إلينا فعدنا لنجلس عند المكان الذي تركنا والدنا فحدث لنا ما حدث لآدم وتركنا الجنة عائدين إلى بيتنا في حي العجمي لنحدث إخوتنا وأصدقاءنا عن الرحلة الممتعة إلى أسكدنيا. أن هذه القصة تذكرني يا أخي أبو هادر بالزيارة التي رافقت فيها حبيبنا المرحوم إبراهيم أبو لغد رحمه الله وطيّب ثراه فوق تلة الكزخانا المطلة على شاطئ الشباب، تلك الزيارة إلى مجدل شمس بعد أن قام بزيارة موقع روبين برفقة الأخ نسيم شقر وقسطى منصور وعاد من هناك منهك القوى. ما أن وصلنا القرية بعد رحلة طويلة وشاقة كما تصفها أبنتي الصغيرة لنا في إحدى الزيارات عندما سألتني هل مجدل شمس موجودة في السماء؟  استلقينا على الفراش عند عائلة أبو جبل وراح سلمان يداعب المرحوم ويقول له ما رأيك يا أخي أن نقوم غدا الفجر ننزل إلى المرج لنسرق من تفاح الجولان فما أطيبه من ثمر فقال له إبراهيم لا تقلّب المواجع وتعيد ذكريات الطفولة في بيارات يافا وخلي الطابق مستور.
آه يا بيارات يافا ، آه يا مرتع الطفولة وسحر الخيال.
نعم عندما أزور البيارة ينتابني شعور قوي بأن يافا والبيارة توأمان والبيارة ويافا والميناء هم شريان الحياة ولو أضفنا إلى الثلاثة طيبة الأهل في يافا لتمنينا أن يطول بنا الزمن إلى ما شاء الله. إذا كنا لا نستطيع أن نمنح الحياة لسمكة السلطان خارج البحر فكذلك أنا لا أستطيع العيش خارج يافا وكأنني تعودت على اوكسجينها الذي أتقاسمه مع أشجار البيارة أعيش في النهار وأموت في الليل لتعيش شجرة البرتقال الشموطي عند بوابة البيارة.
كي لا تكون نتيجة ما أقول معضلة أو لغز سأشرح ما أقول بلغة أفهمها لكي يفهمها كل إنسان بسيط وفقير مثلي، ولنترك لغة الألغاز لأصحاب الكار وبما أنك يا أخي أبو هادر هناك وأنا هنا اسمح لي أن أصف لك حبيبتك من خلال البيارة فتكون النتيجة أن البيارة خلقت لان يافا حية ويافا حية لان البيارة تنبض بشريان الحياة فأين الحياة وأين البيارة؟
 البيارة كما تعلم يا أبا هادر هي صفوف من أشجار الحمضيات كانت لأصحابها من أهالي يافا وهم كثر ولا يراودني أي اسم بل لا أريد أن أبوح باسم أحد لان البيارة وإن كانت لأصحابها فهي في النهاية  تعود ليافا ككل تطعم الكل ونسيمها يعبق الجميع وثمرها ليس حكر على أحد بل وجابت ثمارها أقطار العالم الذي تعلّق بها وكأنها الشفاء للعليل. فسمعة يافا كسمعة البيارة ومهما حدث أو جرى على ترابها تبقى كمن يلقي بالحجارة على أشجار النخيل العالية فتلقي بثمارها أو كسيدنا المسيح عيسى بن مريم ورسالة التسامح والسلام وكذلك يافا وطبعا البيارة.
البيارة ثمارها البرتقال ويافا ثمارها أجيال من الشباب المتعلم والمثقف الذي اقتلع من جذوره ليزرع العلم والمعرفة في العالم العربي والغربي ويجعل من الصحراء القاحلة واحة خضراء يطيب العيش فيها فرائحة اليافاويين تنبعث من كل صوب وحدب كما  يغمر عبير البرتقال أحياء المدينة والسكنات والحواري وما أجملها من قعده عند البركة التي علمتنا السباحة والصبر وعلى قزم الغيظ عند الشدة فتبرد أعصابنا من هول ما نرى وينبعث الأمل من جديد فتثمر الشجرة وتلد يافا الجيل بعد الجيل محبا ومخلصا لترابها وواعدا بغد يرسخ الأمل بقرب الفرج.
وتتساقط من الشجر الثمار التلفة قتندثر في التراب لتصبح سماد الثمر القادم وكأن البيارة تعلمنا أن كل ما هو على وجه الارض له طور ودور وجاء في الكتب السماوية "وجعلنا لكل أمر سببا" ويتساقط شباب يافا الذين اختاروا طريق البؤس والشقاء وتخدير العقول والأجساد لتصبح كالغصون التي تنكسر فتذبل وتيبس وتحرق فتبعث النور وتدفئ الأطفال من البرد القارص في ليالي المربعانية.
يصطف شجر الحمضيات في البيارة منتصبا وكل شجرة لها ثمارها وكل ثمر يختلف طعمه عن الآخر  هذا حلو وذاك حامض وآخر مر كالعلقم عله يكون من الخشخاش الذي يطيب طعمه عندما يصبح مربى أتذكر يا أبى هادر مربى الخشخاش أنا شخصيا لا أحبه لانه شديد الحلاوة ولكن يبقى من يحبه ولو لانه من البيارة ونحن في يافا كالبيارة كل عائلة وثمارها فنجد الشموطي وأبو صرة والفرنساوي ودم ألزغلول والبلنسية نسبة إلى مدينة فالنسيا في اسبانيا كلا له طعم ومذاق وهكذا تختلط يافا بالبيارة والعكس صحيح والاثنان ضحية  الغدر والخمول.
كان والدي يعلمني على أشجار الحمضيات كيف تركب فيصبح الخشخاش برتقال شموطي والحامض منديلينا وأحيانا كان يركب على شجرة واحدة أصناف من الحمضيات وكذلك الأنساب في يافا فهي من دروب التركيب والكل قسمة ونصيب والشجرة خارج الموضوع كما تعرف "هيك مزبطة بدها هيك رجال" أليس كذلك يا أبا هادر.
والأفراح كموسم القطف الكل سعيد ومبسوط، أم العريس تزغرد وأم العروس تبكي والكل فرح بالمناسبات السعيدة وفي المأتم يسود السكون والحزن ودموع تغمر أزقة الشوارع وكذلك الأمر عندما نفقد البيارة أليس كذلك يا أخي فما بالك كلما ذكرت يافا تبكي وكلما ذكرت البيارة تبكي لا تلمني فأنا كذلك أبكي لا ابكي دموعا بل أبكي دما ، أنا جرح نازف يضحك من شدة الألم ، أنا قلب نابض ينبعث منه الأمل أكتب لكي تبتسم وأنزف لكي تلتئم وأموت لكي تعيش البيارة وأدفن لكي أصبح سمادها فهل هي يافا أم البيارة أترك لك الجواب على سؤال طالما حيرني من يافا البيارة.

(يافا)

عبد القادر سطل*
الأربعاء 9/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع