ليس الملف النووي الايراني.. وانما الملف النووي!



تحاول الولايات المتحدة منذ بروز مفهوم عالم القطب "الأمريكي" الواحد، وخصوصا بعد إطلاق "الحرب الإرهابية على الإرهاب"، الظهور بمظهر الدولة  العظمى التي تسهر على منع انتشار الأسلحة النووية وإنتاج أسلحة الدمار الشامل. والتي تعلن استعدادها لمعاقبة من تسول له نفسه الولوج إلى النادي النووي العالمي، حتى بثمن خوض الحروب التدميرية، وأحيانا بمجرد الادعاء المفتعل، بوجود أسلحة الدمار الشامل كما حدث في العراق وكما يجري التهديد اليوم بشأن إيران. والحقيقة أن السياسة الأمريكية تقوم على معايير مزدوجة فاضحة ومستفزة وكاذبة في هذا المجال. فالسياسة الأمريكية لا تقوم فقط على التعامي عن السياسة النووية للدول التي تدور في فلكها، وإنما تقوم بالتعاون النووي والعسكري مع هذه الدول في شتى أنحاء العالم المتوترة.
إن الولايات المتحدة التي تملأ الدنيا غبارا حول المشروع النووي الإيراني، هي نفسها التي تتعاون استراتيجيا مع دول نووية مثل الهند وباكستان وإسرائيل في مشاريعها النووية مباشرة. وتشكل "الصفقة النووية الأمريكية" المعروضة على  الحكومة الهندية في الأشهر الأخيرة، ليس مصدرا لعدم الاستقرار نحو الخارج فقط، وإنما مصدرا لعدم الاستقرار في الداخل أيضا من شأنه أن يدخل السياسة الهندية في دوامة سياسية قد  تطيح بالحكومة الهندية، التي تعتمد في وجودها، على دعم الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) من خارج الائتلاف، والذي أعلن معارضته المطلقة والنهائية للصفقة النووية الأمريكية التي تحظى بتأييد رئيس الوزراء الهندي، الامر الذي قاده إلى أن يعلن، أول أمس تحديدًا، عن وقف دعمه للحكومة. إن الولايات المتحدة تعرض على الحكومة الهندية في إطار هذه الصفقة، القيام بتزويد الهند بالمعرفة والتكنولوجيا والمواد النووية، مقابل إشراف الولايات المتحدة وتدخلها (وليس وكالة الطاقة الدولية أو مؤسسات دولية أخرى) في النشاط النووي الهندي، وهو ما يعني تعميق إخضاع السياسة الهندية للإستراتيجية الأمريكية. وهو ما نجحت السياسة الأمريكية في ابتزازه من باكستان. ويشير بعض المحللين إلى أن الولايات المتحدة ومن خلال عملائها في باكستان هي التي تتحكم بالفرق العسكرية التي تشرف على الترسانة النووية أكثر من أيّة حكومة باكستانية حالية أو مستقبلية.
كما أن وجهة إسرائيل، والسياسة الأمريكية في المنطقة، ليست نحو تقليص انتشار أسلحة الدمار الشامل وإنشاء شرق أوسط خال من السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل، وإنما نحو تطوير مرحلة جديدة في سباق التسلح غير التقليدي واحتكاره  وتوسيع انتشاره في أعماق البحار، بما في ذلك، تطوير مشترك لجيل جديد من الأسلحة النووية التكتيكية الأصغر حجما وانفجارا، وهو ما يعني إنتاج جيل جديد من الأسلحة النووية القابلة للاستعمال في حروب غير استراتيجية، وتجاوز العديد من الخطوط الحمراء في مجال التهديد السهل باستعمال الأسلحة النووية ومختلف أسلحة الدمار الشامل ومفاقمة مخاطرها.
إن "الخطر النووي الإيراني" الذي تدعيه اسرائيل والولايات المتحدة وتحب أن تروج له، هو النتيجة المباشرة للسياسة النووية التي تقودها إسرائيل في الشرق الأوسط، وليس سببا لها. انه الرد على مفاعل ديمونا النووي وليس تبريرا له.
إن كل إنسان عاقل، يدرك بشكل قاطع، أن إسرائيل هي التي أدخلت السلاح النووي إلى الشرق الأوسط، مشّرعة بذلك رغبة أطراف أخرى في المنطقة ومستثيرة شهيتها للبحث عن وسائل لإنتاج وامتلاك الأسلحة النووية. ومن العبث الغريب، أن إسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، ومن دون أن يرف لها جفن، تطرح نفسها أمام دول الشرق الأوسط وأمام العالم، على أنها جزء أساسي من حل مشكلة انتشار السلاح النووي في الشرق الأوسط، وعامل أساسي في منع إنتاجه وتكديسه، متسترة على حقيقة أنها المشكلة الأساسية في هذا المجال، ومصدر القلق والتوتر عبر عشرات السنين.
الآن أصبح واضحا أكثر من أي وقت مضى، أنه من غير الممكن أن يستمر طرف واحد  في منطقة الشرق الأوسط  دون غيره، باحتكار امتلاك السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل وإنتاجها. فإذا وجدت هذه الأسلحة في المنطقة أو جرى إنتاجها، فلن تكون حكرًا على طرف واحد. ومعنى ذلك هو أن وجود ترسانة هائلة من القنابل النووية في إسرائيل، ليس فقط أنه لا يردع الدول الأخرى عن العمل على إنتاج الأسلحة النووية، بل يشكل حقيقة، حافزا يدفعها نحو محاولة الحصول عليها وعلى بدائلها من الأسلحة غير التقليدية.
ليس من المعقول، أن تقوم إسرائيل على مدار سنين طويلة، وبدعم أمريكي شامل، بتطوير أسلحتها النووية، وصواريخ "أريحا" طويلة المدى القادرة على حمل رؤوس نووية، وإجراء تجارب على أطلاقها في المحيط الهندي، وتطوير أنظمة صواريخ "حيتس" (السهم) وتمويلها بالتعاون مع الولايات المتحدة، وامتلاك الغواصات الألمانية القادرة على حمل رؤوس نووية وعلى إطلاقها من قاع البحار، وإجراء مناورات جوية وتدريبات أخيرة إعدادا لمهاجمة إيران، ثم التظاهر بالمفاجأة وملء الفضاء بالصراخ بأنها مهددة، بسبب قيام إيران بتطوير صواريخ " شهاب 3"،  وإصرارها على ممارسة حقها الذي يوفره لها القانون الدولي والتزاماتها الدولية،  بتخصيب اليورانيوم. وأخيرا بات واضحًا، في الشرق الأوسط  أيضا، أن امتلاك القنابل النووية يجر إلى امتلاك القنابل النووية، وإنتاج "الحيتس" يجر إلى إنتاج "الشهاب" وان "مفاعل ديمونا" يجر إلى "مفاعل نتانز".

 

*حين يجري التفكير بـ"رأس نووي"!*

ليس أمرا عابرا أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية منذ إعلان "حربها الإرهابية على الإرهاب"، بكسر طابو خطير في العلاقات الدولية، وبشكل مناقض للقانون الدولي، من خلال إطلاق التهديدات باستعمال الأسلحة النووية مرة أخرى، بعد أن كانت هي الدولة الوحيدة في تاريخ البشرية، التي استعملت هذا السلاح الابادي في هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في نهاية الحرب العالمية الثانية. وليس أمرا عابرا أن تقوم الدولة النووية الأقوى في عالم القطب الواحد، وفي إطار قواعد العلاقات الدولية الجديدة التي تعمل على فرضها على العالم، بالتهديد بضرب أفغانستان والعراق غير النوويتين، بكل أنواع الأسلحة المتوفرة في ترسانتها بما فيها الترسانة النووية، كما أعلن رامسفيلد وزير الحرب السابق في إدارة بوش عشية احتلال أفغانستان وعشية احتلال العراق.
وليس عابرا أن تقوم إدارة الرئيس بوش لاحقا، ويقوم في أعقابها وزراء إسرائيليون،  بتهديد إيران بضربة نووية للقضاء على المشروع النووي الإيراني. وكانت صحف أمريكية وبريطانية متنفذة، نشرت في السنة المنصرمة، تفاصيل خطة أمريكية اسرائيلية مشتركة لضرب المنشآت الإيرانية بالقنابل النووية التكتيكية، لتدمير التحصينات الإيرانية، توطئة لهجوم واسع بهدف القضاء عليها. ان ظاهرة التهديد النووي الفظ، تشكل اختراقا خطيرا للمحرمات التي سادت العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وظاهرة دخيلة على المشهد العالمي، لا نبالغ إذا اعتبرناها إرهابا نوويا يجعل من التهديد بالحسم النووي، جزءا من قواعد اللعبة، ويجعل منه وسيلة للابتزاز السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إن البشرية المتحضرة ليس من مصلحتها الاعتياد على التعايش مع إرهاب الدولة العظمى وطبيعته الامبريالية  وطابعه النووي على ساحة العلاقات الدولية. إن التقاعس عن الإدانة الصارمة لهذه العدوانية الدولية التي أخذت ترفع رأسها منذ بروز عالم القطب الواحد، لا تشكل خطرا على إيران وحدها، ولا على الدول التي تصنفها إدارة بوش في "محور الشر"، بل تشكل خطرا داهما على البشرية كلها.
إن معارضة التهديد النووي لا يمكن أن تكون مسألة انتقائية، ولا يمكن القبول باستمرار تعامل المجتمع الدولي معها بمعايير مزدوجة. إن الدول التي تزود إسرائيل بالوسائل لإطلاق رؤوسها النووية، والتي تزودها بالغواصات القادرة على حمل هذه الرؤوس وإطلاقها من البحر، والتي تمكّن إسرائيل من تطوير صواريخ من صنع هذه الدول نفسها وتقوم بتمويل هذه المشاريع، ثم تغمض عيونها (الثاقبة والساهرة في ا4لحالة الإيرانية مثلا) عن الترسانة النووية الإسرائيلية الهائلة، لا تملك أية مصداقية لإدانة المشروع النووي الإيراني ولا الحق الأدبي في وضع المخططات للقضاء عليه وتدميره. إن اللجوء إلى البعد الأخلاقي والإنساني لتبرير التنسيق مع إسرائيل النووية ذاتها لشن هجوم، من المحتمل أن يكون نوويا، على إيران، هو تصرف غير إنساني ولا أخلاقي. نحن نعارض بناء الترسانات النووية ونطالب بتفكيكها في كل بلد، بما في ذلك في إيران والهند وباكستان، وكوريا الشمالية، وفي الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا والصين وبريطانيا، إلا أن من يريد في الشرق الأوسط، أن يعارض المشروع النووي الإيراني، عليه أن يستمد شرعية معارضته من معارضة الترسانة النووية الإسرائيلية والاعتراض على استمرارها، ومن المطالبة بوضع حد للتواجد النووي في الشرق الأوسط  بما قي ذلك في القواعد العسكرية الأمريكية وعلى متن أساطيلها. إن المصلحة الحقيقية لشعوب المنطقة، وبضمنها في إيران وفي إسرائيل، تتمثل في تحقيق أمنها، ليس من خلال تكديس الأسلحة وبناء الترسانات النووية، بل من خلال نزع هذه الأسلحة وإزالة هذه الترسانات من جميع دول المنطقة بما فيها إيران وإسرائيل.
إن التحدي الرئيسي، أمام قوى السلام الحقيقية، المعنية بتقدم يخدم قضية سلام وأمن الشعوب محليا وعالميا، بشأن الملف النووي الإيراني، يتمثل في معركتها على وقف عملية اختطاف هذا الملف من قبل أمريكا وإسرائيل، وتجييره لخدمة استراتيجياتها العدوانية، من خلال الدعوة المذعورة إلى تدمير المشروع النووي الإيراني عسكريا- لو استطاعت إلى ذلك سبيلا- كمبرر لشن حرب امبريالية جديدة في خليج النفط. ويتمثل التحدي الكبير في قدرة الشعوب على إعادة صياغة المسألة: ليست كمسألة الملف النووي الإيراني! وإنما الملف النووي ككل! ليس فقط المشروع النووي الإيراني الذي تجمع تقارير المخابرات الأمريكية، وروسيا وإيران على أنه مشروع مدني، وإنما أيضا، مسألة أسلحة الدمار الشامل والمشاريع النووية القائمة في الشرق الأوسط والمنشورة فيه، والتي يجري إنتاجها وتطويرها في إسرائيل منذ عقود من الزمن.
إنّها الفرصة أمام جميع المعنيين، على مستوى شعوب المنطقة وعلى مستوى شعوب العالم، ليرتفعوا إلى مستوى التحدي، ويقوموا باستغلال النقاش المكثف حول المشروع النووي الإيراني لفتح الملف النووي في الشرق الأوسط نهائيا على مصراعيه. إنّها الفرصة لأخذ زمام المبادرة من جديد والمطالبة بنزع جميع الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل في المنطقة وفي العالم. إنّها الفرصة لتفعيل ضغط شعبي ورسمي مؤثر لإجبار دول مثل إسرائيل والهند النوويتين مثلا، على الانضمام إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية وفتح ترساناتها النووية للمراقبة الدولية. إن الأسلحة النووية ووفق تفسير محكمة العدل الدولية، ليست شأنا داخليا للدولة التي تمتلكها، بل هي مسألة تخص البشرية كلها. وإذا كان من يعتقد حتى الأمس القريب، أن مسألة السياسة النووية هي مسألة بعيدة عن هموم الناس وقضاياهم، فقد جاءت التطورات في السنوات الأخيرة لتتجاوز هذه العقلية الضيقة وتعرض الخطر النووي كتهديد يومي مرعب وضاغط.
وتتلهى إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة، بالفكرة العبثية القائلة بأن قنبلتها النووية، هي ضمانة لتحقيق السلام ، وأنها في "أيد دمقراطية" وفي خدمة الدمقراطية. ان الهدف من وراء الترويج لهذا الكلام السخيف والذي لا يخلو من الوقاحة، هو مواصلة تضليل العالم ومواصلة خداع الرأي العام الإسرائيلي نفسه. إن إزالة جميع أسلحة الدمار الشامل، وتحرير شعوب الشرق الاوسط من خطر الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية، يجب أن يكون محورا مركزيا في أي حل سلمي، وحجر زاوية في بناء الدمقراطية الحقيقية. إن التهديد الذي تمثله أسلحة الدمار الشامل على أشكالها، هو نقيض للسلام، ونقيض للدمقراطية وتهديد للبشرية وحقوق الإنسان وحريات الشعوب.

* القسم الاخير في اطار المحاضرات التي قدمها مخول خلال جولته في الهند

الصورة (من الارشيف): تظاهرة نظمتها اللجنة من أجل شرق أوسط خال من الاسلحة النووية بمناسبة الذكرى الـ 62 لجريمة قصف هيروشيما

عصام مخول
السبت 12/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع