يحيى يخلف في "ماء السماء"- من الكتب الروائية المؤسِّسَة لرصد المعاناة الفلسطينية



(ماء السماء. رواية للكاتب الفلسطيني يحيى يخلف. إصدار الشروق، 2007، 285 صفحة بالقطع المتوسط)

الأمر المميز في رواية "ماء السماء" أنّنا لا نواجه تلك السوداوية على ماض ذهب ولن يعود، فبالرغم من حجم المأساة التي أُنزلت بهذا الشعب، تجد الكاتب يقف على رجلين ثابتتين، وتلمس ذلك في كل صفحة من الكتاب، وتلمس، كذلك، القدرة على استقراء النفس التي قد تنهار في لحظة وقوع الحدث الجلل، ولكن فيما بعد تستفيق وتنتفض، وتقوم بكل عنفوانها لأن الحياة ترفض أن تتوقف.
من هذه الرحلة الشاقة تنتصب البطولة الفلسطينية في وجه الواقع المر؛ من خروج الرجال في "سمخ"، القرية الفلسطينية الوادعة على شاطئ بحيرة طبريّا، للدفاع عن بلدتهم أمام الهجوم الصهيوني؛ إلى المعرفة الأكيدة، فيما بعد، أن لا مكان لانتظار النجدة من الجيوش العربية؛ إلى الإقامة المؤلمة في العراء، ومن ثم إلى السكن في خِيَم ممزقة دالفة في مخيم لاجئين في إربد.. في كل هذه المفاصل الشاقة والمؤلمة، تجد هؤلاء الأشخاص الذين ينهار عالمهم كل دقيقة، يواجهون الحياة ويتصدون للصعاب.
الصعاب هي الرفيق اليومي لشعب خرج هائماً على وجهه، ابتداء من إيجاد الطعام ومن ثم المأوى وفيما بعد مصدر الرزق.. ويحيى يخلف يفعل ذلك بهدوء وبحزم وبجمالية مؤثرة، أكثر بكثير من آلاف الكلمات التي تصف الدموع والحزن، فأحياناً ينسى الكاتب أن الأحزان والشعور بالضياع تنعكس  في مجموعة من الأفعال، أبلغ بكثير من الأوصاف، لأن فعل الحزن والضياع أقوى بكثير من وصفهما.
قصة اللجوء هي قصة بطولة صامتة، وهي قصة فاجعة، وحين يجعل الكاتب من حياة "الذيب"، كلب العائلة المدلل في سمخ، فاجعة "إنسانية" بكل مقاييس الفاجعة، فهو يفعل ذلك بعمق ورهافة بالغة، تشير مرة أخرى أن هنالك مؤشرات قد تبدو جانبية ولكنها تعكس عمق المأساة. قصة/فاجعة "الذيب" هي من تلك المؤشرات الرهيبة. فالكلب المدلل ابن العز في أيام فلسطين العامرة، لا يجد مكاناً بين أفراد العائلة التي أحبها وكان جزءاً منها، بعد أن تنتقل إلى مخيم إربد، وهكذا يجد نفسه غريباً عن الدار وحين تدور الدوائر نجده قد أصبح كلباً مشردًا عدائياً، وفي النهاية كان لا بد لمطاردي الكلاب الخطرة من وضع السم في طعامه ليزحف في لحظاته الأخيرة نحو البيت الذي جفاه..
تكفي قصة الكلب هذا للدلالة على الأوضاع الرهيبة التي عاشها ليس فقط الشعب الفلسطيني، بل كل من كان جزءاً من الفضاء الفلسطيني، وهكذا الأمر حينما يتحدث الكاتب عن الفرس البيضاء المدللة التي واجهت نفس المصير، حين حُبست في "خان حدو"، بدل أن تنطلق على شاطئ البحيرة  في الفضاء الفلسطيني الرحب.. الفرس المدللة التي لم تمت، بل "فطست" كما تقول "البسّة"، بعد أن كانت تُطعم باللوز والسكر.. النكبة لم تحل بالبشر لقد وصلت الشجر والحجر والحيوان، ومن لدننا، نحن الباقين في وطننا، ممكن إضافة مأساة الأسماء التي وإن بقيت الأماكن فقد تم تغريبها عن الأذن.
"ماء السماء" هي تكثيف لحياة اللاجئ في تخبطه في واقع جديد وفضاء غريب، في تعامله مع الأدوار المختلفة وميادين الحياة المتعددة التي فرضت عليه فرضاً. يحيى يخلف يبتعد هنا عن ذلك "اللاجئ المثل" أو "اللاجئ النموذج"، الذي رسمنا صورته في خيالنا وأدبياتنا، ورفضنا أن نعترف به إنساناً مثلنا، لديه نقاط القوة والضعف مثل كل إنسان. رسمنا له صورة، وأردنا أن يتصرف بموجب النموذج الذي رسمناه في خيالنا، وفي كثير من الأحيان ظلمناه وحمّلناه أكثر مما يستطيع ومما يجب أن يحمل.
في الحياة لا يوجد ذلك اللاجئ المجرد، لأن هذا التجريد موجود فقط لدى من ينظرون إلى الأمور من بعيد. يحيى يخلف يتحدث عن اللاجئ الإنسان، الذي يعيش الحياة بطولها وعرضها، وعملية جعل اللاجئ، دماً ولحماً ورغبات وطموح، هي عملية في غاية الأهمية، فهو إنسان يريد الحياة، يريد أن يتزوج وأن ينجب ويعمل ويلهو.. في "ماء السماء" تعاملنا مع لاجئ إنسان، من دم ولحم، وهذا مفتاح عقلاني لفهم قضية اللجوء بشكل أوضح وإنساني أعمق.
وخلال التشريد واللجوء الطويلين، تتشكل الحياة من جديد، وتتشكل المنظومة الاجتماعية من جديد، وتتغير الأدوار بفظاظة لا يمكن أن يُصوّرها سوى من عاش هذا الواقع، من شخصيات قيادية في مجتمعها وفي دواوينها العامرة، من العز الذي عاشوه، إلى الهبوط المدوي في مكانتهم الاجتماعية، حين يتحول الحاج حسين، في جيله المتقدم، إلى حارس بستان لدى أحد الأغنياء الأردنيين، وحين يُطلب منه في البرد القارس البقاء في الخارج لمراقبة اللصوص.. بكلمات منضبطة وبوصف منحبس، الذي يفوق إثارة عن الكلمات المندلقة بدون حساب، يطرح يحيى يخلف بؤس الحال الذي عاشه اللاجئون.

**

بطل الرواية هو راضي، وهو في جيل المؤلف، الذي هُجّر من سمخ، الواقعة على شاطئ بحيرة طبريا، في الرابعة من عمره، والبطل الآخر هي بدرية التي انتظرت طويلاً زوجها نجيب، مناضلاً خلال النكبة، وفيما بعد محارباً، لا يُعرف عنه شيئاً خلال اللجوء. هاتان الشخصيتان هما التعبير المكثف عن جيل انطلق من بين الأنقاض في أجواء القهر والحرمان، ليشكلا أساس الثورة الفلسطينية، ولذلك هذا الكتاب برأيي هو من الكتب الروائية المؤسِّسَة لرصد المعاناة الفلسطينية في فضاء اللجوء القاسي.
راضي الطفل شهد النكبة، بمراحلها المختلفة، وعايشها وقيّمها من وجهة نظر طفل، وحين فُتحت أمامه الخبايا، فهو يفهمها بشكل آخر ربما لا يمكن أحياناً لبالغ ملاحظتها. فهذا الطفل الموجود على الهامش في حضرة الرجال الوقورين، أو في مجالس النساء المحظورة، يقدم لنا شهادة بريئة وعميقة في التفاصيل الصغيرة عن حالات إنسانية كانت لتبدو طبيعية في ظروف أخرى، بينما في ظروف اللجوء تحمل بعداً درامياً.. يتحدث عن البيت في سمخ، عن الاستحمام في الشاطئ، عن عبث الصبايا في المياه، وفجأة يجد نفسه مطالباً أن يكون بجرأة الرجال الأشداء، حين تطلب منه بدرية أن يرافقها، في الليل الدامس إلى محطة الشرطة بحثاً عن زوجها نجيب.
بعد ذلك نواجه الإشكالات الحياتية التي يواجهها هذا الفتى، ثم الشاب، في الفروق الاجتماعية الهائلة، بين لاجئ وبين عائلات أردنية ميسورة، التي في أحسن الأحوال تنظر للاجئ نظرة الشفقة ونظرة التعاضد مع ضعفاء، لا أكثر.. وهذه الإشكالات تواجه بلورته السياسية، فالواقع أقوى بكثير من الطوباويات التي تحتل الصدور الشابة.. وحين يجد الجد، يجد أن من يريدها شريكة له في الحياة، قد اختارت شريكاً آخر يناسب وضعها الاجتماعي.. ومع ذلك تجد هنا التسليم بالفقدان، فقدان الأمل، وكما يظهر فاللاجئ قد اعتاد على خيبة الأمل في هذه الحياة. 
اتساع أفق هذه الشخصية، وقدرتها على أن تحمل هذا الفهم للواقع، هي المرساة في الرواية، في مواجهة العواصف التي واجهت مجتمع "ماء السماء"، وبالرغم من عدم دخول الكاتب في تفاصيل تطور هذه الشخصية، فقد رافقت هذه الشخصية الرواية بشكل جميل، وانتظرناها لتطل علينا في كل مرحلة لتقول شيئاً ما، مع أننا في مراحل معينة شعرنا أنها خارج الأحداث.. أطلت من بعيد وبسرعة، مرة بعد مرة، وأحياناً فقط لتذكرنا أنها موجودة.
شخصية بدرية برأيي هي الشخصية المركزية في الرواية، ولا يمكن المرور مر الكرام عن هذه الشخصية.
هذه الـ"بدرية"، هي المرأة الفلسطينية الجميلة والمكابرة، تفقد زوجها وهو حي يرزق، وحين تريد أن تحقق هذا الرباط الإنساني العاطفي والجسدي مع شريك في الحياة، تتعثر خطاها، مرة بعد مرة، وتعيش المرارة حتى الثمالة، والكاتب في وصفه لهذه الشخصية، في وصف جبروتها، في وصف شوقها، في وصف شغفها، في وصف ضعفها حين تركض وراء سراب  متجسد بيساري أردني.. ثم في وصف حزنها الجميل حين يعود نجيب بعد عقدين من الزمن محدودب الظهر.. في كل ذلك كان الكاتب أكثر من متألق، وقد تكون بدرية هي تجسيد مكثف لنساء فلسطين الصامدات الصابرات. في بدرية يتجمع كل الضياع والحزن والصبر، بالضبط كما تجمع العدسة الطبية أشعة الشمس لتحدث الاحتراق الكبير.
باعتقادي أن الكاتب استطاع بهذه "البدرية"، إبداع شخصية يفتقدها الأدب الفلسطيني، وقد فعل ذلك برقي وعمق الروائيين العالميين، ولا أبالغ في ذلك، فهذه الرهافة في شرح معاناة هذه المرأة الفلسطينية الشامخة هي أصيلة وخاصة: صبية تتفجر أنوثة وصباً، وشابة منتظرة فارس لا يأتي، وحزينة وقد تقدم بها السن.. منذ زمن لم أجد شخصية كهذه، وعندما أبدعها يحيى يخلف فعل ذلك بجمالية رائعة تستحق الإشادة.. ففي نهاية الأمر فإن قوة الشخصية الروائية ووصولها للعالمية، تتم فقط عندما يكون بإمكان أبناء الثقافات المختلفة أن يتواصلوا مع معاناتها وفرحها وأحاسيسها.

**


الكتاب يتحدث عن الفترة ما بين النكبة وانطلاقة الثورة الفلسطينية في العام 65، حين يعود راضي، الذي درس المحاماة في سوريا، ليحدّث بدرية عن مجلة فلسطينية ، قال لها "عنوان المجلة فلسطيننا.. فلسطيننا نداء الحياة.. تصدر من بيروت ويقف وراءها حركة سياسة جديدة، حركة تحرير وطني فلسطينية، ويشرف على تحرير المجلة رجل دمث ومثقف اسمه خليل الوزير".. ويظهر أن هذه السنوات التي عاشها الشعب الفلسطيني، بدون عنوان وطني، من الناحية السياسية كانت هي الأقسى لأنه لم تكن هنالك قيادة، تشير إلى الطريق، وهذا الأمر من أصعب ما يواجهه شعب في أي ظرف كان، فكم بالحري في سنوات التشرد.. وجيد أنه أنهى الكتاب بهذا التطور الدرامي. 
اسم الكتاب "ماء السماء" هو الاسم الذي أطلقه أبو حامد على الطفلة الرضيع التي وجدها على قارعة الطريق بين طبريا وباب التم،. وهذه الطفلة هي انعكاس للقدرة على النهوض من بين الأنقاض، فمع أيامها الأولى في الحياة خرجت مع ذويها الذين تبنوها، مثلهم، هائمة على وجهها، وصمدت، لتمثل إرادة جيل بكامله.
لا شك أن رواية "ماء السماء" هي إضافة مميزة ومعبرة عن النضال الوطني الفلسطيني. ووجدت نفسي تلقائياً، بعد أن أنهيت قراءة الكتاب خلال وقت قصير، أعرضها على ابني لقراءتها.. إنها من الكتب المؤسسة في الأدب الفلسطيني، وفي صراعنا من أجل نقل روايتنا إلى الأجيال الجديدة: رواية إنسانية ومكافحة، والأهم أنها قادرة أن تخاطب العالم، بحسها الإنساني النضالي الجميل.

عودة بشارات
السبت 12/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع