الدروز بين خيانتين



سلسلة من القضايا أعادت "المسألة الدرزية" إلى التداول في الحيز العام. تداول تجاوز حدود الطائفة إلى موضعها في خارطة "المجموعات" المكوّنة لبيئتها الثقافية والسياسية. ومع اتساع التداول تتعدد القراءات اللافتة وتلك التي تستعيد المكرور من جمل وإنشاءات.  والملفت هو أن القراءات على تعددها لا تخرج عن أنساق تقادمت وشاخت كأن يُحسب كل شيء في ميزان، "الدروز الآن أقرب إلى أمتهم العربية أم لا يزالون في حضن السلطة الإسرائيلية؟". وهو سؤال متعدد السائلين. يسأله الدروز أنفسهم بصيغة "أين نحن الآن؟". وتسأله مجموعة انتمائهم العربية "ألم تتعلموا الدرس بعد كي تقرروا العودة إلى قواعدكم؟" وتسأله السلطة الإسرائيلية: "حتى أنتم يا دروز؟" ـ بعد أحداث البقيعة.  أسئلة ذات قاسم مشترك هو أين هم الدروز الآن؟ وهو سؤال ليس بهذه البساطة. "أين"، هي السياق المكاني مجازا لأن القصد هو موضع الدروز بين الجماعات وفي ظل توازن القوى بينها، أين هم في خارطة التجاذب والتنافر السياسيين محليا وإقليميا، أين هم من الأحداث، وأين هم من ذاتهم الجمعية المفترضة. أما "الآن"، فهي السياق الزمني بمعنى حركة الهوية وجريان تجلياتها باعتبارها محصلة أحداث مصممة ووقائع لا تنفك تتوالد وتؤثّر، وبوصفها متأثرة من شروط الراهن تنعكس فيها وعليها خصائص الثقافة الراهنة. وأهم من هذا وذاك، هو مقومات "الوعي الدرزي" بالواقع والتاريخ اللذين يشكلان استعارة لـ"أين" و"الآن".
صحيح أن الأحداث سيرورة لا تنقطع لكنها ليست مفصلية ولا مصممة للوعي بالدرجة ذاتها. ومن هنا أمكننا أن نشير إلى جملة قضايا تؤشّر على حال الدروز في إسرائيل راهنا. ونبدأ بنضال أهل يركا وجولس وأبو سنان ضد دمجهم في سلطة محلية واحدة كبداية مفترضة سبقتها نضالات أهالي بيت جن ونضال السلطات المحلية الدرزية في التسعينيات. ومع هذا سنفترض نقطة بداية للأحداث في النضال ضد الدمج في القرى المذكورة الذي امتدّ حاليا إلى معركة مشابهة ضد الدمج في قريتي الكرمل. وبينهما أحداث البقيعة التي جاءت اعتداء بوليسيا غبر مبرر على نضال الأهالي ضد حركة الاستيطان اليهودية اليمينية التوسعية في البلدة وضد خطر الهوائيات. وعلى الخط التصاعدي ذاته أتت معركة الأهالي في الكرمل ضد مصادرات الأرض وسياسات التنظيم والتخطيط فيما يخص الخريطة الهيكلية ومشاريع قطرية من المقرر أن تمرّ في أراضي القريتين في شمال ـ غرب مرج ابن عامر. ولا يقلّ أهمية ذاك النضال الذي خاضه قطاع واسع من رجالات الدين الدروز لأجل ضمان تواصلهم مع أهلهم في سوريا وزيارة المواقع المقدسة للدروز هناك. وآخر الأحداث هو نزع ثقة الدروز المعنوية عن السلطة بتغيّب غالبية المدعويين الدروز الساحقة إلى مقام النبي شعيب عليه السلام في حطين حيث رأت مجموعة من النشطاء الدروز أن تحتقل مع رموز الدولة بالعيد الستيني لإسرائيل. ولم تكتف غالبية القوى بالمقاطعة بل اجتمعت لتعمم بيان بهذا الخصوص أكدت فيها عبثية الاحتفال أو المشاركة فيه في ضوء المواجهة المفتوحة بين الطائفة وبين الدولة حول عدد من الملفات لاسيما الأرض وسياسات التخطيط والموارد. وهنا أوضح الإشارات إلى حال وصول علاقة الدروز بالدولة بصيغتها المعهودة إلى طريق مسدود. وانتهت هذه المجموعة إلى اتفاق مواصلة الانتظام والعمل على حماية حقوق الدروز من سياسات السلطة ومبعوثيها وإعادة مَوْضعة الجماعة في إطار رؤية متجددة تعتمد الاستنتاج من عبر التاريخ ومحصلاته.
اللافت في هذه النضالات: أ ـ أنها تستند إلى إجماع شعبي تشارك فيه فئات المواطنين الدروز لا سيما المرأة التي لعبت دورا مركزيا كما في معركتي فكّ الدمج في الجليل والكرمل. ب ـ أن هذه النضالات لم تعد محصورة في تسجيل المواقف بل اعتمدت أساليب عمل منظمة مثل اللجان الشعبية واللوبي والمرافعة القانونية وافترضت أن انتزاع الحقوق لا يتأتى إلا بطول نفس ومثابرة. حققت هذه النضالات بعض إنجازاتها الأمر الذي ساعد الفاعلين على تفكيك مباني القوة وإنتاج الأمل الواقعي بقدرة الناس على مواجهة السلطة وسياساتها باتجاه تغيير واقعهم بما فيه الوضعية القانونية كما في حالة فك الدمج أو الحقوق في الأرض. د ـ لأول مرة منذ مدة يتمّ محاصرة نشطاء الأحزاب من المواطنين الدروز فرأيناهم يمثلون لأول مرة مجموعتهم من خلال عملهم كممثلين لمواطنيهم وليس لأحزابهم. هـ ـ في حالتين واضحتين، يقفز المواطنون الدروز فوق من يُفترض أن يمثلوهم، الرؤساء المنتخبين في السلطات المحلية والمجلس الديني. إذ من الملاحظ أن القيادات الشعبية أو الميدانية لم تعد تقبل بمرجعية الحكم المحلي ولا المجلس الديني فيما يتعلّق بتصريف الحقوق المدنية الفردية والجمعية ولم تعد تراهن على تمثيلها عزة نفس الجماعة في مواجهة التحديات. وبذلك أحدثت الحركة الشعبية فرزا هاما بين قيادات ملتزمة بقضايا المجموعة ضمن رؤية حقوقية مدنية أو قومية مُدركة وبين قيادات، وهي أقلّ شأنا تراهن على ممالأة السلطة وحمل خطابها والدفاع عن كل ما تقول وتفعل. و ـ استقطبت النضالات في أشكالها الأخيرة قوى واسعة في الطائفة بل رأينا انضماما مباركا لقوى "المركز الدرزي" الواسع غير المحسوب على "اليسار" ولا على "اليمين" إلى النضالات والوقوف في رأسها وهو ما لم يحدث إلا نادرا في السابق. هـ ـ ظهرت الشرائح المتدينة باعتبارها ـ روح الجماعة ورمزها ـ كقوة فاعلة في النضالات ولم تعد قوة احتياطية أو مصفاة للغليان والاحتجاج. و ـ عملت الأوساط القيادية لهذه النضالات من خلال أساليب عمل جديدة أبرزها اللوبي البرلماني (كما في حالة فك الدمج في الكرمل) واللجوء إلى المحكمة العليا لتثبيت حقوق أو منع إجحاف سلطوي. ز ـ لم ترتدع قيادات النضالات من التعاون مع مراكز قوى في المجتمع العربي العام مثل أعضاء الكنيست العرب الذين تجنّدوا بإخلاص لدعم هذه النضالات ودفعها هذا فيما كانت قيادات درزية امتنعت عن ذلك في السابق. وعلى الصعيد نفسه تم الاستعانة بخدمات مركز عدالة القانونية والحقوقية (في حال الخريطة الهيكلية لدالية الكرمل وحماية الأرض هناك). وهو ما شكّل موضع ضغط شديد على السلطة وممثليها من دروز وسواهم انعكس في خطاب مكشوف لهؤلاء أو لمسؤولي السلطة المباشرين يشكون التعاون مع المجتمع العربي ومراكز القوى فيه.
هذه السلسلة من المواجهات جاءت في مرحلة يُمكن اعتبارها "مرحلة الطائفة في سؤال". أي مرحلة مراحعة الحسابات. ثلاثة أجيال من المواطنين الدروز خبرت بالتجربة سياسات السلطة وتوصلت في ضوئها إلى قناعات وإدراك أن المسار الذي سار فيه الدروز منذ أربعينيات القرن الماضي بجوار السلطة ثم معها لم يكن في صالح الدروز ولا على أي مستوى لوجودهم. "فلا هم ربحوا في الدنيا ولا هم فازوا بالآخرة". أي أن تلك العلاقة الخاصة التي نشأت بفعل سياسات مركز القوة الإسرائيلي وسلطته، لم تنفعهم في على مستوى المواطنة ولا على مستوى الهوية، لم تنقذ أراضيهم من المصادرة ولم تحفظ لهم كرامتهم الجمعية كمجموعة ذات خصوصية مذهبية.
وللدقّة، علينا أن نشير إلى أننا نقيم وزنا للتاريخ في رصد تحولات العلاقة بين الدروز وبين الدولة. ونقرّ أنها خضعت لمتغيرات، لفترات من الانفراج وأخرى من التوتر إلا أن دالة هذه العلاقة تشير إلى صعود المؤشّر نحو ما خلصنا إليه من الشعور العام لدى الدروز بأنهم خُدعوا وأن السلطة غررت بهم وخذلتهم.
إن مسلسل احتواء السلطة للدروز تم بالتدريج، خطوة تلو خطوة. ففي البداية (أواسط الخمسينيات) كان فرض التجنيد الإجباري وإخضاعهم إلى مفاعيل أتون الصهر الإسرائيلي. ومن ثم (أواسط الستينيات) تمّ فصل معالجة الدولة لشؤونهم إداريا من خلال إحالة شؤونهم من الدوائر العربية إلى دوائر مستقلة تبعه إقامة المحاكم الدينية الدرزية كجسم قضائي مستقل يبت بالأحوال الشخصية. ومن بعدها (أواسط السبعينيات) جاء فصل جهاز التعليم في القرى الدرزية عن الدائرة العربية وتوظيف موارد عامة هائلة لإقامة جهاز تعليم تمّ تدريزه بالكامل، من خلال استبدال المضامين والقوى البشرية في التعليم المنهجي وغير المنهجي. وعلى مدار هذه السنوات عمدت السلطة إلى إستحداث سلسلة من طقوس ومراسيم وأحداث مصممة تؤدي في منتهاها إلى هدفين تثبيت فصل الدروز عن مجموعة انتمائهم العربية وشدهم إلى مركز القوة الإسرائيلي بقوة. فكانت مراسم الاحتفالات بـ"عيد النبي شعيب" الذي صار عيدا رسميا تحتفل به الدولة بعلاقاتها المميزة بالدروز، (توقف منذ العام 1974 عن شكله هذا واتخذ طابعا متواضعا بسبب من مواجهة عنيفة حدثت في ذلك العام في الموقع بين قوى يسارية وطنية ترفض الخدمة العسكرية والسياسات السلطوية وبين قوات الأمن) وتلك التي تكرس لأداء الجنود الدروز قسم الولاء للدولة بحضور جماهيري. هذا فيما تم حذف عيد الفطر السعيد من الروزنامة الدرزية لأنه مشترك لهم ولغيرهم من مسلمين! وقد أفضى كل هذا بالدروز إلى حالة صاروا فيها "مجموعة مهاجرين" لها خصائص هذه المجموعات وسلوكها وكأنهم لم ينوجدوا إلا مع وجود الدولة وبفضلها فقط فالتصقوا بمركز القوة اليهودي يقبعون في ظله يشكلون صدى لصوته أو انعكاسا للونه!
بدت السياسات السلطوية المنهجية في السنوات الأخيرة حاملة لضدها فيما يتعلّق بالدروز. فتأكيدها على خصوصية درزية ترقى إلى مستوى تشكيل هوية مستقلّة أرادوها ضدية للهوية العربية عامة، وفي ضوء تأكيدها على تميز العلاقة بينهم وبين السلطة كانا خلفية لاستحالة فهم  غالبية الدروز لسوء أحوالهم نسبيا في كل ميادين الحياة لاسيما التحصيل العلمي والاقتصادي والتطور والتنمية. فمع استمرار الهجمة السلطوية على الأرض وتدني مستوى الخدمات وغياب التطوير والتصنيع، زادت أسئلة جيلين كاملين من المواطنين الدروز حيال السلطة وحيال تجربتهم التاريخية ونتائجها. لكن، هذا هو شقّ واحد من المعادلة. فبينما حصل للدروز ما حصل على جبهة العلاقة مع مركز القوى الإسرائيلي ومع الغالبية اليهودية، حصل لهم ما حصل في جبهة العلاقة مع مجموعة الانتماء العربية. وهذه مسألة قائمة بحد ذاتها. فلا يختلف عاقلان في أن سياسات مركز القوة اليهودي وقيادات درزية متعاقبة أفضى إلى نوع من الجفاء إذا صحّ التعبير بين الدروز ومجموعة انتمائهم العربية. وتحوّل الجفاء في كثير من الأحيان إلى توتّر وعنف ومواجهات (ملاعب كرة القدم مثلا). وأخطر ما حدث في هذا الباب أن قطاعات في المجتمع العربي هنا أقصت الدروز بوصمهم بـ "الخيانة". ولهذه الخيانة المفترضة من جانب مجموعة الانتماء العربية وجه آخر وهو تصنيف الدروز "عملاء" و"متعاونين" مع السلطة. ولم يقتصر هذا الإقصاء وهذا التصنيف على قلة عربية راديكالية أو أصولية بل تحوّل إلى حديث "علمي" أو "مصارحة" و"مكاشفة" من قوى تعتبر نفسها وطنية! هذا على الرغم من وجود يسار درزي فاعل متواجد في الحيز العام ديمقراطي النزعة عروبي الهوى حفظ جذوة الانتماء وحمل سؤال التاريخ بإخلاص. إلا إن فعله بقي في الظلّ رغم نوعيته وأثره بين الدروز ظل محدودا رغم مثابرته.
عند هذا الحد نشأ وضع إشكالي بالنسبة للدروز في مستوى وجودي وليس في مستوى يومي فحسب. فالسؤال الكبير الذي وجّهوه لمركز القوة اليهودي عن خيانته للدروز وازاه سؤال آخر من العيار نفسه، عن "تخوين" مجموعة الانتماء العربية للدروز! وانضفر السؤالان في اشتباك حميم خاصة أن التطورات على الأرض عمّقت اتجاهين متناقضين. الأول ـ انضمام قطاعات جديدة من الدروز إلى حلقة الإدراك بعقم السياسات الإسرائيلية تجاه الدروز كمواطنين وكجماعة ذات خصوصية وثبوت هشاشة أسطورة "الرابط المصيري" بين الدروز واليهود في هذه الديار على محكّ المواطنة والحقوق. الثاني ـ انضمام المزيد من العرب غير الدروز وبأشكال مختلفة إلى حلقات ودوائر مركز القوة اليهودي (الانتساب الجماهيري لأحزاب صهيونية الانضمام الطوعي المتسارع للخدمة العسكرية أو الأمنية، الانضمام الجماهيري لمواطنين عرب غير دروز للشرطة الجماهيرية (يُقدّر العدد بنحو 7 آلاف عنصر)، انخراط المزيد من العرب في سياسات السلطة وما إلى ذلك). وهذه التطورات تزيد من إرباك الدروز. فهم الذين تحركوا في السنوات الأخيرة، وبعد تجربة قاسية وجوديا خروجا من خانة المحكومين أوتوماتيكيا لمركز القوة السلطوي والإفلات من هيمنته التامة يرون عربا محسوبين على مجموعة تخوينهم يلتحقون بمركز القوة هذا وينضوون تحت تأثير هيمنته ويستبدلونهم في الحلول هناك!    
يقينا أن الدروز تحركوا من موقعهم تحت مظلة الهيمنة الإسرائيلية. فهم ليسوا في الموقع الذي أراده مركز القوة الإسرائيلي. ونستطيع أن نقول أنهم وإن كانوا لا يزالون على مرمى تأثيراته إلا أنهم حرروا أنفسهم من قبضة الهيمنة وإطباق كماشتها ولم يعودوا مختومين بـ "made in Israel". لكنهم في الوقت ذاته لم يعودوا إلى موقعهم ضمن مجموعة انتمائهم الثقافية والتاريخية. الخروج الحاصل الآن كان صعبا وبعد سيرورة قاسية، والعودة أصعب. ولو من باب الصعوبة في العودة إلى مجموعة أقصتك واعتبرتك "خائنا". فهم يقفون بين البقاء حيث هم من شعور بخيانة الدولة والأكثرية اليهودية لهم وبين مجموعة انتمائهم التي تتهمهم بالخيانة. بين أن تكون ضحية خيانة أو مرتكبا لفعل الخيانة ستختار موقع الضحية بالتأكيد! لكن الحياة أكثر تركيبا من أن تكون محصورة بين خيارين اثنين.  فالعودة إلى المجموعة العربية تكاد تكون غير ممكنة لأننا لا نستطيع التحدث عن مسألة هوية جمعية وحركة التاريخ بمصطلحات العودة إلى الوراء، إلى نقطة البداية، أو العودة إلى المكان الذي أتيت منه. فحركة التاريخ باتجاه واحد وإن كانت لولبية، كما أن مجموعة الانتماء المفترضة لم تعد كما كانت. وهي في أقلّ تعديل، تعاني أزمة هوية على مختلف المستويات. فإذا افترضنا أن المجموعة الدرزية سُلخت عن مجموعة انتمائها في زمن انتشاء القومية العربية فإن فكرة العودة إلى مجموعتها تُطرح في ظلّ العهد الإسلاموي والنزعة الأصولية الأمر الذي يتنافى مع خصوصية الدروز الإيمانية ومبادئ مذهبهم الديني الحواري. هذا ناهيك عن أن هذه الموجة من روح الجماعة تكفّر الدروز وتستعديهم وتُقصيهم بعيدا في خانة أعداء الأمة وما إلى ذلك من تعابير عنفية. هذا في مستوى الهُوية الجوّانية. أما في مستوى الهوية الظاهرة، فإنه لن يكون من السهل على الدروز هنا أن يقتربوا من مجموعة انتماء تعاني التفكّك والتداعي في مشاريعها الجامعة في الداخل والخارج على السواء وتتذرر مكونات طائفية وعقائدية وحمائلية وما إلى ذلك.
نرجح أن الدروز سيواصلون في المرحلة المقبلة الابتعاد عن مركز القوة الإسرائيلي. أما موقعهم التالي كما نقرأ من مؤشرات في الخطاب السياسي متعدد المستويات سيكون "الحيز المواطني"، وأنهم سيواجهون مصيرهم من خلال المواطنة واستحقاقاتها ومنظومات الحماية فيها. ويترتب على ذلك أخذ المواطنة بشكل جدي وتطوير خطاب مواطني في مستوى حقوق الأفراد والجماعة. وسيمنحهم هذا الموقع في هذه المرحلة الأمان وبعض التوازن المطلوب بعد أن هزّهم التاريخ. وهم بحاجة إلى هذا الحيز الآن للاشتغال بأوضاعهم وهويتهم ومحصلات ما جرى لهم ومعهم. ومن هنا أهمية أن يدرك الدروز وغير الدروز دقة المرحلة وحساسية الحالة الدرزية. الدولة التي أرادت احتواءهم أبقتهم في خانة "الأقلية" بالنسبة لها وللمجموعة اليهودية صاحبة السيادة هنا. وأعتقد أنها غير قادرة على تغيير هذه المعادلة بسبب من بنيوتها الإشكالية فيما يتعلّق بغير اليهود. لكن سيكون من الخطأ أن تُبقي المجموعة العربية على تعاملها مع الدروز على أنهم "خون" أو أقلية مقصاة أو مشذبا تعلّق عليه أزمات العرب ومشاكلهم وإخفاقاتهم. أخطأت المجموعة العربية لدى "تخوين" الدروز وإقصائهم بشكل نمّ عن قصور في فهم "السلطة" ومبنى القوة ومركز القوة والخصوصية المذهبية، وعليها أن تصلح الخطأ. لكنا نحذّر من مغبّة تلافى الخطأ بالانتقال انقضاضا إلى محاولة احتوائهم أو ضمهم قسرا كجزء من استراتيجيات مواجهة السلطة وسياساتها. أو إلى إذكاء إنشاءات "عروبة الدروز" لفظيا وكفى الله المؤمنين شرّ القتال! فتضطرّ شخصية وطنية درزية مثلا إلى إعلان الحرب على وليد جنبلاط لتستقيم عروبتها أو يضطر شاب جامعي إلى إنكار مكون الدرزية في هويته ليصير عدنانيا أو قحطانيا أو ليتغرّب عن حارته وبلده ويصير وطنيا في كفر ياسيف أو سخنين. الدروز كأفراد وجماعة بحاجة إلى متسع من حرية يستعيدون فيه روحهم وحكمتهم ويردون فيها الاعتبار لذاتهم المجروحة ويراجعون ما حصل على مهل. نعتقد أن اللقاء بالدروز في حيز المواطنة (وليس في حيز الهوية) سيكون أسلم وأكثر مراعاة للمرحلة التي يمرّون فيها. ونشير هنا إلى إننا نعتقد بضرورة تعديل فهمنا لمصطلح الهُوية (وكنا بلغنا نوعا من الشطط فيه كأحزاب وأطر ومجتهدين) على نحو تعترف الهوية الجامعة ـ وهنا القومية العربية ـ بالخصوصيات وتشملها وتتسع لها لا أن تتنكّر لها وتخوّنها أو تشطبها وتسويها بالأرض. وهو ما حصل لمفهوم الهوية الواحدة التي أنكرت الخصوصيات نُشدانا للوحدة بل اعتبرتها عورة ينبغي التستر عليها بطمسها! ومن هنا فإن ما حصل في مساحة العلاقة بين المجتمع العربي هنا وبين المجموعة الدرزية داخله صورة أو حقلا تمثيليا لما حصل لكل المجموعات والأقليات داخل المجتمع العربي عموما في المنطقة. وأمكننا أن نفسّر العلاقة وتحولاتها على هديِ هذه الموضوعة وتفكيكاتها المناهضة للهيمنة والاستئثار اللذين يفرضان الولاء والذوبان والغياب. وجدير بنا أن نستفيد من التجربة الجارية في العالم العربي في هذا الباب. ولربّما يأتي جيل يجترح أفقا أفضل مما استطعناه نحن حتى الآن.

(دالية الكرمل)
marzuqh@gmail.com

مرزوق الحلبي
السبت 12/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع