حول أهمية التاريخ الشفوي الفلسطيني



بمناسبة الذكرى الستين للنكبة الفلسطينية، إهتمت بعض القنوات الفضائية العربية في تصفح الدفاتر الفلسطينية القديمة واستحضارتفاصيل أحداث كثيرة لم تحظ بالتدوين من قبل، واذكرهنا بتقديرما حققته قناة الجزيرة من انجازات مميزة في هذا الخصوص، تتجسد باجراء مقابلات تلفزيونية مع عدد كبير من الفلسطينيين، ممن أسعفتهم الذاكرة وهم في غسق العمر، إشتملت على شهادات حية متنوعة تكشف عن جوانب خفية من حياتهم الاجتماعية قبل النكبة في قراهم ومدنهم، وعن إرهاصات نزوحهم... تحدثوا بكل عفوية عن آلام ومآسي تشردهم في منافي الشتات وهم يلوحون بمفاتيح بيوتهم التي هجروها في عام 1948.
لقيت تلك الشهادات المميزة صدى واسعا على إمتداد الدول العربية لانها أقرب الى الصدق والحقيقة من الرواية الرسمية، يمكن بها الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية... تابعتها باهتمام زائد لما فيها من لوحات جاذبة تركت في أثرا كبيرا، كما سمعت تعليقات كثيرة عنها عبرت عن براعة أداء الحكي الشفاهي البواح فيها... بساطة اللغة والسرد وتتابع الاحداث، والقدرة على شد السامع إلى أحداث قديمة، تبدو أشبه بواقع اليوم المعاش مع انها ليست منه حدثت قبل ستة عقود مضت.
كما أكدت تلك الشهادات في الوقت نفسه على أهمية توثيق التاريخ الشفوي الفلسطيني، بما يتفق مع الرواية الشعبية لحفظ ما تبقى من الذاكرة الجماعية، بجمع الشهادات الشفوية الحية من صدور الرواة ممن تبقى من جيل النكبة قبل ان تضيع مع مرورالزمن، وتدوين كل دلالات ومضامين حياتهم الماضية في فلسطين، بكل ما يتعلق بالتراث والعادات والتقاليد والفولكلور، وجوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ووصف القرى والمدن بكل تفاصيلها الجغرافية، وتتبع سيرالاحداث التي شهدتها الساحة الفلسطينية قبل النكبة، والكشف عن تفاصيل معاناة الحرب والمجازر واقتلاع الشعب الفلسطيني من ارضه وتشريده في مختلف مناطق الشتات.
وهنا ألفت الانتباه الى ان بعض المؤسسات والجامعات الفلسطينية قد اهتمت خلال السنوات الما ضية بالتاريخ الشفوي الفلسطيني، وعقدت مؤتمرات علمية خاصة به  منها مؤتمر "دور التاريخ الشفوي في الحفاظ على الهوية الفلسطينية" الذي نظمته في العام الماضي جامعة القدس المفتوحة بالتعاون مع جمعية الثقافة والفكر الحر في مدينة خان يونس، وتم خلاله التأكيد على ضرورة جمع الشهادات الشفوية من صدور الرواة قبل عجزهم أو موتهم، وانشاء ارشيف وطني للتاريخ الشفوي، وانشاء متحف للذاكرة الفلسطينية.
ولا تفوتني الاشارة ضمن هذا السياق إلى إنجازات مهمة في مجال تدوين التاريخ الشفوي الفلسطيني، حقتتها مواقع على شبكة الانترنت من خلال تجميع قصص وشهادات حية من صدور الرواة ممن عايشوا بداية النكبة، منها على سبيل المثال لا الحصر: موسوعة الدراسات الالكترونية، ومؤسسة الاسوار للتنمية الثقافية والاجتماعية، والمركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات، وارشيف الناصرة التاريخي، وشبكة فلسطين للحوار.
وثمة عمل رائد في هذا المجال يقوم  به المخرج الفلسطيني سعود مهنا منذ عام 1995 في اطار "مركزتسجيل الذاكرةالفلسطينية" الذي اسسه بمفرده، ويعمل من خلاله على إنتاج فيلم وثائقي عن كل قرية ومدينة فلسطينية مدمرة، بمقابلة اهلها الذين هُجّروا منها وتسجيل ادق تفاصيل ذاكرتهم عن المكان والزمان وعذاب الرحيل والشتات، وقد تلمست في عدة مصادر خط سير انجازاته في سلسلة من التنويعات الابداعية المميزة، ووجدت انه على مدى تاريخه السينمائي قد قدم مجموعة من الافلام الوثائقية للتاريخ والاجيال القادمة، معظمها من الذاكرة الفلسطينية غطت الفترة الممتدة من عام  1948 وحتى الآن، كما قدم ثمانية افلام روائية طويلة تسجل معاناة وذاكرة الانسان الفلسطيني آخرها فيلم "رغم الحصار" الذي حصد جائزة في مهرجان القاهرة السينمائي، كما حصدت افلامه الوثائقية جوائز عديدة في فرنسا ومصر وقبرص واليابان، ونال فيلمه (حنين) عن معاناة الاسرى في سجون الاحتلال جائزة في مهرجان الجزيرة للافلام الوثائقية.
هذه المبادرات الفردية تستحق التقدير والدعم معنويا وماديا لأنها تعكس موقفا وطنيا مسؤولا، لكنها بسبب محدودية مواردها المالية ليست كافية لتنفيذ برامج  ضخمة تتسم بالديمومة في مجال توثيق التاريخ الشفوي الفلسطيني الذي ما زال يحبو في خطواته الاولى، ولهذا فان المصلحة الوطنية تقضي بضرورة إنشاء مؤسسة مستقلة  للذاكرة الفلسطينية (غير رسمية) بموارد مالية ضخمة وكوادرعالية الكفاءة، وبرامج مكثفة، تتولى مسؤولية تدوين التاريخ الشفوي الفلسطيني... ُيقدم لها كل أشكال الدعم والاسناد من قبل أغنياء فلسطين الذين لا يقدمون إلا الفتات من ثرواتهم الضخمة، ينفقونها على مشاريع محدودة يسلطون عليها الاضواء بحملات اعلامية منظمة، وعقد اجتماعات مخملية للتحدث عنها في ارقى الفنادق داخل الدول العربية وخارجها، كان الاولى ان تنفق قيمة فواتيرها على توثيق التاريخ الشفوي الفلسطيني  منذ زمن بعيد.
إلى جانب هذا المتحف، من الضروري ان تعمل الجامعات الفلسطينية على انشاء مراكز لديها تعنى بالتاريخ الشفوي الفلسطيني، تعمل كلها بالتعاون مع المتحف في اطار شبكة واسعة من الفروع  تتصل بابناء فلسطين في كافة مناطق تواجدهم، في اطار خطة شاملة ومبرمجة لمقابلة الرواة وتوثيق تجاربهم وشهاداتهم، ووضعها بين أيدي مؤرخين وباحثين في التاريخ الفلسطيني للوصول الى رواية فلسطينية مقابل الرواية الاسرائيلية.
مما لا يختلف فيه  اثنان ان النتائج المرجوة من هذا المشروع الوطني الكبير ستساعد على ترسيخ الوثائق الحقيقية لمختلف اوجه القضية الفلسطينية، ويمكن بعد ترجمتها للغات الاجنبية وتوزيعها عالميا، الرد على ادعاءات ارشيف التاريخ الشفوي الصهيوني، الذي بدأ عدد من المؤرخين الاسرائيليين الجدد (من اهمهم ايلان بابه وتيدي كاتس) بنقده بعد فتحه في ثمانينيات القرن الماضي، ويقول في هذا الشأن أسامه العيسة من القدس: "ينظر باحثون مستقلون الى ان ما قدمه المؤرخون الاسرائيليون الجدد حول النكبة، رغم اية اختلافات وتحفظات وملاحظات، يبقى أفضل بما لا يقاس، مما قدمه باحثون فلسطينيون وعرب حول نفس الموضوع".
المؤلم ان الشعب الفلسطيني لم يسجل حتى الآن رواية تاريخية جماعية كاملة لما حدث قبل وخلال وبعد 1948، المتوفر فقط تاريخ رسمي بعض طروحاته غير متجانسة، بل حتى متضاربة ومتناقضة لا تجسد في كثير من جوانبها المفصلية حقيقة الاحداث، تتعاقب بمختلف أشكال البلاغة الكلامية في سلسلة زمنية (متقطعة أحيانا) مفتقرة الى المصداقية والوضوح، بحاجة إلى إعادة نظر حقيقية لما جاء فيها بتقصي حقائق الشهادات الشفوية الحية ومراجعتها وتحليلها  للرد على الروايات السائدة.

* كاتب فلسطيني يقيم في كندا

د. سميح مسعود
السبت 12/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع