النظرية الماركسية والثورة الاجتماعية



أهم أبواب العلم والفلسفة الماركسية هي نظرية الثورة الاجتماعية (ونقصد بالثورة هي القفزة والانتقال من تشكيلة اجتماعية معينة الى تشكيلة اجتماعية أرقى. فالثورة البرجوازية الفرنسية كانت ثورة حقيقية حيث نقلت المجتمع الفرنسي من التشكيلة الاجتماعية الإقطاعية وحكم الإقطاع، إلى تشكيلة اجتماعية أرقى ألا وهي التشكيلة الاجتماعية البرجوازية وحكم الطبقة البرجوازية، وليست انقلابات عسكرية في هذه الدولة او تلك او نظام استبدادي مرحلي يتغنى بالمثل الاشتراكية وهو أبعد ما يكون عن الشعار المطروح ممارسةً).
الأساس النظري العام الفلسفي للنظرية الماركسية عن الثورة هو الفهم المادي للتاريخ.
فقط ماركس وانجلز، استطاعا ان ينقلا ويفسرا التغيرات الاجتماعية والتطور الاجتماعي والتاريخي على أساس فلسفي مادي جدلي. وبرهنا من خلال دراسات وأبحاث كثيرة نشرت في كتبهم المختلفة من البيان الشيوعي، وضد دوهربنغ وأصل العائلة ورأس المال، بأن إنتاج وتجديد إنتاج الحياة المادية هما أساس الحياة الاجتماعية والعملية التاريخية وأساس الانتقال من تشكيلة اجتماعية الى أخرى أرقى وأعلى تطوراً.
فالتاريخ يتطور بموجب عملية حتمية للتطور المتواصل، المتعاقب للتشكيلات الاجتماعية الاقتصادية. وعملية التطور هذه يحددها في آخر المطاف تطور القوى المنتجة التي يجب أن تتكيف علاقات الإنتاج وعلاقات الملكية حتماً وموضوعياً، حسب مستواها. وهكذا تشكل علاقات الإنتاج البناء التحتي للمجتمع، بينما العلاقات السياسية والحقوقية والثقافية والدين والمؤسسات والأحزاب وأشكال الوعي الجماعي والايدولوجيا البناء الفوقي للمجتمع او للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية المحددة.
والتناقض الموضوعي بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج يؤدي الى تغييرات تراكمية كمية في حياة المجتمع، ومن ثم الى تغييرات جذرية وانعطاف اجتماعي أي ثورة اجتماعية. وهذا التناقض (أي التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج) يشكل الأساس المادي للثورة. وعملية نضوج المقدمات التراكمية للثورة تحدث بشكل تدريجي في أحشاء النظام القديم او التشكيلة الاجتماعية القديمة.
كتب ماركس في مؤلفه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" ما يلي "أي تشكيلة اجتماعية لا تموت قبل ان تتطور جميع القوى المنتجة التي تفسح لها ما يكفي من المجال، ولا تظهر أبداً علاقات إنتاج جديدة أرقى قبل ان تنضج شروط وجودها المادية في قلب المجتمع القديم بالذات". هذه الصياغة الكلاسيكية لجوهر الفهم المادي للتاريخ يؤكد بأن جوهر الثورة الاجتماعية يكمن في حل النزاع بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، وفي الانتقال من نظام اجتماعي اقتصادي إلى نظام آخر وفي أول مؤلفات ماركس وانجلز المشتركة "العائلة المقدسة" صاغا أسس دور الجماهير الشعبية الحاسمة في التاريخ، فالجمهور والشعب الشغيلة ، العمال والفلاحين هم أهم قوى منتجة في المجتمع. وهم الذين يصغون بعملهم جميع الخيرات المادية إنما هم صانعو التاريخ الحقيقيون: "ان الطبقة الثورية نفسها هي من بين جميع أدوات الانتاج أقوى قوة منتجة".  (كتاب العائلة المقدسة ص 45) وفي سياق تطور التاريخ تتعاظم أهمية دور الجماهير الشعبية الحاكم. وهكذا نجد ونرى الدور الحاسم اليوم للجماهير الشعبية في منع الكثير الكثير من القوانين الرجعية في المجتمعات الغربية من خلال نضال طبقي تقوم به نقابات العمال والأحزاب السياسية،اليسارية وكذلك وصول قوى يسارية في الكثير من دول العالم وعلى سبيل المثال فنزويلا وأخيراً انتخاب رئيس شيوعي في قبرص. فالاعتراف بدور الجماهير الشعبية الحاسم في التاريخ يعتبر من أهم موضوعات الفهم المادي للتاريخ.
كتب انجلز عام 1895 يقول: " حيث يكون المقصود تحويل النظام الاجتماعي تحويلاً تاماً، ينبغي على الجماهير بالذات أن تشترك في هذا، ينبغي عليها بالذات ان تدرك الهدف الذي يدور النضال من أجله".
ومع دراسة أساليب الإنتاج المادي وديالكتيك القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج أثبت ماركس وانجلز أن النضال الطبقي هو مصدر التطور، القوة المحركة لجميع المجتمعات المنقسمة الى طبقات. والقوى الاجتماعية هي ذروة وقمة هذا النضال الطبقي في التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية التناحرية. وقد سمى ماركس الثورات الاجتماعية في مؤلفه "النضال الطبقي في فرنسا"، بقاطرات التاريخ وقال انها تجعل مجرى التطور بسرعة عاصفة محدثة قفزة نوعية وانتقال من تشكيلة اجتماعية الى أخرى، أرقى وتطلق القوى الخلاقة الجبارة للجماهير الشعبية.
وعندما بحث ماركس وانجلز في مؤلفهما "الأيديولوجية الألمانية" مسألة المقدمات المادية الضرورية للثورة الاجتماعية أشارا الى انه يجب ان تتوفر له "من جهة قوى منتجة معينة، ومن جهة أخرى نشوء وتكون جمهور ثوري لا يهب ضد بعض أوضاع المجتمع السابق وحسب، بل يهب كذلك ضد "انتاج الحياة" السابق ذاته، ضد النشاط الإجمالي" الذي يقوم عليه هذا الإنتاج..!! وهذه الأفكار وردت بمزيد من التفصيل في "البيان الشيوعي" . فالرأسمالية مرحلة محتمة، ضرورية في تطور البشرية، وتقدمية بالنسبة للإقطاعية، ولكنها مرحلة عابرة تاريخياً، وستخلي المكان لعلاقات اجتماعية أرقى تنظيماً وتطوراً ألا وهو نظام العدالة الاجتماعية ومملكة الحرية على الأرض الاشتراكية الإنسانية. فالمجتمع البرجوازي يخلق قوى منتجة عملاقة، وبهذا أعد هلاكه بالذات وولد حفارة قبره ايضاً أي البروليتاريا- الطبقة العاملة. واليوم النضال بين العمل والرأس مال عام ويجري في كل مكان ويتسم بطابع عالمي، وفي درجة معينة من التطور، تصبح الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج قيوداً للقوى المنتجة، فالصراع بين القوى المنتجة المتطورة والمتنامية وعلاقات الإنتاج البرجوازية، هو أساس الثورة الاجتماعية، أساس الثورة الاشتراكية حيث كما يؤكد ماركس تحول هذه الثورة المجتمع بأسره اذ تقيم الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج الأساسية. وحينها سيتم ضبط الإنتاج الاجتماعي بشكل منهجي لما فيه خير المجتمع بأسره، فكما قال ماركس وهذا يحدث من خلال أعمال جماهيرية واعية، فلا بد من قوة ثورية، قوى اجتماعية، طبقة، عهد إليها التاريخ هذه المهمة الأكثر ثورية وهذه القوة هي الطبقة العاملة، وفي يديها كما يقول ماركس "انبعاث البشرية".
وأكد ماركس وانجلز بأن الحزب الشيوعي هو الطليعة الثورية الواعية للطبقة العاملة، ومنظمها وزعيمها، وقيادة هذا الحزب للطبقة العاملة شرط لا غنى عنه لكي تؤدي الطبقة العاملة رسالتها التاريخية العالمية. وبدون هذا سيستحيل بناء المجتمع الجديد مجتمع العدالة الاجتماعية مجتمع الاشتراكية.
وأكد ماركس بأن عملية الانتقال الثوري هذه وأشكال النضال الثوري له أساليب مختلفة سلمية وغير سلمية وأساليب النضال هذه تحددها الظروف التاريخية الملموسة لهذا المجتمع او ذاك. قال ماركس: "يجب أن نعلن للحكومات، نحن نعرف أنكم قوة مسلحة موجهة ضد البروليتاريا ولسوف نعمل ضدكم بصورة سلمية حيث يكون ذلك ممكناً بالنسبة لنا وبالسلاح حين يصبح هذا ضرورياً". الحياة نفسها وواقع اليوم ، خاصةً في عصرنا عصر العولمة المتوحشة وهيمنة رأس المال المالي والعسكري بددت آمال المدافعين عن الرأسمالية، فالأزمة التي يمر بها نظام رأسمالية الدولة الاحتكارية شملت جميع ميادين المجتمع البرجوازي الاقتصاد والسياسة والثقافة والايدولوجيا، بالإضافة الى تفاقم البطالة، والتضخم المالي، وارتفاع الأسعار، والهزات النقدية المالية وأزمة الطاقة، وأزمة البيئة، وأزمة الديمقراطية البرجوازية ومؤسساتها السياسية، وهذه التناقضات الجدلية الموضوعية والتي يعاني منها المجتمع البرجوازي لا يمكن ان تجد لها الحل إلا من خلال ثورة اجتماعية شعبية واسعة تحدث القفزة النوعية والانتقال الى تشكيلة اجتماعية جديدة، مجتمع العدالة الاجتماعية، مملكة الحرية على الأرض الاشتراكية. فالثورة الاجتماعية ستكون في جميع الظروف وفي جميع الأحوال عاقبة محتمة للعلاقات الاجتماعية والتناقضات الموضوعية الجدلية داخل التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية البرجوازية، وهذه الثورة ستكون حرب سافرة يشنها الفقراء على الأغبياء، لأنها لن تحدث بمعزل عن الأسباب الحقيقية للعوز والفقر والجهل والجريمة، بقيادة الطبقة العاملة وطليعتها الأحزاب الشيوعية. فلا يمكن القضاء على أية عبودية دون القضاء على كل العبودية، وخاصةً عبودية الطبقة العاملة والفلاحين والفقراء وعبودية المرأة.
فتحرر الإنسان الوحيد والممكن عملياً إنما هو التحرر انطلاقاً من مواقع تلك النظرية التي تعلن أن أسمى جوهر للإنسان هو الإنسان نفسه.


* لا يمكن القضاء على أية عبودية دون القضاء على كل العبودية.
* التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج يشكل الأساس المادي للثورة.
*أسمى جوهر للإنسان هو الإنسان نفسه.

 


المراجع:

* البيان الشيوعي
* ماركس انجلز- بصدد الثورة الاشتراكية

د. خليل اندراوس
السبت 12/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع