عقارب



اكتشفت أخيرا أن الأشياء المرقطة في الحياة تبقى خالدة... كالذكريات. لا ذكرى بدون اللون الأسود, حتى لما أتخذت مقعدي الثابت في زاوية الغرفة الصغيرة, لم ترفق بي العقارب وهي تدور وتدور, تفرض عليّ عقوبة الانتظار فأذوب شوقا للغد وما يحمله من ...

 

أتمسك بالثواني وكأني أمسك بلوح ثلج أعرف أنه حتما يذوب وسيقذف بي الى الأعماق, ولا أملك في مساحة الساعة سوى قلم صاح ٍتعوّد أن يهزل بين أصابعي ويختنق.

 

أنا الآن خارج منطقة العقارب المسممة, فقد خرجت بروحي وحيدا احملها وتحمدني على عودتي سالما الى الحياة!

 

لم أنسَ أنني دست بقدميّ ظهرها في يوم ما ورحت أجوب بينها كالراقص المعربد على مسرح الموت, فما الحياة سوى مصدر لا ينتهي بأسرّة النهاية, خيط اسود يمسك الحياة من طرفيها, وعلى الذكي تحويل الخيط الى حرير مشجى بالالوان الأكثر ازدهارا.

 

حكايتي لن تنتهي حيث بدأت. بل هي حكاية الدوائر التي مضت اليها العقارب على مرّ الأزمان, عقرب تلو الآخر وتمتليء الساحة بأشواق وأشواك, الموت وحب الحياة, الأبيض منها والأسود الذي ملأ الوجود...

 

هززتُ جسدي داخل الكرسي وأخذت أطرق باب الانزياح, رأيتُ نفسي أتمسّك بعقرب لا يتحرك, خشيت أن يمضي العمر بلا انجاز فأخذت أشجع القلم البقاء بين أناملي المتعبة المرتجفة أمام عقارب الساعة أمامي.
- هل كبرت؟
سألني القلم وأجبته:
- الأشياء هي التي تكبر وتشيخ!
- الألوان تتبدّل!
أجبته بكل هدوء وكأني انتظر سؤاله:
- أليس المُنتظَر هو الذي يتبدّل؟
لم أسمح باستمرار الحديث, فلم أعد أقوى على تحمل الأسئلة, قتلت الأسئلة بقمة القلم وهو يدوّن دون صراخ لأنه كان ما يزال يحتفظ بهدوئه...

 

سمحت له التجول في ساحة الحياة بحرية لأنه بحاجة للمشاهدة المستمرة, والمشاهدة بحاجة الى تجديد.

 

تطوعت العقارب المعلقة بخرق جدار الصمت الذي داهم سماء الحجرة, استمرت في الدوران, كرسيًّ الهزاز سكنَ مكانه, فكان كمن يدوّن مشاهدة يومية, أو يكتب مسرحية طويلة لا نهاية لها.

 

انتابتني فكرة جنونية, صرخت من بين ردفي الصمت, اهتزت السطور وتدفقت الرعشة بإيجاد الأشياء, صرخت وصرخ قلمي, خنقتهُ وأفلت من يدي بإهمال واضح, وبدا لي عندما سقط في زاوية ما وكأن عقربَا سامَا من عقارب الصحاري انتفض وهرول مسرعا باحثا لنفسه عن ملاذ في جحر معتم :
- أحتاج الى سكين جميل به أقطع شرايين الذكرى!

 

صرخت في أنحاء الليل, نهضت وهززتُ قاصدا الكرسي البارد وكأني أطلب منه الكف عن المشاهدة والبت في الأشياء. لا يستطيع حمل الكارثة الى مكان آخر, ستبقى معه هنا, هو شاهد فقط!

 

ضحكت أمام الشّاهد وأنا أحترق, ضحكت وضحكت بالرغم من أني كنت مسكونا بمواجع الأشياء! وأحمل كثيرا من الجراح!

 

كانت الأشياء مظلمة في الخارج, البلاد غارقة في سبات, غفت على ضفتي النهر السّاكن, تنتظر الصباح كي يعلو ويستيقظ من سباته هو أيضا, جيش من الحوريين والحوريات سوف يستقبله على مشارف الفجر, رأيتهم في منامي ولن أفوت الفرصة على ألا أراهم هذا الفجر بالذات. سأمرّ الى النهر باكرا, حيث يستوطن القديسون والأنبياء. تعلّمت اعتناق لغة الطيور السابحة على النهر الجميل وتدرّبت على فهمها. والأكثر جمالا من ذلك هو سماع تراتيل الطيور الأخرى على الأشجار السامقة. سأخرج لكن حتى بزوغ الشمس سأقوم بحفر المزيد على الأوراق التي تنتظرني بشوق وألم.

 

حملت سكيني الجميل وأسكنته بعض شرياني, تدفق الدم على ذراعي, الألم أعاد اليّ صحوي ووضع الذكرى في مكانها, واستمريت بالكتابة وأنا أنزف. أحبّ هذا النزيف المنبثق من روحي! يأخذني الى قارب الزمن, الى كل الأشياء, وأبدأ أتذكّر الأحداث, حتى اللحظات التي اعتقدتها ميتة.

 

لقد فتحت النار على قلمي وكأني أفتح زجاجة خمر وأثمل, وكشفَ النقاب عن أشياء كثيرة, حوّل السّكون الى صراخ, صراخ متواصل علا أدى الى العقارب الاسراع الهرب بعشراتها, ترتجف الأرض من تحتها, تطلق هديرها المرعب وتنزوي, تركن الأطراف المظلمة, وأنا أمرّ بينها, فارا هاربا, أهرب من هجوم قائم سيبيدني وينهيني.

 

لا أحد يستطيع أن يعبيء مسدسه وأن يطلق على الحياة الرصاص! لم يبقَ في مسدسي سوى رصاصة أخيرة! العالم ذراع مسكون بالخبايا والخيبات, وأنا مُحتاج الى شرايين تنبض ولا تكف عن النبض, والعقارب ما تزال تدور على الحائط , لكنها بطيئة, بطيئة جدا, أريد تحريكها, لكن إن حصل وحركتها سأصاب بالكفر, سأكفر حتما بذاكرة الزمن ...

 

* استراليا

Dina_saleem@hotmail.com

دينا سليم
السبت 12/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع