"إن هذا الشبل...."



بعد خمسة ايام تحل الذكرى السادسة والخمسون لثورة يوليو المصرية، التي لم يبق منها، كما يبدو، سوى اسمها واسم مفجّرها جمال عبد الناصر. عبد الناصر هذا جعل معسكر الاستعمار الغربي "يكنّ" له "كرها اعمى". ودرءا للخطر الذي ادعوا انه يمثله على مصالحهم (واسرائيل هي الاهم في هذه المصالح)، فقد سعوا الى التخلص منه ومن نظامه بأي ثمن وبأسرع ما يمكن.
كيف؟
بفضل العلاقات الحميمة التي كانت تربط جهاز المخابرات الاسرائيلية بدولة المغرب المستقلة حديثا، وعشية قدوم عبد الناصر الى الدار البيضاء لحضور مؤتمر قمة عربية يعقد هناك في 3/1/1961، اقترح شمعون كوركوس، التخلص من هذا الزعيم المزعج.
ومن هو كوركوس هذا؟
هو احد كبار رجال المخابرات الاسرائيلية العاملة في المغرب آنذاك. اما حاليا فهو شمعون كيرن، مقاول اعمال ترابية في منطقة تل ابيب. وقد تمثل اقتراحه في احدى الطرق "الحضارية" التالية:
1) دس قنبلة في السرير الذي سينام فيه عبد الناصر
2) ارسال باقة زهور ملغومة لعبد الناصر، تشمّه قبل ان يشمها
3) تلغيم مكان جلوس عبد الناصر في قاعة المؤتمر، وليأخذ معه من يريد!
وكان كوركوس المذكور، بالاضافة الى عمله المخابراتي، مسؤولا في بلدية الدار البيضاء عن اعمال الصيانة والترميم التابعة للبلدية، وعليه فقد أوكل بأجواء تعديلات على الفيلا التي سيقيم فيها عبد الناصر! سمعتم بالمثل "وكّلوا القرد بمعط الجلد"!!
(راجع كتاب شموئيل سيغف "الحلقة المغربية").
الا ان رئيس الموساد في حينه، ايسر هارئيل، رفض الفكرة رغم كونها "خلاقة"، لا رحمة بخالد وهدى وبالشعب المصري، بل بسبب خوفه على مصير من بقي من اليهود في المغرب.
قبل ذلك، وبعد تولي عبد الناصر رئاسة الجمهورية المصرية بسنتين فقط، جرت عملية "بسيطة" للتخلص منه، اذ شنت اسرائيل "حملتها المقدسة" على مصر. وكعادة اسرائيل، وبسبب خشيتها من ألا "تأتي العتمة على قد يد حراميتها"، فأنها لم تطلق رصاصة واحدة من غير ان تضمن مشاركة بريطانيا وفرنسا في ما بات يعرف بالعدوان الثلاثي عام 1956، وهو العدوان الذي سقط فيه برصاص الجيش الاسرائيلي 49، من اهل كفر قاسم. وما زال هذا دأب اسرائيل اليوم ايضا بالنسبة لعدوان محتمل، تدفعها حماقتها الى ارتكابه ضد ايران. لكني اراهنكم على انها لن تجرؤ على ذلك بدون امريكا، وامريكا في وحلها غاطسة، واحسبوها لوحدكم.
مقابل تلك الكراهية الاستعمارية لعبد الناصر، تمكن هذا الزعيم من احتلال القلوب العربية. لا قلوب مواطنيه الذين رفعوا رؤوسهم فجأة فحسب، بل قلوب مواطني جميع زعماء الهبوط العرب، لقد راحوا يخشونه خشية مميتة، بل راحوا يتفقدون عروستهم كلما كان عبد الناصر يلقي خطابا، ويكثرون من ارتياد المراحيض.
كانوا يهابون سطوته وتأثيره على شعوبهم، ولكنهم كانوا "يهرونه" عناقا وتقبيلا كلما سنحت فرصة لمراضاته. كان ذلك قبل ان تتمكن الانظمة من جعل شعوبها قديمة الوزن.
أسوق هذا الكلام، وأنا اتابع مجريات "المؤتمر الدولي من اجل المتوسط"، وهو والله نسخة معدلة عن مشاريع سبقته بتسميات اخرى" الشرق الاوسط الجديد، الشرق الاوسط الكبير، الدول المطلة على البحر المتوسط، الدولة المطلة على "جهنم تقلعهم"! والمقصود من هذه المؤتمرات جميعا، ترسيخ مكانة اسرائيل كجزء لا يتجزأ من المشهد الطبيعي والجغرافي في هذه المنطقة.
بشار الاسد، بذكائه وسعة افقه، يدرك ذلك، ومع ذلك حضر المؤتمر، وكان الزعيم الابرز على منصة الشرف في احتفال فرنسا بعيدها القومي (الثورة الفرنسية – للمفارقة = من نفس برج الثورة الناصرية، الاولى في 14 تموز والثانية في 23 منه).
والأسد يعي تماما مواصفات هذا العصر الامريكي الصهيوني، الذي يجعل من المقاومة الوطنية للاحتلال ارهابا، ومن الخيانة العربية اعتدالا. ويعرف تماما ما قد تسفر عنه ممانعة بلاده – اذا لم يتكتك – للمشاريع الاستعمارية الحديثة من اجراءات بحق بلاده، ما دامت الشرعية الدولية قطعة مطاط في جيب بوش والزبانية. وبامكان هذه الشرعية توجيه لائحة اتهام من محكمة لاهاي للرئيس السوري مثلا، (كما فعلت مؤخرا مع الرئيس السوداني)، ولو بسبب منع نقيب الفنانين السوريين دخول مطربات الجسد الى سوريا. اذ ستعتبر امريكا ذلك بمثابة قتل جماعي عن طريق هذا الحرمان المميت!!
لقد ظن ساركوزي، الكلب الوفي (للتشبيه لا للاحتقار لا سمح الله) للسياسة الامريكية، ان بعض التربيت على كتف الاسد الشامخ، كفيل بجعله يخرج من عرينه زاحفا، ملفعا بقماشة بيضاء.
واعتقد اولمرت، باعتباره فاهما للعقلية العربية، ان العربي اذا ما "حَسْمسْتَ على ظهره شرع ذيله". ألا يفعل ابناء عمنا ذلك معنا فتكبر رؤوسنا حين يقولون لنا "إيزِه اوخِل طعيم"!!
ساركوزي وأولمرت اعتقدا ان بالامكان ترويض هذا الاسد (بسبب عزلته)، وجعله يرضى بسلام "الهيلمة"، كما رضيت الانظمة العربية طرأ، باستثناء سوريا ولبنان، لقد اخطأ الاسد حين وصف زعماء الاعتلال بـ "انصاف الرجال"، فهم لم يبلغوا هذا المستوى بعد يا دكتور.
قولوا ما شئتم عن النظام السوري، لكن الاسد ما زال يتمسك بشيء افتقدته تلك الانظمة، شيء ليس بذي اهمية، وهو ما يسمى "الكرامة الوطنية"! وهذا ما جعله يتذرع بالشيخ القطري تجنبا لمصافحة ايهود اولمرت. لكن، والحق يقال، فقد كان للقهقهة المصرية وعناقها الطويل "للصديق" الاسرائيلي، فضل توفير الغطاء لتجاهل الاسد، فظلت يد "الهيلمة" ممدودة في الفضاء، وتقولون: لا خير يرجى من انظمة الهبوط!!
سيأخذ عليّ البعض هذا الموقف المعجب بالنظام السوري. معهم حق! من زمان وهم يريدوننا ان نعتبر سوريا مجرد رقم يضاف الى الاصفار العربية (على فكرة، العرب هم الذين اخترعوا الصفر!)، وبهذا تفقد الشعوب الامل ومن ثم يسهل تدجينها وافسادها. وهل لشعب محبط غير الاستسلام!؟
الكثيرون يكرهون النظام السوري "على المسبحة"، ويجاهرون بحبهم واعجابهم بالمقاومة اللبنانية التي ارغمت اسرائيل على عقد صفقة تبادل، تشمل عميد الاسرى العرب سمير القنطار. فكيف يوفقون بين هذين النقيضين من المشاعر؟
ولطالما ردد هذا النفر: "لماذا لا يحارب الاسد من الجولان؟" إذن منطلقاتهم قومية ايضا، في حين ان بطاقات العضوية في الاحزاب الصهيونية بشتى الوانها رابضة في جيوب بعضهم.
ان الحرب وادارتها فن يا هؤلاء. ولها ميادين متنوعة وأساليب مختلفة. وكأني بكم تردون علي: ما بقي الا ان تقول ان تحرير الجولان قد يتم من لبنان! والحق الحق اقول لكم: ربما، إذ كيف تمكنت المقاومة اللبنانية من تحقيق ما حققته؟ أبالاسلحة اليمنية والصومالية والموريتانية؟؟ أبغير وجود ايران وسوريا، كانت تصل الى ما وصلت اليه؟؟ نأخذ الكثير على النظام السوري من عدم اطلاق الحريات والاعتقالات السياسية التي لا تستثني شيوعيا ولا قوميا. لكن كل ذلك "كوم"، والموقف الوطني الممانع "كوم". ولعمري لو ان هذا الاسد تمكن من احتلال قلوب مواطنيه على الاقل، لجعل قادة التهالك يعودون لتفقد ما تقتعده أقفيتهم السمينة القاسية من عروش. لكن هؤلاء القادة الذين كانوا يقبّلون هامة عبد الناصر في العلن، ويخططون لتفجيرها سرا، لا يتورعون، ليس عن مقاطعة النظام السوري وعزله فقط، بل يعمدون الى مهاجمته من كل منابرهم.
ولعل أبرز ما قد تسفر عنه نتائج مؤتمر باريس الاخير، عودة بروز ناصر جديد، يتصدر معركة التحرير العربية. تحرير الارض من الاحتلال، وتحرير الشعوب من الانظمة الهابطة.
وكل تموز وأحرار العالم أحرار..
*ومضة*
كم تمنيتُ عودة الأسيرين الاسرائيليين من لبنان سالمين. لأجل المقاومة اللبنانية وأهلهما...

يوسف فرح
السبت 19/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع