التّناصّ وقُدْرَة النصّ الحداثيّ على التواصل



*قراءة في قصَّة "يسوع يبحثُ عن حوارييه" للكاتب سلمان فرّاج*

 

(القصّة من المجموعة القصصيّة "كلام للبيع" دار الهدى 2003)

 

*نصُّ القصّة*

"كان الحماس يتصبّب لهبًا في عيون الجموع وهم يرجمون الخاطئة.
ذهل يسوع وخاطبهم:
الحقّ أقول لكم، من لم يخطئ فليرمها بحجر.
كما يكون السحر تراخت الأذرع وتداعى اللهيب وتنفست عنها الجموع بلا ضجيج. تقدّم يسوع ولفّ الخاطئة بعباءته...، يقال ستر عُريها، وصارت من الحواريين.
بعد ألفي عام تراءى ليسوع أنه ينظر إلى الجموع: وقف على الجبل وألقى على القاع عينين لاهفتين فَعَلا الضجيج إليه. فض يسوع حزام عباءته وصاح:
- الحقّ أقول لكم... وَهمَّ بالخطاب. تعالى اللهب والغبار إلى القمة فتذكّر صليبه ولفّتْه العاصفة فتمتم:
- لم تأت ساعتي بعد؟!


 
يقولون:
- إنه خلّى صليبه وعاد إلى السماء على جناح من اللهب، ويقال:
- بل هو ما زال يذب  الجموع ويبحث عن حواريه، ويقال أيضًا:
- لقد شُبِّه لهم... لعله أبدًا لم يطأ الأرض منذ صعد إلى السماء".


 
هذه القصّة مأخوذة من مجموعة قصصيّة بعنوان "كلام للبيع"، وقد اشتريتُ الكلام المباع في هذه المجموعة لأنه كلامٌ يعتمد السلاسة في القصّ، الانسياب في اللغّة والتعابير، يتّكئ على التناص لينطلق من ماضٍ سحيق ويصل إلى أيّامنا الحاضرة، لأنه كلامٌ منفتحٌ لم تحاصره الادّعاءات الطائفيّة أو المبدئيّة أو السياسيّة، بل أخذه الواقع الذي نعيشه نحو نظرةٍ جديدةٍ للحياة تختبئ خلف الكلمات وبين الجُمَل.
لأنه كلامٌ يتدرَّج من النصّ القصصيّ الكلاسيكي، ويسير قُدُمًا نحو نصوص "الحداثة" شكلاً ومبنى.
لأنّه كلامٌ مُكَثّفٌ، منتخبٌ يوصِل فكرةً تخِز واقعنا المتألم الرّازح تحت أعبائنا، أعباء معتقداتنا وأفكارنا وتصرّفاتنا..
ولأنَّه كلامٌ كتبه إنسان صاحبُ نظرة مختلفة وذوقٍ أدبّيٍ رفيعٍ عميقٍ وجادّ.

 

*العنوان: يسوع يبحث عن حوارييه*

يُعطينا العنوان الشخصيّة (يسوع) والحَدث (البحث عن الحواريين)، إذًا العنوان تلميحيٌّ، يلمِّح للحدث المركزي في القصّة ويضع البؤرة على الشخصيّة الفاعلة في النصّ.
العنوان فيه إحالة للتناصِّ الديني، وهذا التناص الذي يسمّيه "باختين" :"التفاعل السوسيو لفظي"، ويُقصَدُ به حضور نصٍّ في آخر، ويمكن أنْ نمثّل لذلك بما يبديه العنوان من عودةٍ نحو "العهد الجديد" وقصّة يسوع الذي أخذ يبحث عن تلاميذه، رسلهِ، حوارييه ليكملوا دعوته بعده، لأنّه كان على علمٍ بمصيره منذ البداية. وقد اختار له اثني عشر تلميذا معتبرًا إيّاهم ملح الأرض؛ لأنّهم سيتغلغلون بين الناّس ناشرين دعوته كما يتغلغل الملح بين ذرّات التراب (إنجيل متى 13/5) مكملين مسيرة المنقذ الذي صُلِبَ من أجل مغفرة الخطايا.
واستخدام الفعل في الزمن المضارع – الحاضر، رغم أنّ المسيح مات قبل حوالي ألفي عام، يفتح أمامنا باب التّساؤل: لماذا يبحث عن حوارييه وقد وجدهم قديما؟ ولماذا يبحث الآن، وقد أدّى مهمّته قبل ألفي سنة؟؟ إذًا النصّ يقوم على استيحاء التراث الديني من أجل توظيفه لتغيير الواقع الحاضر.
الأنبياء عبر التاريخ أتوا لإصلاح العالم، والرسل والتلاميذ هم الذين أكملوا المسيرة بعد موت الأنبياء، ويسوع يبحث عن حوارييه في إشارة إلى العالم الذي يستشري فيه الفساد، العالم الذي لم يقوَ كلّ الأنبياء على إصلاحه، العالم الذي لم يفقد الرّاوي الأمل في إمكانية إصلاحه، وبهذا يشكّلُ  العنوان مدخلا إلى لبّ النّصِّ وإضاءة لِما يكتنفه الفحوى من غموض وأبعاد[1]!
كلّ الدّلالات في العنوان تعطينا مؤشرًا لعمليّة لم تنتهِ، بدأتْ في الزمن الماضي وما زالت مستمرّة حتى يومنا هذا والاحتمالات كثيرةٌ، والعنوان يدعونا للقراءة ولاكتشاف هدف النّصّ.

 

*النـص*

النصّ مكثّفٌ، ورغم قصرهِ فهو يُقْسَم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: عبارة عن تناص تامّ مع قصّة الخاطئة المأخوذة من الإنجيل.
القسم الثاني: فيه تراوح زمني، ويحدث بعد ألفي عام.
القسم الثالث: الأقوال والادّعاءات على ما حصل، وعلى عودة يسوع.

 

*تحليل القسم الأول*

يقوم هذا المقطع على "تناص التجلّي" فهو تناصٌ واعٍ، يلجأ إليه الراوي بعد أنْ يمنحه رؤيته الخاصّة، والتناص الوارد هنا لم يقم على أخذ عبارةٍ من نصّ، أو أخذ كلمةٍ أو بيت شعر، إنّما استحضر الراوي نموذجًا، استحضر قصّةً من الإنجيل من أجل توظيفها فَنيًّا و فكريًّا، الراوي لم يقتبس النص بلغته الأصليّة، فالتناص هنا غير مباشر، إنّه تناصّ الأفكار الذي يقوم على الاستنتاج والاستنباط، إنّه المقروء الثقافي أو الذاكرة التاريخيّة التي تستحضر تناصاتها بروحها أو بمعناها لا بحَرْفيتها ولغتها وتُفهَم من تلميحات النص وإيماءاته وترميزاته[2] . ذلك لأنّ النصّ الشرعيّ مهما كان ليس وليد ذاته إلاّ من خلال الرؤية الفكريّة والجماليّة والتوظيف البلاغي البياني الذي يمكن أن يمارسه النص الجديد أو ينشئ ذاته من خلاله، ولعلّ وظيفة التناصّ الأساسيّة تكمن في الوظيفة التي يقوم بها .. ليخدم هدفًا ويقوم بمهمة سياقية يثري من خلالها النصّ ويمنحه عمقًا ويشحنه بطاقة رمزيّة لا حدود لها، ويكون بؤرة مشعّة لجملة من الإيحاءات تتعدَّدُ فيها الأصوات والقراءات[3].

 

*التّناص مع قصّة الخاطئة- إنجيل يوحنّا 1:8 / 11:1*

"أمّا يسوع فمضى إلى جبل الزيتون ثمّ حضر إلى الهيكل في الصبح، وجاء إليه جميع الشعب فجلس يعلّمهم وقدّم إليه الكتبة والفريسيّون امرأة أُمْسِكَت في زنًا، ولمّا أقاموها في الوسط، قالوا له :"يا معلّم، هذه المرأة أُمسكت وهي تزني في ذات الفعل وموسى في الناموس أوصانا أنّ مثل هذه تُرْجَمُ.
فماذا تقول أنت؟"
قالوا هذا ليجرّبوه، لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه. وأمّا يسوع فانحنى إلى أسفل وكان يكتب بإصبعه على الأرض ولمّا استمرّوا يسألونه، انتصب وقال لهم:
"من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها"[4]
وهنا نعود لنصّنا، وللمقدّمة الموجزة المُكَثَّفة التي تبدأ زمنيًّا بالفعل الماضي الناقص (بعد أن كان الفعل في العنوان مضارعًا) وهذا يدعونا أن نتوقّعَ علاقةً ما بين الماضي والحاضر.
نلاحظ الانزياح اللّغوي في الجملة الأولى، "الحماس يتصَّببُ لهبًا" فاللهب لا يتصبَّبُ، وهذا المجاز اللغوي أتى ليُكثِّف جمالية المشهد وليؤكّد أنّ الحماسَ مشتعلٌ، فاللهب في العيون يعني أنّ العيونَ محمرّةٌ غاضبة، الغضبُ الشّديد يلفُّ الجموع، وإذا كان العمل الأدبي فعالية لفظيّة بامتياز[5]، فإنّ أهمّ ما يميّز هذا النّصّ المكثّف هو هذه الأسلوبيّة السّردية التي تحرف المفردة عن دلالاتها المعجميّة. فيُشكّل النّصّ لغة خاصة يبتعد استعمالها عن طريقة الاستعمال المعروفة، وبقدر هذا الانزياح تكون الإثارة اللغويّة ويكون الانتقال إلى حقل رؤية جديدة ينتج عنها علاقة حوارية على مستوى النّص[6].
وكلمة "جموع" استُعْمِلَت بكثرة في الإنجيل، ومنها يعمّم الرّاوي الحدث ويتدرّج ممهّدًا لنا الطريق لإخبارنا سبب غضب الجموع وهو: الخطيئة.
ونحن نعرف من "إنجيل يوحنا" بأنّ يسوع وُضِعَ في التجربة ليقارَن بين قوانينه وقوانين النبي موسى، إذًا، قصّة الخاطئة كانت امتحانًا، فإذا سامحها يسوع ارتكب معصيّةً، عصى أوامر موسى وعليه أنْ يُعاقَب .. إلاّ أنّ يسوع قال لهم الحقّ، "من لم يُخطئ فليرمها بحجر".
ويقول الراوي في نصّنا بأنَّ يسوع ذُهل من تنفيذهم لحُكم الناموس، في إشارة إلى وقوعهم في الخطيئة، فهم ينفّذون حكم النّاموس في غيرهم، ولا ينفّذون حكم النّاموس المطلوب منهم. إنَّ هذا الذّهول الذي أبداه الرّاوي واصفا موقف يسوع منهم، يحمل السّخرية من الموقف، من التّناقض بين ما تؤمن هذه الجموع وما تفعل، بحقّ غيرها.
وهنا يتدخّل الراوي ليُكمل الحكاية عن طريق الوصف الخيالي فيتخيّلُ أنّ كلمة يسوع فَعَلَت فعلها كالسِّحر، "فتراخت الأذرع وتداعى اللهيب وتنفّسَت عنها الجموع بلا ضجيج". هذا السِّحر أتى من المواجهة، مواجهة الإنسان مع ذاته، محاسبة الإنسان لنفسه، قبل محاسبة الآخرين، من ظهور الحقّ الضّائع الذي لم يتعوّد الرّاجمون على سماعه.
ثمَّ نرى الراوي ينتقل من التناصّ الدينيّ إلى الذاكرة التاريخيّة فيستوحي " العباءة" من تراثنا، ويتخيّلُ أنَّ يسوع لفّ الخاطئة بعباءَته، ويؤكّد على هذا الاستيحاء بقولنا المشهور "ستر عريها" أي أنّه ستر فضيحتها .
وفي مشهد العباءة إحالة دينيّة إلى القرآن، " وإذا ابتليتم فاستتروا فهذا خيرٌ لكم ولعلّكم تعقلون".
ومن السّرد للمعلوم، ينتقل في نفس الجملة إلى السّرد للمجهول ( يُقالُ)، هذا الانتقال بقدر ما فيه من راوٍ يقف على الحياد، نجد فيه راويا يتدخّلُ، فهو من جهةٍ لا يدري ماذا جرى بعد أنْ رحلت الجموع، وذلك منطقيّ لأنّه لم يكن موجودا آنذاك، وبما أنّ الإنجيل لم يذكر ماذا حلّ ، فقد اختار الرّاوي أنْ يُنبئنا بأنّ هذه الأحداث غير المؤرّخة تكثر فيها الأقاويل والشّائعات، تمهيدا لنهاية القصّة، وبأنّ ما فعله يسوع، هو ما نفعله نحن الآن بمفهوم ستر الفضيحة.
يختم المقطع الأوّل بمفاجأة مفادها أنّ تلك الخاطئة التي نجتْ من براثن الرّجم  أصبحتْ من الحواريين، أصبحتْ من أتباع المسيح ودُعاته.
فقد قال المسيح: "أنا لم آت لأدعو أصحّاء إلى التّوبة بل خَطَاَة". ونهاية المقطع تُرجعنا مرّة أخرى إلى العنوان، فيسوع يبحث عن حوارييه، وكأنّه يقول: يسوع يبحث عن أولئك الخطاة الذين تابوا واتّبعوه، يبحث عن التّائبين عن الخطيئة في هذا العالم.
إذًا الموتيف الذي يقوم عليه النّص هو موتيف الخطيئة، وهو مفتاح النّصّ الذي يساعدنا على تخطّي عتبة السّطور إلى ما وراء السّطور. فالكلّ خطاة، إذْ لم ينفّذوا حكم النّاموس في الزّانية بعد سماعهم ما قاله يسوع: " مَنْ كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر".
والازدواجيّة في تحوُّل الخاطئة إلى حواريّة، تقول فيما وراء السّطور، بأنّ التّوبة واردة، وبأنّ الخطيئة يُمكن أنْ تُغفر، وبأنّ يسوع - حسب العنوان -  يبحث عن تائبين.
النّصّ يقوم على المقابلة [Antithesis)[7)، على وجود شريحة اجتماعيّة خاطئة، وشريحة مفقودة تائبة يتمّ البحث عنها.
اختيار الرّاوي لهذه الخطيئة دون غيرها من المحرّمات له دلالات وأبعاد:

 

- في إشارة إلى ناموس موسى والوصايا العشر (لا تسرق، لا تكذب، لاتزنِ، لا تشهد شهادة زور، لا تشته امرأة قريبك...) فالسّرقة خطيئة، والكذب خطيئة لكن الزّنا خطيئة جسديّة، رغبة، نزوة، شهوة، عاطفة، والتّحكم بنزوات الجسد هو الجهاد الأكبر كما قال الرّسول (صلعم): "الجهاد الأكبر هو جهاد النّفس".
- هذه الخطيئة شاملةٌ، تحمل في طيّاتها كلّ الخطايا الواردة في الوصايا العشر، فهي سرقةٌ وكذبٌ، هي اشتهاءٌ لنساء الغير وشهادة زورٍ بحقّ العلاقات العائليّة، هي قتلٌ للنّفسٍ وللعائلة وللمجتمع.
- هذه الخطيئة مميتةٌ، والخطايا أنواعٌ، فالمميتة هي تلك الخطيئة التي نرتكبها ونحن نعرف مسبقا بأنّها خطيئة وسنعاقب عليها يوم الحساب.
- قصّة الخطيئة كما وردتْ في الإنجيل أعطتْ صورة الشّموليّة، فالكل مرتكبٌ لخطيئةٍ ما، ولا يحقّ لأحدٍ أنْ يحاسب غيره، وأنْ يأخذ بذلك دور الله تعالى. أو أنْ يبرّئ نفسه عن طريق إدانة الغير، لينفّذ حكم النّاموس.
- عبرةٌ القصّة أنْ ينفّذ الإنسان حكم النّاموس على نفسه أوّلا ثمّ ينتقل للآخرين، فالتّطهير يبدأ من الأنا نحو الغير.
- مفاد القصّة في ما وراء السّطور بأنّ الله غفور رحيم، وبأنه يمكن التّوبة حتى عن أصعب الخطايا، لذلك الأمل قائم في البحث عن الحواريين.

 

*المقطع الثّاني*

يبدأ المقطع بتراوح زمنيّ كبير، فينتقل من الحدث التاريخي الدّيني إلى ألفَي عام بعد الحدَث. إلاّ أنّ الأفعال تبقى في الزّمن الماضي، فالحَدَث كان وانتهى.
المقطع الأوّل قائم على أساس الوصف الخيالي الإبداعي مِن مخيّلة الرّاوي، هذا الوصف الذي بناه بناءً على مشاهدات الحاضر وأحداث دينيّة ماضية أُرّختْ في الكتب المقدّسة، إمكانية حدوثها واردة وقائمة في كلّ مكان وفي كلّ زمان، أمّا هنا فنرى مشهدًا مزدوَجًا يتّحد فيه الرّاوي مع شخصيّة يسوع المسترْجَعَة من عمق التّاريخ، فالمشهد يمكن أنْ يتراءى في مخيّلةِ كلٍّ من الرّاوي و يسوع  .." تراءى ليسوع أنّه ينظر إلى الجموع"، يسوع ينظر من عليائه إلى القاع مرّة أخرى بعد ألفي عام، ليرى إنْ كان صَلْبَه وعذابه قد أنقذَ الدّنيا من الخطايا، أمْ أنّ النبوءة ستحقّق نفسها " فتؤلّف ولا تؤلّفان"؟؟؟؟ ربّما هذه الألفيّة الثّانية تحلّ معضلة السّؤال الذي يلحّ على القارئ: لماذا انتظر يسوع كلّ هذه المدّة ليعود ويتفقّد الأحوال؟
هذه المخيّلة المزدوَجة التي أخذت المشهد من فم الرّاوي وأكملته على لسان يسوع، تضع الرّاوي موقف الحياد، وكأنّه لا علاقة له بأولئك الخطاة، ككلّ فردٍ منّا لا يمكنه أنْ يعتبر نفسه من المخطئين، ولا يمكنه إصلاح العالم وحده، فينتظر الخلاص من الله. هذه المخيّلة المزدوجة فيها إقرار خفيٌّ بضعف الإنسان، بإيمانه بقدرة الله، بخوفه من يوم الحساب، بتنزيه نفسه من الخطيئة، وبوضع اللوم على الآخرين فيما تؤول إليه الدّنيا من فسادٍ.
وكما حدث في النّصّ الإنجيلي الأصلي حدثَ في قصّتنا: "وقف يسوع على الجبل وألقى على القاع عينين لاهفتين"، كلمة القاع تحمل بُعدًا معنويًّا رمزيًّا، فهذه الجموع ما زالت عالقة في القاع، في الحضيض وفي الخطيئة.
نظر إليهم يسوع بعينين لاهفتين، هذه الصّفة تحمل اللهفة والشّوق للقاء النتائج المرجوّة، اللهفة لرؤية نتيجةٍ إيجابيّة للتّضحية التي قدّمها يسوع للبشريّة من أجل خلاصها قبل ألفي عام، اللهفة مزدوَجةٌ تنطلق من عينيْن اثنتيْن، وكان من الممكن أنْ تنطلق اللهفة من القلب (بقلب لاهف)، لكنّها باديةٌ للعيان، واضحةٌ، مزدوجَةٌ فيها الرؤية وفيها الرّؤيا.
الازدواجيّة في النّصّ ليست صدفة، فالرّاوي يتناوب مع الشّخصيّة المركزيّة، العينان لاهفتان، ألفا عام، الخطيئة تتناوب بين الخفاء والظّهور، بين المعاقِب والمعاقََبِ، وكأنّ الازدواجيّة هي التي تحتلّ تصرّفاتنا وأعمالنا.
يتلهّف يسوع ليرى الجموع، فيسمع الضّجيج، تبادل الحواس مؤشّرٌ لعدم تحقّق الرؤية والرؤيا، فبدل أنْ يرى يسمع، وكأنّ مجال الرّؤية محدود، وكأنّ الغبار يلفّ المكان، وكأنّ الرؤية غير واضحة وذلك لأنّ الرؤيا لم تتحقّق، النّبوءة لم تؤدِّ واجبها، والتّضحية لم تأتِ بنتيجتها المرجوّة. هذا الضّجيج الذي سمعناه في المقطع الأوّل وقت رجم الزّانية، الضّجيج الذي خمد بعد أنْ تخلّص يسوع بذكاء من سؤال الرّاجمين وحوّلهم بلحظةٍ من بريئين إلى خطاة، نفس الضّجيج نسمعه في المقطع الثّاني، دلالة على أنّ الأوضاع لم تتغيّر، وما كان من يسوع إلاّ أنْ فضّ حزام عباءته، يريد أنْ يستر الخطيئة مرّة ثانية، (وكأنّ النّصّ يقول في ما بين السّطور بأنّ ستر الجريمة لا يلغي وجودها ولا يمنع حدوثها مرّة ثانية)، مرّة أخرى وبعد ألفي عام، الخطايا ما زالت قائمة وحُكم النّاموس ما زال قائما ويسوع يريد أنْ يستر خطايا العالم مرّة ثانية، أنْ يمنحهم فرصة للتوبة وأنْ يُصلب "ويُسفك دمه عن كثيرين لمغفرة الخطايا" يسوع هذه المرّة لم يُسأل ولم يُجب، إنّما صاح ليُسمع من كثرة اللغط والضّجيج، أراد أنْ يقول لهم الحقّ: "الحقّ أقول لكم" لكنّه لم يتابع، لم يقل قول الحقّ فلا أحد يسمع الحقّ ولا أحد يريد أنْ يسمعه.
تعالى اللهب (الغضب) والغبار(الرّجم) إلى القمة، لا توجد خاطئة بل خطاة، والخطيئة كبيرة، وصل الغبار أعلى القمّة إلى أعلى المستويات. فتذكّر يسوع صليبه، عذابه وآلامه، رمز الفداء، فقد فدى نفسه لأجل إنقاذ البشريّة، لأجل خلاص البشريّة، هل عليه أنْ يجرع كأس المرّ مرّتيْن من أجل الخلاص؟ هل عليه أنْ يُصلب مرّتيْن؟ هل في هذه الذّكرى إشارة للمسيح المنتظر، للمهدي المنتظَر؟؟؟
وكأنّ الغبار والضجيج شكّلا عاصفة، حوّامةً، تعالت ولفّتْ يسوع الذي تحوّل صراخه وصياحه إلى تمتمة، من حوار( ديالوج) غير مسموع، أحادي الجانب، إلى حوار داخلي (مونولوج). للمرّة الأولى في النّص تنقلب الازدواجيّة إلى أحادية فرديّة، ينقلب اليقين الذي تميّزت فيه إجابة يسوع في المقطع الأوّل إلى شكٍّ، إلى سؤال: "ألم تأتِ ساعتي بعد؟!"
سؤالٌ يحمل معنى عميقا، فحال الدنيا لم تتغيّر منذ ألفي سنة، تعاقب الأنبياء على الأرض، ولم تنتهِ الخطايا، فهل مجيء نبي آخر سيكون هو الحلّ؟
المقطع الثّاني ينتهي بسؤال يحثّ القارئ على البحث عن إجابة، سؤال يحوّل القارئ من متلقٍّ سلبي إلى عنصر فاعل، إلى مشاركٍ في عمليّة الكتابة.
النّصّ لا يعطي إجابة، فالواقع أصعب من أنْ يجد له الرّاوي إجابة، لذلك يتحوّل التّصّ من نصّ مغلقٍ، واضحٍ، إلى نصِّ سؤالٍ باحثٍ عن إجابة.
نراه في هذا المقطع يكثّف الصّور الحركيّة عن طريق تواتر الأفعال (تراءى، وقف، ألقى، علا، فضّ، صاحَ)، وبذلك يهشّم ويهمّش الحبكة القصصيّة، ويستعيض عنها بالموتيف ليربط بين أجزاء وفقرات النّصّ.

 

*المقطع الأخير*

الحدَث قد انتهى. الشّخصيّة المركزيّة تركت النّصّ بتساؤل وخيبةِ أملٍ. وقد انتهى دورها هنا.
الزّمن هو الوقت الحاضر.
كان بالإمكان أنْ ينتهي النّص في الفقرة السّابقة، فلماذا هذه الخاتمة؟
هذه الخاتمة أتت لتوضّح الاختلاف الموجود في العالم، التناقض والتّضاد، اختلاف الآراء حول مجيء المسيح وعدم مجيئه، الحوار حول الأمور الدّينيّة، وليس حول المأساة الحقيقيّة التي يرتكبها المتسائلون.
إذًا هذه الخاتمة بمثابة تعليق، وهذا التّعليق كان قد مهّد له الرّاوي في المقطع الثّاني، هذه التعليقات لم  تغلِقْ النّصّ، لم تعطِ الإجابات المتوقّّعة، إنّما أكدّت على التوتّر والقلق وعدم الثّبات، على عدم وجود إجابة واحدة، وعلى انفتاح الاحتمالات، فالنّصّ الحداثيّ هو نصّ السّؤال، هو النّصّ المفتوح على عدّة تأويلات حسب ثقافة القارئ وميوله، ينسج القارئ في النّسيج النّصّي متمسّكا بخيوط النّصّ، مشاركا في عمليّة الكتابة ، إلاّ أنّ الرّاوي قرّر المساعدة فوضع الاحتمالات على لسان النّاس.
الادّعاء الأوّل: "إنّه خلّى صليبه وعاد إلى السّماء على جناحٍ من لهب".
أي انّه ترك صليبه، رمز الخلاص والفداء والتّضحية، وقرّر ألاّ يضحّي بنفسه مرّة أخرى لأجل خطاة لا يتوبون،  ندم على تضحيته وقرّر عدم معاودتها، لذلك عاد إلى السّماء على جناحٍ من اللهب، وكلمة اللهب التي اتّسمتْ بها الجموع في المقدّمة انتقلت الآن إلى يسوع، فالغضب العارم الذي اجتاح الجموع بسبب خطيئة الزّانية، اجتاح الآن يسوع بسبب خطايا العالم، هذه المقابلة بين الخطيئة والغضب واللهب، تضع الكلّ في منزلة الزّناة من جهة، لكنّها في المقابل تضعهم ليكونوا في إمكانية التّوبة وليصبحوا من الحواريين. لكن أنْ يتخلّى يسوع عن صليبه، فيها فقدان لآخِر بصيص أمل.
المقولة الثّانية: "يقال بأنّه ما زال يذبّ الجموع ويبحث عن حوارييه".
عودةٌ إلى العنوان في هذه المقولة، فيسوع ما زال عنده الأمل بخلاص هذا العالم من الخطيئة، فهو ما زال يبحث عن حوارييه، عن خاطئين تائبين لينشروا دعوته وليكملوا مسيرة خلاص البشريّة.
تلمع في هذه  المقولة بارقة أمل، فيسوع لن ييأس تماما من إمكانيّة إصلاح العالم، فها هو يذب الجموع الخطأة، بحثا عن حواريين.
أمّا المقولة الثّالثة فتقول: "لقد شبّه لهم.. لعلّه أبدًا لم يطأ الأرض منذ صعد إلى السّماء".
 في النّهاية نجد تناصّا دينيّا ثالثا (بعد الإنجيل والتوراة)، نجد تناصّا من القرآن الكريم، من الآية الكريمة "ما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم". 
الرّاوي يفتح النّص على تأويلات عديدة ويعطيه أبعادًا عامّة، فالخطيئة شاملة لم تحدّد فئة دون غيرها، والحَدَثُ أصبح في عدم اليقين، في الشّكِّ، فربّما لم يُقتلْ ولم يُصلبْ، وبهذا لم يفدِ البشريّة وبقيت الخطيئة مستشرية في العالم، بل وربّما شُبّه للبشر بأنّ الأنبياء سيطهّرون الأرض من الخطيئة، لكن لا مفرّ.
النهاية مفتوحة وفيها تداعيات لمقولة المسيح المنتظَر، المهدي المنتظر الذي سيأتي لخلاص البشريّة، لكنّ الوقت لم يحن بعد، فيسوع منذ صعد إلى السّماء لم تطأ قدمه الأرض.
تربط النّهاية الماضي بالحاضر وبالمستقبل، تربطنا بالعنوان، فيسوع ما زال يبحث عن حوارييه، ليتابعوا مسيرته بحثا عن تائبين.

 

*ملامح الحداثة في قصّة " يسوع يبحث عن حوارييه"*

1- مِن ملامح الحداثة في القصّة: المبنى الرّمزي المتكامل (Allegory)، وهو عبارة عن توظيف مجموعة متعدّدة من الإشارات والرّموز كي تشكّل مبنى رمزيّا.
2- التكثيف: من ملامح الحداثة في القصّة تكثيف المشهد ممّا يدعو القارئ إلى تفعيل ذهنه للتّحليل، النّصّ مكثّفٌ يقوم على فكرة واحدة – الخطيئة.
3- التّركيز على الحدث: دون الاهتمام بالتّفاصيل، لا نعرف شيئا عن المكان، عن النّاس، عن الجوانب الواقعيّة والحياتيّة للقائلين، فالتّركيز على الحدث يؤكّد محاولة النّص جعل الإنسان (النبي- يسوع) فكرةً لا إنسانا.
النّصّ يُبرز الفكرة على حساب الأشياء التي تقرّب النّص من الواقع. وهذا التّخطي المكاني يعطي إمكانيّة حدوث الحدث في أيّ مكان.
4- مِن ملامح الحداثة، الاتّصال والانفصال: فهي ليست انفصالا كليّا وليست اتّصالا كليّا، هي موصولة بالقديم وتتطلّع إلى المستقبل، الحداثة محاولة مستمرّة لتغيير ما هو موجود، لتخطّي الاستقرار. والتّمرُّد مِن سمات الحداثة.
5- الأدب الحداثيّ مشغول بتغيير آليّات الواقع، صراع الإنسان مع واقعه هو ما كان محور الأدب وهو ما نجده الآن وسيبقى إلى الأبد.
6- خلود النّص: هو اختراق الزّمن والتّحايل على التّاريخ ( الواقعيّة في النّصّ تحدّ من خلوده) بينما الرّمزيّة تتحايل على الواقع، يمكن بقاء النّص في حدود الفكرة فيتجاوز التّاريخ والجغرافيا.
7- النّصّ الحداثي هو " فلسفة نصّ السّؤال"- فالكاتب يبحث عن جواب مثله مثل القارئ. القارئ يشارك في عمليّة الكتابة.
8- الحداثة عبارة عن قوالب قديمة (الإنجيل)، بمضامين جديدة، فالفكرة على مستوى المبدأ. الكاتب الحداثي يحيي ما كان قد مات وانتهى زمانه، تجديد ما هو متأصّل في الذّاكرة الجماعيّة.
9- التّناص في القصّة قائم على استيحاء التراث الدّيني.  


 هوامش:


[1] العلاق، علي- الشّعر والتّلقّي، دار الشروق رام الله، 1997، ص 173.
[2] . زعبي أحمد- التّناص نظريّا وتطبيقيّا، مكتبة الكتاني، إربد- الأردن ص9.
[3] داغر،شربل – " التّناص سبيلا إلى دراسة النّصّ الشّعري وغيره"، فصول، المجلّد 16، العدد الأوّل، صيف 1997 . ص 123 .
[4] إنجيل يوحنا – 1:8 – 1:11 .
[5] مجموعة مؤلفين- اللغة والخطاب الأدبي. ص 41 .
[6] حمزة، حسين – صور المرايا – دراسات في الذاكرة الأدبيّة. ص2 نقلا عن جودت عز الدّين-شكل القصيدة العربيّة، ????? ?????- ???? ?????
[7] مجموعة مؤلّفين- اللغة والخطاب الأدبي. ص 44
8 تعتمد هذه المادّة على محاضرات د. إبراهيم طه- "الحداثة وما بعد الحداثة". جامعة حيفا 2004

راوية بربارة
السبت 19/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع