العالم يعيد اكتشاف جيفارا!



*"ما اصغر الدولة وما اعظم الثورة"*

في ثورة طلاب باريس 1968 حملت لافتات عليها صور غير معتادة، رجل بملامح وسيمة وطلة تشبه طلة المسيح لكن نظرات عينيه ليست خاشعة، ويبرق منها وميض حلم تكمن فرادته باستحالة قتله!
في عهد السادات حمل طلاب وعمال القاهرة شيئا من حلم جيفارا زادا لطريق ثورتهم التي ارادوا بها شيئا من العدل، فالتبس الامر على الحاكم وراح يسقط على الثوار شيئا من صفاته ـ ثورة الحرامية!
في مخيمات عمان واربد مجالس يحضرها جيفارا ـ بؤر ثورية، حرب عصابات ـ  اعطني مفرزة لثوار لا يزيد عددهم عن عدد اصابع الاطراف، مؤهلين مؤمنين بالحلم الذي سيأتي رغم انف الموت ورغم انف الجحافل المجحفلة، اعطيك شرارة متنقلة لثورة لا ينطفئ لهيبها الا برؤية الحلم على الارض بعينين يقظتين!
حضر مجالس الثورة في فيتنام والنيبال ونيكاراغوا وقيل انه كان في كتائب ثوار انغولا وموزمبيق وغينيا بيساو ومصر والجزائر، قيل انه حاور عبد الناصر ولوممبا وجياب، وقيل انه لمح لجورج حبش بشيء ما!
كان مولعا بالالمام بتضاريس الارض التي تعزف عليها انغام الثورة وكان حريصا على تمهيدها كما تمهد الناس، فالناس يشبهون الارض التي يعيشون عليها!
الثورة تتدحرج واحيانا تتعثر ولا تواصل تقدمها، المطبات والمنعطفات، والحواجز تستوقفها فتتراجع، من هنا فان مواصلة دفعها الى امام هو فن وصناعة ثورية شعبية، لا خامات لها غير جسد يتماهى مع روحه الواثقة من طريقها، ويوميات البحث كفيلة بالصهر والتعدين، والصقل والاستقطاب والترويج!
الثورة صراع ارادات وكلما كانت ارادة الثوار متلاصقة بحلمها كلما كان النصر حليفها، وارادة العدوتتآكل كلما صقلت ارادة الثوار باحتكاكات صادقة ومخلصة مع الاهالي!

 

*طاقة لا يستوعبها وعاء فانتشرت في كل الانحاء*

روحه حرة نادرة لم تقبل تقديس النصوص او الدول او الثورات الميتة، لم تقبل بالاقرار بالامر الواقع، روح متمردة على الاطر والمناهج الثابتة، فعنده الشيوعية نوع من المغامرة والتجريب واذا توقفت عن فعل ذلك فهي تعرض نفسها للموت البطيء، عنده الانسانية هي العلم والعلام والهدف والحزب، وهي لا تكون متحققة الا في انعدام الظلم وبكل انواعه، هو يختلف مع لينين في التعايش السلمي بين الانظمة الاجتماعية المتناقضة، ويتفق مع تروتسكي بضرورة جعل الثورة مستمرة استجابة لتناقضات الواقع المقلوب، يتفق مع ماو في ان الريف بحر المدينة وما ان تنجح في ركوب امواجه، ستفتح لك المدن ابوابها، الفلاحون المعدمون الثائرون صنو العمال والمثقفون وفي اتحادهم تشق الثورة عنان السماء.
كان قد تحاور مع المسيح وكسبه الى صف الثورة في ربوع امريكا اللاتينية فصار لا يبارحها. كان معجبًا بتحدي خوزيه مارتي وكاسترو لكنه لم يكن ضيق الحلم فلم تكن كوبا ضالته ولا حتى امريكا اللاتينية كلها، العالم كله بيته وعائلته ومسقط رأسه وطريق مسير قدميه!
كانت لا تفارقه المعادلات الاستفهامية، فاذا كانت الولايات المتحدة هي مدينة كبيرة، فان حديقتها الخلفية هي المسؤولة عن استمراراها بالحياة، وعليه بأي حق يعيش ابناء العم سام عيشة الاسياد وهنود القارتين اصحاب الارض واصحاب الخامات والخيرات المنهوبة يعيشون عيشة العبيد؟
لم يكن مؤطرا للقتال المؤدلج نصرة لشيوعية ما او يسارية ما او وطنية ما، كان يحتوي كل هذه الاطر ويخرج عنها ليندمج بها مع كل ملامح الزمان والمكان بحثا عن سبيل الخلاص الذي يعالج الاوبئة ولا يسكن آلامها.
الارجنتين بلاده وكذلك كوبا وبوليفيا والكونغو وفلسطين، لا تسأله عن عنوانه له كل العالم عنوان، لم يكن يقاتل رأس الافعى الأولى فقط وانما كل الافاعي القاتلة ـ ذات الاجراس التي تحتكر البراري والكوبرا التي تحتكر الغابات والافاعي البرمائية التي تحتكر البحر والنهر وما بينهماـ لم يكن باتيستا عدوه الوحيد ولا الجنرالات المزمنين في حكم بلاد الامزون والشركات المركبة العابرة للحدود والقابضة على تلابيب الهنود الحمر والكاكاو والنحاس والكوكايين، كل أكلة قوت البشر وبالتالي لحومهم اعداؤه، كل المستعمرين اعداؤه كل مصاصي خيرات الشعوب أعداؤه.
هو ليس من طراز الفلاسفة، رغم انه ثائر فيلسوف، وهو ليس من طراز الزعماء رغم انه ثائر وزعيم الثوار، لم يكن من طراز الاساتذة رغم انه معلم وشيخ الاساتذة، لم يكن من طلاب السلطة رغم قدرته على امتلاكها، لكن رسالة حلمه الابدي ان يقاتلها حتى الموت، وها هي روحه ترفرف على قلوب اهل المعمورة المبصرين ليواصلوا طريقه طريق اللا سلطة عبر افقادها الاهلية!

 

*لا يكسر شوكة الارهاب الامبريالي الا الارهاب الثوري*

ارهاب النظام الامبريالي هو أعلى مراحل الارهاب البشري واكثره جرما ووحشية وعلى مدى كل حقب ودهور التاريخ المليء ومنذ النشأة الاولى بالصراعات الفتاكة تلبية لاحتياجات البقاء والمنافسة على مصادر الرزق، حتى غدا هذا ناموسًا طبيعيًا له بداية وليس له نهاية، واصبح هو ذاته مسؤولا عن الوفرة والرخاء لفريق دون الآخر، وفيه يكمن سر المعاناة والشحة والبؤس لدى الاغلبية الساحقة، والاستحواذ والتملك وتسخير الكل  لخدمة الجزء والاكثرية في طاعة الاقلية!
اصبح الارهاب الامبريالي تحولا نوعيًّا في مسيرة ما قبله من حقب ـ العبودية والاقطاع ومرحلة المزاحمة الحرة من الرأسمالية ـ فهو ارهاب يستعدي البشر وحاضنتهم الطبيعية البيئة وتوازناتها، انه موجه موضوعيا ضد الحضارة الانسانية وضد الوجود الحي على كوكبنا، فهو متفوق بالاسلحة الكونية الفتاكة وهو لا يكل عن العبث بكل انظمة التوازن القائمة في اليابسة والماء والهواء وحتى في الذات الجينية للبشر والاحياء قاطبة!
النهج الجيفاري يبحث عن المبادرة لايقاف الاخلال الامبريالي المتعاظم في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية للبشرية جمعاء، ولا يجد سبيلا الا بالتصدي الحازم له، من خلال مقاومته والثورة بوجهه وارهابه دون انقطاع لاجباره على الانكسار والرضوخ للارادة الانسانية السوية، النهج الجيفاري يعول على بذر الثورة في كل الاصقاع وفي اوقات استباقية متواترة ومباغتة.
النهج الجيفاري يعتبر النظام الكولونيالي القديم والجديد شكلا متقدمًا من اشكال الارهاب الاحتكاري بالضد من ارادة الشعوب قاطبة، ويعتبر الحرب العالمية الاولى والثانية والحرب الباردة اعراضًا للحالة المرضية التي يعيشها النظام العالمي المستند على احتكار وتقديس الملكية الخاصة والتقسيم غير العادل للعمل والثروة، فابادة اكثر من 60 مليون انسان وخلال فترة عقدين وبضع سنين دليل مادي صريح على الكارثة المحدقة التي حلت والتي سيزيد حلولها من الارقام الفلكية للموت والسفح والتدمير والخراب، ما لم تضع الشعوب ومناضلوها وثوارها حدا قاطعا لها!
النازية والفاشية والعنصرية بكل اشكالها المستحدثة والمطورة ـ الابارتهايد، والارية، والصهيونية، وتفوق اللون الابيض ـ هي وليدة موجات وتيارات ارهابية ملازمة لنهج الهيمنة وعولمة الظلم وتركيزه!
حروب الاستعمار في فيتنام والجزائر وفلسطين وجنوب افريقيا وامريكا اللاتينية هي صيغة حداثية للقرصنة في ظل قانون شريعة الغاب السائد!
الارهاب الثوري هو المعادل الاذكى وهو الواقي من مستقبل مظلم مجهول، باستنزاف الغول الامبريالي وتعميق جروحه الكثيرة وتفجير ينابيع البؤر الثورية يكون الردع حافزا لتراجع الغول وتقهقره.
جبهة ثورية شاملة للمظلومين والمتضررين والمستعبدين والمحرومين  واصدقاء السلام الحقيقي واصدقاء البيئة كفيل بجعل الثورة طريقًا ممهدًا للتغيير الخلاق نحو انسانية متوازنة ومنسجمة مع ذاتها ومع تطلعاتها المشروعة.

 

*جيفارا لم يمت ولم تنقطع اخباره*

ولد في 14 حزيران عام 1928 ترعرع في وسط مرفه من بيوت الارجنتين المستقرة، درس الطب وتخرج عام 1952 وعمل في اوساط الفقراء، كان متميزا بروحه الشفافة وحماسه وحبه للحياة، لم يكن ينساب مع عالمه المحيط، فكانت هناك بدواخله تعتمل عوامل من نوع آخر وصلت الى ذروتها في تجاوزه لكل نداءات الترف والدعة، راح يعيش حالة انفكاك عن عالمه الذي وجد نفسه فيه الى عالم آخر اختاره هو، هل مناصرة المضطهدين مغامرة؟ هل عصيان نهج ـ النعام ـ بوضع الرأس بالرمال كي لا ترى الحقيقة، تطرف؟ واذا كان الجواب نعم، فسجل ان جيفارا مغامر متطرف!
هكذا كان روبن هود وهكذا كان المسيح وهكذا.. وربما هكذا كان غلغامش!
مثله مثل الاساطير لا يستوقف انتقالها بل فل طيرانها اختلاف الازمان والمواسم والامكنة!
جيفارا زهد بالحياة الهادئة المستقرة لصالح هاتف في داخله، غادر المدينة التي يحب من اجل عالم اراده يتكحل بالحب الكبير، الحب الذي لا انانية فيه ولا نرجسية ولا طمع او جشع التملك!
غادر نوافذ الشعر ليطرق ابواب عالم شاعر كله، غادر الدولة التي كان هو فيها اكثر من وزير، لفضاء الثورة وروحها الحرة التي تحكم ولا تملك، اراد ان يفك الحصار عن دولة الرفاق في هافانا بمحاصرة الحصار، اراد ان يتسع الحلم ويتمدد لا يتقوقع ويتبدد، ما اصغر الدولة وما اعظم الثورة، لم تكن الدولة لديه حلمًا، حلمه ان يكون الكون كله دولة لا حاكم فيها غير حكم الجمال والاندهاش!
عام 1967 كان على موعد مع التسامي، كان على موعد مع التحليق الابدي، حتى قاتله خشع من لحظة الفراق، جيفارا كعادته لم يستغرب اللحظة وراح يستعجلها لتنجلي فصولها متسلسلة كما ارادها هو!
قال وظل يقول حتى الان، فصار قوله اشد من وقع سيمفونية دقات القدر، فعل وظل فعله وسائل انتاج لاعمال لا يفعلها الا المتسامون، قال:
"انني احس على وجهي بألم كل صفعة توجه الى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وجد الظلم فذاك هو وطني"، وقال:
"الثورة قوية كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان، عميقة كحبنا الوحشي للوطن.. لا يهمني متى واين سأموت لكن يهمني ان يبقى الثوار منتصبين ويصدحون في الارض ضجيجا كي لا ينام العالم بكل ثقله فوق اجساد البائسين والفقراء والمظلومين..".
ختمت النبوة السماوية لكن النبوة الثورية لا تختم، فجنتها ونارها على الارض وحادي عيسها الهاما ورمزا لا يأفل ابدا قيامتها جيفارا وحشرها حشره وميزانها ميزانه!
تبرع العشاق والمريدون وفقراء مسقط رأسه بما امكنهم من نحاس ـ كامن في مفاتيحهم القديمة او ادوات مطابخهم ـ لصنع تمثال شاهق القامة للحبيب الذي لن يغيب أبدًا فكان تمثاله سبيكة برونزية فيها ألوان مريديه!
في الذكرى الثمانين لميلاده رأيناه ثانية، لم يتغير أي شيء في ملامحه التي عرفناها منذ 1967، التقيناه هذه المرة وكان جيفارا قد سبق الجميع في دخول معظم الاقسام الداخلية لطلبة الجامعات في العالم، وكانت صوره مرسومة على جدران معظم العواصم والاحياء، وكان سباقا في المداومة على حضور احتجاجات حركات اليسار والخضر ومعارضو العولمة الامبريالية.
جيفارا الآن
جيفارا كان
جيفارا يكون
الهواء مسكون به
والضمائر،
الحب لا يعرف الركون
الثورة تكره السكون
ما خاب ظن الناس في تلك العيون.

جمال محمد تقي
الأحد 20/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع