-"غزالة" ابنة البرية-



(قصة من القرن الماضي) 

اغلى من الروح كانت،  بالنسبة لوالدها، وأعز من الهواء الذي يتنفسه،
"غزالة" الطفلة الحسناء، مثل ملاك صغير! ترافقه الى الحقول في احايين
كثيرة ، وخصوصًا عندما يكون الطقس لطيفًا، لأن عودَها الغض لا يحتمل قسوة الطقس او غيرهِ!
وحيدة والديها كانت، حتى سن الثانية عشرة، تركض خلف الفراشات الملونة بالوان ساحرة، فرحة هي والفراشات بجمال الربيع، فيضحك والدها ويساعدها في الامساك بفراشة جميلة، تحبسها بين كفتي يديها، دون ان تؤذيها، ثم تطلقها ثانية الى سمائها، لتبتعِِد مرفرفة بجناحيها الرائعين، منتشية بحريتها!
اما في مواسم الصيد، فقد كان والدها يصطحبُها الى الأدغال والأحراش، ليصطادا بعضا من الطيور بالفخ الذي صنعه من عظام الحيوانات، خصيصًا لغزالته الجميلة المدللة! وكان يغني لها الأشعار مُعبرًا عن محبته لها وتعلقة بها!
كان الوالد حداءً، يحيي الافراح والاعراس، يحفظ الاشعار، والكثير من القصص الشعبية، ذكيًا سريع البديهة يرتجل الكثير من الاغاني التي كان ينشدها في الاعراس ارتجالا، كريمًا الى درجة غريبة، مُحبًا للناس، فأحبه الجميع واحترموه!
أما الوالدة فكانت امرأة فائقة الجمال من عائلة عربية اسبانية، قدمت الى البلاد منذ بضعة قرون! كانت امرأة طويلة القامة جميلة القد، تجيد الحياكة والتطريز، والطهي وصنع الحلوى، وتعرف الكثير من الوصفات الشعبية للتطبيب ومعالجة الامراض! وكانت تعشق النظافة والترتيب، والازهار والورود! تملأ بها الاحواض المحيطة بساحة بيتها الواسعة!
عاشت العائلة ميسورة، من جد واجتهاد رب هذه العائلة، من احياء الاعراس والمناسبات، والعمل المتواصل في الأراضي التي يملكها!
مرافقتها المتواصلة لوالدها جعلتها تحفظ الكثير من الشعر، وتؤلف الكثير! وتحفظ القصص العديدة التي كان يرويها والدها لها!


تدليل والدها لها وتعلقها به، جعلها تبتعد عن والدتها معظم الوقت، فلا تتعلم منها شيئًا يفيدها عند الزواج!
الغزالة الصغيرة الحسناء، كانت اسمًا على مسمى! أغرم بها شبان قريتها، وبعض من رآها من شبان القرية المجاورة!
كان "نمر" طفلاً يتيم الأبوين، رباه بعض اقاربه، وكان وريثًا وحيدًا لوالده الذي امتلك قسمًا كبيرًا من اراضي القرية!
اصبح شابًا جميلا وكسولا، وبدأ ببيع الاراضي التي يملكها، او استبدالها، مرة بحصان واخرى ببقرة!
"نمر"، الشاب الجميل كان يتقن رقص الدبكة، وكان "الرويس" عادةً في حلقة الدبكة، سريع الطرب، يتمايل مع الانغام، لدى سماعه العزف على اليرغول، نشوانًا، فلقبه اهل قريته "الدرويش"، لسرعة طربه، وانسجامه في رقص الدبكة! وكانت حركاته الحماسية وغرته الظاهرة من تحت الكوفية البيضاء، تجنن الصبايا، فتتمنى كل واحدة ان تكون من نصيب "الدرويش"!!!
في السابعة عشرة كان "نمر" عندما وقع بصره على "غزالة" ابنة الرابعة عشرة – في احد الاعراس التي احياها والدها- فسحرته بجمالها! فأرسل،  في اليوم التالي،من يطلبها للزواج! ولم يجد والدها الكريم، بدًا من الموافقة على تزويجها! فالعريس جميل سليم الجسم وميسور الحال! ولم يكن الوالد يبخل على الناس بشيء يطلبونه منه! حتى ابنته لم يتأخر عن الموافقة بتزويجها عندما طلبها "الأجاويد" لقريبهم الشاب الجميل!
كانت والدة غزالة قد خاطت لها دمية من القماش محشوة بالصوف، وطرزت لها على الوجه، بخيوط التطريز الحريرية الرفيعة، عينين سوداوين، وأنفًا صغيرًا، وفمًا ورديًا، تمامًا مثل ملامح "غزالة"! واحبت دميتها (لعبتها) بجنون فتنام وهي تحضنها، وتحملها بين ذراعيها معظم الاحيان!
في أحد الايام أجلسوها فوق حصان ابيض اصيل، وهي محتضنة لعبتها، وقادوا الحصان الى بيت عريسها في القرية المجاورة!
أميرة على حصان ابيض جميل! تمامًا مثل القصص! لكن غزالة لا تعرف شيئًا عن الموضوع! وعن الزواج! والى اين هي ذاهبة؟!!
طفلة تُستَل من بين صويحباتها أثناء اللعب، وتساق الى بيت الزوجية! وشاب صغير، كل ما يتقنه في الحياة هو رقصة "الدبكة"! يتزوج اليوم!

-2-


خلافًا للبيوت الطينية التي امتلكها الكثير من اهل قريته! كان بيت نمر مبنيًا من الحجر! بناه والده، ولكنه توفي مبكرًا، بعد وفاة زوجته بسنوات قليلة، تاركين وراءهما اربعة اطفال: ولدًا وثلاث بنات!!!
لم تمر ايام قليلة، حتى عرفت غزالة انها قد طردت من الجنة......الى النار!!! من جنة والدها وتدليله لها – حتى بعد ولادة اخ واخت –الى نار زوجها، الشاب الجميل الأخرق، الذي لم يعرف كيف يتعامل معها! فكان الضرب، والضرب المبرح هو اللغة الاقرب اليه!!!!!
حتى عندما وَلَدت طفلها الاول، بعد اكثر من عامين من زواجها، لم يتغير شيء! وباءت محاولات الجارات تعليمها الطبخ وغسل الملابس، ولكنها كانت تكره كل شيء، وتحن الى جنة والدها! وعندما كانت تزور بيت والديها في القرية المجاورة كانت تبكي وتنوح في حضن والدها!
احبت اولادها بجنون! ورغم انها رزقت بأولاد كثيرين، الا ان ذلك لم يحسن من علاقتها بزوجها! فقد كان اخرقًا، سلبه الناس اراضيه بالغش والخداع! فبادلوه افضل اراضيه، بحصان قد شاخ، أو بقرة مريضة، أو اشتروها بقليل من المال.......وهكذا.......حتى أتوا على معظم ما كان يملك من اراض!
كانت "غزالة" تحب الارض مثل اولادها، وتحب اولادها مثل روحها واكثر! كان حبها للارض قصة عشق وهيام! وكان اسطوريًا!!!
تخاصم زوجها، وتوبخه أمام "الضيوف" الذين يأتون لسلب ارضه! فيشتمها ويضربها! في كل مرة كان زوجها "يبيع" أو يتنازل عن قطعة اخرى من الارض، كانت غزالة تذهب الى تلك الأرض لتفترشها، وتُعَفر رأسها بترابها! تشد شعرها نائحة.......وتنوح طويلا......حتى تُنهَك من الحزن والنواح...فيذهب اولادها في اثرها لإعادتها الى البيت!       
  وقد جَعَلَتها مَعرَكَتُها الخاسرَة للاحتفاظ بالأراضي، تفقد أعصابها! وأدى سوء معاملة زوجها وقسوته عليها، وضربه لها بشكل متواصل، أن تصاب بحالة من الجنون، فتهرب الى الجبال القريبة، تَنشُُدُ بعض الحرية والهدوء، في أحضان أمها الطبيعة، التي كانت دائمًا كريمة معها! صارت غزالة تغيب اسابيع بأكملها عن البيت! تأكل من الثمار والنباتات البرية او من الكروم المحيطة بالقرية! وكانت دائمة الهزال والمرض بسبب قلة اكلها، وطريقة حياتها!
كان قد تبقى قسم صغير من الاراضي التي يملكها "نمر" عندما تصدى له بعض اولاده الذين كانوا قد اصبحوا شبانًا، فاقتسموها بينهم بالتساوى،

-3-

ليمنعوا الوالد من الاستمرار"ببيعها" او خسارتها!
عاشت "غزالة" حتى كبر اولادها الكثر، وتزوجوا وانجبوا، عاشت وحيدة، بعيدًا عن زوجها : مرة في بيوت اولادها، واخرى في بيت صغير وبسيط بنوه لها خصيصًا لتبتعد عن التشرد في البرية! ولكن حتى البيت الصغير، قرب بيوت اولادها كانت تحيط به كروم التين والزيتون!
بمرور السنين تدهورت صحة "غزالة" اكثر واكثر وازدادت نحافةً وشحوبًا.....
موت أحد ابنائها الشبان، في حادث سير مأساوي، عجل من اجلها! كانت تقضي ساعات طويلة تتذكره وتبكيه! سنوات قليلة بعد موته، جفت دموعها، وجفت شرايينها، وقضت مثلما تسقط ورقة صفراء، مع قدوم الخريف!

حنان يوسف *
الأربعاء 23/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع