إعادة صياغة ليبرتاريّة المؤسّسين بعيون اليوم



*وصاية على أفكارنا في كليشيهات «مصباح الحريّة»*

«الخضوع في الأشياء الصغيرة يحدث كل يوم، وتشعر به الجماعة الواحدة كلّها من دون تمييز. هذا الخضوع لا يدفع الرجال إلى المقاومة، لكنه يعترض طريقهم عند كل منحنى، حتى ينتهي بهم إلى التخلّي عن ممارسة إرادتهم. وهكذا تنكسر روحهم تدريجيا وتضعف شخصياتهم»، كلمات لفيلسوف الاجتماع السياسي، أليكسي دو توكفيل، اختيرت من بحث بعنوان «أي نوع من الاستبداد ينبغي أن تخشى منه الشعوب الديموقراطية»، وذلك في طيّات كتاب «التشكيك في السلطة» الصادر عن «دار رياض الريس للكتب والنشر» في بيروت.
أهمية الكتاب أنه يندرج في سلسلة تتألف من سبعة كتب تحت عنوان «مفاهيم الليبرتاريّة وروّادها»، أصدرتها «الريّس» بالتعاون مع مؤسسة «مصباح الحريّة» التابعة لـ«معهد كيتو» في واشنطن. ووصفها الناشر رياض نجيب الريس بأنها عودة إلى ينابيع الفكر الإنساني الأولى.
تضع هذه المجموعة أمام القارئ العربي «مبادئ الفكر الإنساني الهادف إلى الحرية: حرية الفرد وحرية المجتمع». وتعرّفه على رواد الحرية في الفلسفة الاجتماعية والفلسفة السياسية والسياسة الاقتصادية.
يقول الناشر في تعريف المجموعة «الموسوعة» تحت عنوان «انهيار الأسوار»: لا بد للقارئ العربي أن يلمّ بكل هذا التراث الليبرتاري، فينتقي منه ما يريد، ويعيد تقييم نظرياته في السياسة والاقتصاد والمجتمع. وإذا كنّا اليوم نطرح في هذه الكتب السبعة مجمل الأفكار الليبرتارية لكبار فلاسفتها ومنظّريها، نأمل أن آفاقا جديدة من النقاش في الندوات والمجتمعات والمنابر، ستفتح الباب أمام إعادة النظر في مواقعنا الفكرية ومواقفنا السياسية.
لكن ينبغي التوقف هنا عند هوية المؤسسة الراعية لهذا المشروع «مصباح الحريّة»، التي تسير في ركب مشروع إعلامي دعائي، في إطار إمبراطوريّة أميركيّة كبرى تسعى إلى دس السم في الدسم من أجل تغيير مفاهيم شريحة من المثقفين ورؤاها، لا تزال تغرّد خارج سرب «الليبرالية» المتوحشة.
لا غبار هنا على تعريف المؤسسة لمفهوم الليبرتارية: فلسفة فردانية تحرّرية تؤيّد الاحترام التام لحقوق الفرد والقيود على سلطة الدولة. كما تؤمن الليبرتارية بأنه يجب أن يكون لجميع الأفراد الحريّة لفعل ما يريدون بأنفسهم وممتلكاتهم، ما دامت هذه الأفعال لا تنتهك حرمة حريّة الآخرين نفسها.
بناءً على ذلك، فإن الحريّة متساوية بين الأفراد من دون أن يكون لأيّ فرد حريّة تزيد عن أيّ شخص آخر. لكن الإشكالية تكمن في هذه الفوقيّة التي تتعاطى بها بعض المؤسسات الغربية مع مجتمعاتنا، على طريقة الوصاية التي تشعرنا بقصور في فهم القيم السياسية. مع العلم بأن هذه القيم هي وليدة حضارات متعددة وأطوار زمنية متلاحقة، كل منها أضاف للأخرى مفاهيم ثمينة وأفكارا خلّاقة.
وتضيف المؤسّسة الأميركية التي تعمل في سياق حملة منظمة للتغيير داخل المجتمعات «الهدف» على طريقة الثورة المخملية، أن «الليبرتاريين يعتقدون بوجه عام أنه يجب على الحكومات أن تتمسّك بالمعايير الأخلاقية نفسها كالأفراد. لذلك، فإنهم يعارضون معظم الممارسات الحكومية أو كلّها، حتّى وإن كانت مؤيَّدة بأغلبية ديموقراطية. وتمتدّ هذه المعارضة للإكراه أيضا إلى مجال الاقتصاد. إنهم يعارضون تدخّل الحكومة في الاقتصاد». من هنا تنبع ازدواجية المعايير في المؤسسات الإعلامية والثقافية الأميركية انعكاسا للممارسة السياسية. إذ تحاول هذه المؤسسات إغراء مؤسسات بحثية وثقافية ومنظمات مجتمع مدني في العالم الثالث للعمل معها، بغية خلق مناخات ملائمة لمرحلة تحقّق السيادة الرأسمالية. وبذلك تُغرس في حقلنا كليشيهات جميلة في بعدها الإنساني، تدغدغ مشاعرنا بـ«القيم» السياسية الفضفاضة، بغية السيطرة بالثقافة على ما خسرته في الحرب.
هذا لا يعني أن هذه المجموعة الثمينة من المساهمات بحدّ ذاتها، جزء من مؤامرة على مجتمعاتنا، فلندع الأوهام الإيديولوجية جانبا، لكن من دون أن نتغاضى عن دور هذه المؤسسات في خدمة المشروع الاستعماري.
بأي حال، تتناول سلسلة الليبرتارية نصوصا لشخصيات فكريّة، هي من أهم من وضع أسس الفلسفة الليبرتارية ومشتقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ممّا لا شك فيه أنّ هذه السلسلة رائدة في مجال اختيار مساهمات تصبّ جميعها في محاور مشتركة، تتفرّع جميعها من مفهوم الليبرتاريّة. لكن هذا لا يعني بأي حال أن هذه «الينابيع» الذي تحدّث عنها الريّس لا تتدفّق إلاّ بما هو مفيد. فثمة نظريّات عديدة ـــ ولا مجال لمناقشتها هنا في هذه العجالة ـــ هي عبارة عن فرضيات قابلة للمناقشة، كما هي كل العلوم الإنسانيّة التي تتميّز بنسبيّة صحتها وخطئها.
انطلاقا من هذه الرؤية النقديّة للأفكار، تفتح هذه المساهمات بابا لنقاشات مستفيضة عن المجتمع المدني والسلطة وما بينهما من قيم الحريّة والديموقراطيّة والتعدديّة، لا سيما أن هذه الخطوة تسهّل على القارئ العربي الوصول إلى رؤية فلسفيّة متعددة لمفهوم واحد في بضعة كتب، لا يثقل حملها كاهل قارئها.

معمر عطوي
الخميس 24/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع