محمود درويش والجمهور



في قراءاته الشعرية الأخيرة، خصوصا تلك التي قام بها في حيفا ورام الله، التحم محمود درويش بجمهوره، واستطاع أن يحقق درجة عالية من التناغم بين الشاعر والمستمع، بين صانع القصيدة ومتلقيها، خصوصا بعد أن توصل خلال السنوات القليلة الماضية إلى كتابة قصيدة تتلألأ فيها البساطة من دون أن تجردها هذه البساطة من أعماقها الدفينة وطاقتها الفلسفية الدالة على أبعد من سطوح الكلمات. الخاص في حالة درويش أنه لم يقيض لشاعر عربي معاصر غيره، سوى للراحل نزار قباني، أن يحوز هذه الجماهيرية فينافس في نجوميته المطربين ولاعبي كرة القدم، ولم يستطع شاعر عربي معاصر آخر أن يجمع في شعره بين القدرة على مخاطبة عواطف الجماهير الحارة والفنية العالية في قصيدة تبحث دائما عن ذرى جديدة في تطورها الفني.
محمود درويش دائم القلق في كتابته الشعرية، يحاول دائما تجاوز نفسه وتفتيح آفاق جديدة لتجربته الشعرية التي استيقظت على ضياع فلسطين، ومنذ ذلك الحين التصق الاسمان (فلسطين ومحمود درويش). إنه نجم في الكتابة الشعرية، ونجم في الإلقاء الذي يقطع أنفاس الجماهير ويلهب أكفها. يطل فتخفق قلوب الناس، وينشد فيصمت الناس للتعرف على عالمه الشعري الغامض، والشفاف في الآن نفسه. وهو أيضا محل رهان دائم على استقطاب جمهور متنوع الذائقة، فيه من يلتقط من القصيدة الشعار، وفيه من يريد سماع القصائد التي تبعث إليه إشارات رمزية تثير في نفسه ذكريات السياسة والمصير، كما أن فيه من يجيء ليسمع شعرا خالصا لوجه الشعر. استطاع درويش أن يحول لغته إلى وطن متخيل للفلسطينيين والعرب على السواء. وفي شعره يعثر محب الشعر على ضالته، على أحلامه الضائعة، ووطنه المسروق، وزمانه العربي المخذول، وحلمه بمستقبل آت.
لعل هذه القدرة على الاستجابة لمتطلبات اللحظة، في الوقت الذي يطور الشاعر تجربته الشعرية ويعمق بحثه في معنى الوجود، هي التي جعلت درويش يحظى لا بإعجاب الجماهير فقط بل بمحبتها كذلك. إن معادلة النخبة - الجماهير تذوب حدودها في شعره، وذلك من خلال الإشارات والرموز ذات الظلال والمعاني المباشرة التي يظن القارئ، أو المستمع، أنه يعثر عليها في نصوص الشاعر. لكن نص درويش يرتحل في أعماق الكلام الذي يحتشد بطبقات تتراكم فوق طبقات من المعنى، وهو لا يسلم نفسه بسهولة الى القارئ أو المستمع، كما قد يظن هذا الأخير. إنه يسلمه طرف الخيط، يوهمه أنه يمنحه مفتاح مدينته السحرية فيبتهج المتلقي. لكن الشعر يحتاج إلى تأمل عميق ودربة في القراءة والاستماع ليقبض المرء على اللآلئ المختفية في الأعماق، ولآلئ شعر درويش مخاتلة ولكن لمعانها يخطف الأبصار.

فخري صالح
السبت 26/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع