قصة قصيرة
طـُب الجرة...



جلست "منى" مع ابنها على طاولة الإفطار، تحادثه بمواضيع شتـّى، فالمائدة تجمع العائلة، ومن خلالها كانت الأم تعرف كل ما يدور في أجواء المدرسة وبين المعلمين والطلبة وفي الحارة، وبدون مقدمات  قال ابنها أمير: أمي لن أتكلم مع ابن عمي بعد.
- لماذا؟
- لا يحافظ على الأسرار..
- ماذا فعل؟
- لقد أخبر أولاد الجيران عن اسم صديقتي وبعض الأشياء الخاصة بي..
- لا يهم يا ولدي.. هذا يحدث كثيرا بين الأولاد..
- ماذا أصابك يا أمي، أنت تقفين لجانبه وليس لجانبي!
-  لا أرى بما فعل سببا وجيها حتى تقاطعه!
- ولكنني لا افشي أسراره..
- عن أي أسرار تتكلم؟
- لا أستطيع أن أخبرك، فأنت كثيرة الكلام..
- أنا أمك.. ثق بي..
- هل تحافظين على السر؟
- بالطبع!
- أبن عمي في الصف الثامن.. صمت الولد قليلا وأضاف: لم "يبلغ" بعد؟؟
- هذا شيء طبيعي!
- هذا غير طبيعي يا أمي، أنا أعرف أولاد أصغر منه جسدا وسنا و"بلغوا" قبله.
- الأجساد تختلف عن بعضها البعض، هناك من يبلغ في سن الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة وهناك أناس يبلغون جسديا ولا يبلغون عقليا طيلة عمرهم!
- أمي، أنا أتكلم بجد!
- وأنا كذلك!
-  إذا، متى سأبلغ أنا؟
- ربما بعد عدة أشهر، أو ربما السنة القادمة هذا يتعلق بجسدك، أنت الآن ابن الثالثة عشرة وهذا هو الجيل المناسب للبلوغ!!
أجاب الولد مستهزئا: عدة أشهر .. السنة القادمة، هذا هو الجيل المناسب للبلوغ!!
- تماما!
- من المفضل أن تبقي على جهلك يا أمي..
- لا تتحدث مع أمك بهذه اللهجة؟!
- جاهلة جدا وأكثر من اللزوم..
- عليك أن تخجل من وصف أمك بهذه النعوت..
- يا أمي، أنا "أشبخ" منذ سنة!
- "أشبخ".. ما معنى "اشبخ"... ما هذه الكلمة الجديدة؟!
وعلى الفور تنبهت الأم إلى أن هذه الكلمة هي كلمة عبرية  تعنى القذف بعد بلوغ الذروة، غضبت من ابنها وانقضت عليه، تهزه بكلتا يديها صارخة: لماذا تستعمل كلمة باللغة العبرية، استعمل كلمة بالعربية؟
- أمي.. بالعربية بالعبرية بالانجليزية ماذا يهم.. المهم النتيجة، ثم ماذا يقولون بالعربية.. إذا كان هذا يرضيك؟
تريثت الأم قليلا وانتبهت إلى ما بدر منها وتصنعت الهدوء حتى تجد مخرجا من مأزقها: اللغة العربية غنية بالمفردات، شعرت الأم بالحرج ثم أضافت بنبرة حادة: ومن علمك هذه الكلمة؟
فأجابها: انه ابن صفي "رائد"..
- وكيف عرف "رائد" هذه الكلمة ولماذا يستعملها، ولماذا العبرية؟
- هل تحافظين على السر؟
- قلت لك الف مرة، نعم..
- إياك ثم إياك يا أمي أن تذكري شيئا أمام أم "رائد"..
- احكي وخلصنا..
- "رائد" الملعون هو أول واحد في صفنا بدأ "بالتشبيخ"، لقد أمسكته أمه وهو يشاهد فيلمًا إباحيًّا عن طريق الحاسوب وأشبعته ضربا وأقسمت ان تخبر والده، إذا أمسكت به ثانية.
- هل أم "رائد" تضرب أبنها؟ سألته وهي تشعر بدوار وأرادت انتهاز الفرصة لتجمع أفكارها وترتب حديثها، لاستدراجه واستجوابه..
- نعم يا أمي وهذه ليست أول مرة تمسك "رائد" متلبسا مستمتعا بمشاهدة الأفلام  الإباحية، ولكنها لا تتجرأ أن تخبر والده بذلك، لأنه سيقضي عليه.. سيوسعه ضربا.
- وكيف عرفت أنت، أن "رائد" "بيشبخ" (تأففت الأم) قصدي يبلغ الذروة؟
- هو علمني ذلك..
- ماذا قال؟
-علمني ذلك بالتفصيل...
- وماذا تتخيل عندما تقوم بذلك؟
-أتخيل بنت جميلة، رائعة في حسنها.
- ومن هي البنت التي تتخيلها، هل هي" وردة" صديقتك؟
- لا.. من أتخيلها لا يوجد لها وجه.
- ألا يوجد لها وجه، كيف يمكن ذلك؟
- وجهها غير مهم، المهم عندي جسدها ..

 

كانت نظرات الأم إلى ابنها عبارة عن مزيج من الحزن والغضب.. تمعنّت في زغب شاربيه الذي بدأ للتو بالنمو، وصوته الذي أصبح يخشن قليلا، وأنفه الأخذ بالتضخم، فما زال يخطو خطواته الأولى في عالم الرجوله، مودعا براءته، ولم يعد طفلها الصغير الذي ينام في حضنها. وما أثار سخطها، أن ما يهمه من المرأة هو من عنقها وما دون. ماذا كانت ستفعل، لو كانت لها بنت وتتحدث اليها عن نفس الموضوع؟ هل ستنهيها عن فعلها، أم ستستمع اليها. وما أجج فتيل غضبها، هو كيف تخطى ابنها مرحلة الطفولة دون أن تشعر به، وكيف سمحت لأبناء صفه بتثقيفه جنسيا، وهي غفلت عنه، وهل الثقافة التي حصل عليها من أبناء جيله صحيحة وكافية؟
أخذ المنطق يسيطر على أفكارها تدريجيا، فلم يسبق لها الخوض في مثل هذا الحوار مع ابنها، وهي التي أرخت العنان لنفسها قبل الزواج ولم تأبه لما قاله الآباء. وللحظة  تنبهت إلى أنها وقعت في فخ الأبوة.
أمسكت "منى" رأسها بيديها وشعرت بضغط قوي فوق جبينها، وعلى الفور، عاد إليها مشهد زوجة أخيها، التي لم تكن على ود معها، حين أبدت "منى" رأيها بصراحة عن دعمها لمنح الحرية المطلقة للشبان والصبايا قبل الزواج. فأجابتها زوجة أخيها والزبد يخرج من فمها غضبا: اسمعي  يا "جميلة الروح والنفس"، لتبقى أفكارك السامة لك ولا أريدك التفوه بهذه الأفكار امام ابنتي الوحيدة، ألا تعرفين؟ إن الفستان الأبيض هو رمز للعفة والطهارة، ومن المشين أن تلبسي أنتِ ثوب عروس، لأن أفكارك غير طاهرة مثل جسدك وروحك.. ابنتي سوف تتعلم في الجامعات الأمريكية والأوروبية، وستكون شهادتها بحجم هذا الحائط وغير مشرف لها أن تناديك باسم عمتي..
ابتسامة صفراء ارتسمت على شفتيها، وقالت في سرها: لن امنع ابنتي عما حللته لنفسي.
لكز الولد أمه وقال: أمي.. متأسف إن أحرجتك وأحزنتك.
تنهدت "منى" بأسف وقالت: لا تهتم يا حبيبي.. فقد أصبحت ابن الحياة، والحياة لا تقيم في منازل الأمس.

ميسون أسدي
السبت 26/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع