قاطع التذاكر في عزلته



هل هذا هو؟ أم هو آخر يشبهه؛ سأقترب منه أكثر؛ يا إلهي، إنه هو تماماً، تراجعت إلى الخلف، من سيصدق أن هذا هو (أبو محمد) حارس جنتي (السينما) وقاطع تذاكرها،؟ أين عيناك القويتان
الـمليئتان بالألوان والفاكهة جنباً إلى جنب مع الحديد والألـم يا حارس جنتي؟. كنت في أوائل العقد الثاني الـمبكر من حياتي، ابن مخيم فقير وحالـم، لا أدري عمّ كنت أبحث، لكني كنت أعتبر أفلام السينما حياتي الكاملة والبديلة، الأخرى، "التي يجب أن تكون، حياتي العلوية الأصلية الحقيقية، لكن خللاً ما أبدلها بحياتي الصرصارية هذه الهشة الـمثقلة بالواجبات والتوقعات" لدرجة أن نهايتها كانت تجعل عيني تدمعان، كنت أحلـم بمشاهدة فيلـم لا ينتهي، طويل جداً، فيلـم يستمر عشرين أو خمسين عاماً، أظل مسمّراً أمامه، بلا طعام أو بيت أو أصدقاء أو مدرسة، عائشاً أحداثه كأنها أحداثي ومتماهياً مع حيوات أبطاله كأنها حياتي وحيوات أصحابي، الخروج من السينما كان يعني عودتي إلى سجني.
بمجرد أن يوافق أبي على إعطائي ثمن تذكرة بعد إلحاحٍ بكائي طويل، كنت أعرف أن قراراً بالإفراج الـمؤقت عني قد صدر، ولـم أكن أفهم كيف يصدر قرار آخر بعد ساعتين أو أقل بعودتي إلى السجن، كانت تذكرة أبو محمد هي بمثابة مرسوم أو شهادة الإفراج عني، كان حارس سعادتي بالفعل فإما أن يخنقها أو يطلق سراحها، ففي حالات كثيرة لـم يكن أبي يعطيني أثمان الإفراجات عني، مدعياً أنني متطلب جداً، فأضطر إلى التوسل أمام مدخل السينما إلى أبي محمد : "عمي أبو محمد، كل أصحابي دخلوا، أنا ضيعت مصاريي خليني أدخل، مشان الله". وكانت مجرد نظرة سريعة وقصيرة من طرف إحدى عينيه الرعديتين، كفيلةً بإبعادي إلى الشارع، بعيداً عن مدخل السينما، فأحاول الـمطالبة بالإفراج مرةً أخرى، مستعيناً بدموعي وصوتي الـمخنوق؛ فتهب على جسدي صرخة أبي محمد كالإعصار: بحكيلك اطلع براااااااا يا ولد. لـم يكن أبو محمد يعرف أن "برا" تعني لي "جوا"، أي السجن، "برا" كانت الحياة ــ السينما التي يمنعها عني الآن، آه لو كان حارسي الفاتن الـمخيف يعرف فقط سر هذه التشكيلة الـمعقدة والغريبة من ثنائية الحياة والسجن في أعماقي الضحلة والعكرة آنذاك!؟.
الآن أبو محمد أمامي تماماً عجوز ثمانيني نحيل، متعتع شبه أعمى، محني الظهر، يحمل في يده كيس دواء، يقف مع العشرات من الذين كنت واحداً منهم، في طابور طويل بانتظار طبيب الصحة، كانت الكلـمات تكاد تخرج من دموعي الـمخبأة بعناية في ورق سولوفاني مقوى في قلبي، كنت أحسّها تتحرك باتجاه هذا الظهر الـمحني الهزيل لتحطّ عليه كفراشات شابة غاضبة محتجة تطالب برصيدها الـمشروع من الفضاء القديم الذي حجبه هذا الرجل عن حياة أجدادها، فجأة وقبل أن تصدر عني أية كلـمة، رأيته يدير رأسه ببطء شديد تجاهي ويقول لي بصوت واهن دون أن يتمكن من رؤيتي: "شو اسم الدكتور اللي جوا يا ابنيي؟ بقولوا ما في حدا لسا جوا،" حارسي العجوز نطق كلـمة "جوا" مرتين، كان يتحدث عن الطبيب، أما أنا فقد قرأت في الكلـمة الـمكررة مرتين علامةً على مكر أو صدفة الزمن وهو يعيد ترتيب أو بعثرة ثنائية الـمرض والحياة، كما رتب أو خلخل في السابق ثنائية الحياة والسجن لي. "عمو أبو محمد كل أصحابي دخلوا جوا، أنا ضيعت مصاريي خليني أدخل مشان الله". هل خرجت مني هذه الكلـمات مرة أخرى أمام هذه القامة الـمتكسرة؟ هل همستها همساً؟ لـم أعرف بالضبط لكني كنت حانقاً أمام صوت منظم الطابور الشاب وهو يصرخ علينا: "صفوا في الطابور ما في حدا بدخل بدون دور"، أما ذروة انفعالي غير الـمحددة طبيعتها فقد كانت حين سمعت القامة الـمتكسرة وهي تنطق موجهة كلامها الـمحطم إلى منظم الدور الشاب: "يا ابني مشان الله، أنا مريض كثير وما معي مصاري أشتري دوا أرجوك دخلني عَ الدكتور هلكيت".
 
zkhadash1@gmail.com
زياد خداش
الخميس 31/7/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع